صدر الكتاب الثاني من مجموعة مؤلفات الدكتور دريد بشرّاوي عن أصول المحاكمات الجزائية في دار نشر " صادر ناشرون" بعنوان: أصول المحاكمات الجزائية: دراسة مقارنة حول القضاء الجزائي اللبناني في القانونين اللبناني والفرنسي.
يتألف هذا الكتاب الذي أصبح في المكتبات من 1264 صفحة ويعالج مسائل إجرائية شائكة تتعلق بتنظيم المحاكم الجزائية، وباستقلال القضاء اللبناني عن السلطة السياسية، وبالأصول الإجرائية المطبقة أمام المحاكم الجزائية العادية والمحاكم الجزائية الاستثنائية كافة. ويقسم الكتاب إلى قسمين أساسيين: يعالج الأول بتفصيل شامل ودقيق مسائل تنظيم القضاء الجزائي، والقواعد الأساسية التي يقوم عليها التنظيم القضائي، واستقلال السلطة القضائية إزاء السلطة السياسية وإزاء المتقاضين، وتصنيف القضاء الجزائي إلى قضاء عادي والى قضاء استثنائي، ووظائف قضاء الملاحقة وقضاء التحقيق وقضاء الحكم، والإجراءات والأصول المطبقة أمامهم، وتنظيم القضاء العسكري، ودراسة القواعد والإجراءات المطبقة أمامه وأمام المحاكم الاستثنائية الأخرى كمحاكم الأحداث والمجلس العدلي والمجلس الأعلى.
أما الباب الثاني فيتطرق إلى موضوع الاختصاص الجزائي والى القواعد العامة التي تحدد هذا الاختصاص بالنظر إلى صفة المدعى عليه أو بالنظر إلى طبيعة الجريمة أو بالنظر إلى مكان وقوعها. كما يتناول مسألة الخروج على القواعد العامة للاختصاص الجزائي، وحالات امتداد هذا الاختصاص ( الترابط الجرمي )، والمسائل الأولية والطارئة، وآلية نقل الدعوى والتنازع على الاختصاص.
١٦/١٠/٢٠٠٦
٢٧/٧/٢٠٠٦
حرب إسرائيل على لبنان: انتهاك فاضح وخطير للقانون الدولي الإنساني ولحقوق الإنسان
حرب إسرائيل على لبنان: انتهاك فاضح وخطير للقانون الدولي الإنساني ولحقوق الإنسان
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
أستاذ محاضر في القانون الجنائي الدولي وفي القانون الجنائي العام والإجراءات الجنائية في كلية الحقوق والعلوم السياسية التابعة لجامعة روبير شومان- فرنسا
محام عام أسبق- محام بالاستئناف
- تعريف القانون الدولي الإنساني والنزاعات المسلحة
يُعرّف القانون الدولي الإنساني، الذي يسمى أيضا قانون " النزاعات المسلحة"، بأنه مجموعة المبادئ والقواعد التي تحمي في زمن الحرب الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية أو الذين كفّوا عن المشاركة فيها والتي تحد من استخدام العنف أثناء الحرب أو من الآثار الناجمة عنها تجاه الإنسان عامة. ويعتبر هذا القانون فرعا من فروع القانون الدولي العام لحقوق الإنسان، غرضه حماية الأشخاص المدنيين في حالة نزاع مسلّح وحماية الممتلكات والأموال والمنشآت التي ليست ذات طابع عسكري، وهو يسعى إلى رفع أي اعتداء عسكري عن السكان غير المشتركين بصورة مباشرة أو الذين كفّوا عن الاشتراك في النزاعات المسلحة مثل الجرحى والغرقى وأسرى الحرب. وكان قد انطلق القانون الدولي الإنساني باتفاقية " جنيف" الأولى سنة 1864 التي تلتها عدة اتفاقيات وبروتوكولات هامة في هذا الحقل. هذا مع العلم أن النزاع المسلّح الدولي ينشب بين القوات المسلحة لدولتين على الأقل، أما النزاع المسلّح غير الدولي فهو المواجهة العسكرية التي تحصل داخل إقليم دولة معينة بين القوات المسلحة النظامية وجماعات مسلحة يمكن التعرّف على هويتها، أو فيما بين جماعات مسلحة غير نظامية. وتحكم قواعد القانون الدولي الإنساني النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية على السواء.
- النصوص الدولية المنتهكة.
وبغض النظر عن موضوع صدقية الذريعة التي على أساسها تمكنت دولة إسرائيل من شن حربها المدمرة على لبنان ( عملية خطف جنديين إسرائيليين)، ومن دون الخوض في مسألة شرعية عمل المقاومة " الإسلامية" في لبنان وفي ما إذا كانت هذه المقاومة تعبّر فعلا عن إرادة الشعب اللبناني، كل الشعب اللبناني، أو ما إذا كانت مسيرة بمشاريع إقليمية وعلى الأخص إيرانية وسورية، فان استهداف الهجوم الإسرائيلي البربري أولا وآخرا وبصورة متعمّدة المدنيين الأبرياء والآمنين والبنى التحتية والاقتصادية في هذا البلد يناقض بشكل فاضح وصارخ القانون الدولي الإنساني ولاسيما الاتفاقيات والصكوك الدولية التي ترعى النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية وقواعد الحرب ويؤسّس جرائم حرب خطيرة يعاقب عليها القانون الدولي الجزائي.
وبالفعل فان القانون الدولي الإنساني يحظّر هذا العنف المستمر والممارس على المدنيين من أطفال وشيوخ ونساء بصورة منظمة ومنهجية، كما تحرّمه كل الديانات السماوية في حدود تحقيق العدالة في صراعات أو مواجهات يكون الهدف منها رد الظلم والطغيان والدفاع عن النفس والحياة والممتلكات مع "احترام الإنسانية في الإنسان البريء الذي أجمعت الأديان كلها على "ومضة عزة الله" في خلقه وتكوينه" ( الدكتور العميد علي عوّاد: قانون النزاعات المسلحة، دليل الرئيس والقائد، دار المؤلّف، 2004 ، ص 17 وما يليها). وبالإضافة إلى ذلك فإن الحضارات كلها تجسّد هذه القيمة الإنسانية وترفض الظلم الذي يكمن في إيقاع الأذى بغير وجه حق وعدل بواسطة أسلحة مدمرة ومحظورة دوليا. ذلك إن الهدف من "الحرب العادلة" هو وضع حد لاغتصاب حقوق الشعب وليس ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية ضد شعب آخر والخروج على تقاليد الأديان والقيم الإنسانية وقواعد القانون الدولي الإنساني. ومن هذا المنطلق بالذات، وبالتأسيس على هذه القيم والقواعد، فان قانون النزاعات المسلحة ( القانون الدولي الإنساني- قانون الحرب) يهدف أساسا إلى حماية الإنسانية وحقوق الإنسان من خلال القوانين والاتفاقيات والمعاهدات والمواثيق الدولية التي تحدد قيود استخدام القوة العسكرية في النزاعات المسلحة والتي ترتكز خصوصا على المبادئ الإنسانية والأعراف الدولية المستقرة والمعترف بها دوليا. ومن أهم هذه النصوص الدولية :
- اتفاقية " جنيف الأولى" لسنة 1864.
- إعلان سان بطرسبرغ لعام 1868 لحظر القذائف المتفجرة.
إعلان لاهاي لسنة 1899 حول قذائف " دم دم " والغازات الخانقة.
اتفاقية " لاهاي" لعام 1907 وهي تتضمن نصوصا أساسية تضع ضوابط وقواعد وأصول مهمة للنزاعات المسلحة، إذ أنها تهدف إلى تنظيم وسائل حل النزاعات بين الدول بالطرق السلمية والى وضع قيود على استخدام الأسلحة في النزاعات المسلحة البرية والبحرية.
اتفاقية هيج لعام 1907 التي تتضمن قواعد مهمة تتعلق بمفهوم الحياد وبمفهوم الاحتلال وبكيفية إدارة العمليات الحربية. يشار إلى أنه أضيفت على هذه الاتفاقية قواعد الحرب الجوية التي وضعت مسودتها في العام 1923 من دون أن تعتمد بشكل رسمي حتى الآن.
بروتوكول جنيف بشأن تحظير استعمال الغازات السامة والأسلحة الجرثومية لعام 1925.
ميثاق الأمم المتحدة.
اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949.
اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية المواقع الثقافية في زمن النزاعات المسلحة.
اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية لعام 1972 .
اتفاقية أوسلو لمنع استخدام بعض الأسلحة.
اتفاقية باريس لتحظير استعمال الأسلحة الكيماوية.
اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1980 بشأن حظر أو تقييد بعض الأسلحة التقليدية.
البروتوكولان الإضافيان لاتفاقيات جنيف الأربع الموقعان في العام 1977 لاستكمال الحماية التي تضمنها اتفاقيات جنيف لعام 1949 في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية ( أي النزاعات المسلحة الداخلية). ويذكر أن موضوع الاتفاق الأول ضحايا النزاعات المسلحة الدولية، وهو يتضمن اعتبار حروب التحرير الوطني نزاعا دوليا مسلحا. ويعترف هذا البروتوكول لمقاتلي حرب العصابات بصفة المقاتل وصفة أسير الحرب ويهتم بالسكان المدنيين وصيانتهم وتجنيبهم تبعات النزاع المسلح أثناء العمليات العسكرية بهدف الحد من الأخطار التي تحدق بهم في زمن الحرب، أما البروتوكول الثاني فيعرّف النزاع المسلّح غير الدولي ويدعّم الضمانات الأساسية لغير المقاتلين وتقديم الخدمات اللازمة لمساعدة الأسرى.
اتفاقية أوتاوا لعام 1997 لمنع استخدام الألغام ضد الأفراد.
ومن بين هذه النصوص، تؤلّف اتفاقيات جنيف المصادق عليها سنة 1949 والبروتوكولان المضافين عليها في سنة 1977 واتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية المرتكز القانوني الأساس للقانون الدولي الإنساني المطبق على النزاعات المسلحة وللقضاء الجنائي الدولي الدائم ( المحكمة الجنائية الدولية التي أنشئت بموجب اتفاقية روما لعام 1998 والتي بدأت العمل منذ تاريخ الأول من تموز سنة 2002 ).
- حق الدفاع عن النفس المنصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة لا يبرّر ضرب المدنيين.
يتبيّن من خلال تمحيص نصوص الاتفاقيات والصكوك الدولية المذكورة أعلاه أن الحرب المدمرة والمبرمجة التي يشنها الجيش الإسرائيلي اليوم على لبنان والتي ينتج منها قصف المدنيين الآمنين وتشريد مئات الآلاف منهم وضرب البنى التحتية والاقتصادية في هذا البلد من دون التركيز أولا وأساسا على الأهداف العسكرية لحزب الله ومن دون التمكّن حتى الآن من ضرب أي موقع عسكري تابع للمقاومة، تشكّل خرقا فاضحا لقوانين النزاعات المسلحة وللمبادئ العامة والأعراف التي يقوم عليها القانون الدولي الإنساني وان كانت إسرائيل ترتكز في حربها الضروس هذه على مبدأ حق الدفاع عن النفس المكرّس بنص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. ذلك أن ضخامة واتساع العمليات العسكرية التي تنفذها إسرائيل في لبنان منذ عشرة أيام يثبت تخطيها لحق الدفاع عن النفس المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة من حيث استهداف هذه العمليات بالدرجة الأولى وبشكل منظم ودائم المنشآت والبنى المدنية والجسور ودور العبادة والمدنيين الذين لا تربطهم بالمقاومة أي صلة عسكرية والذين لم يمدوا يد العون لمقاتلي المقاومة، ومن حيث استعمال الجيش الإسرائيلي لكم هائل ومخيف من الأسلحة المدمرة والمتطورة وحتى بعض الأسلحة التي تحظرها الاتفاقيات الدولية. ومن هنا، يتأكد بوضوح أن إسرائيل تخرق أحكام المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تعترف بحق كل دولة بالدفاع عن نفسها إما بشكل فردي وإما بشكل جماعي، وذلك لعدم تناسب وسائل الدفاع التي تستعملها مع خطورة الاعتداء الذي وقع عليها ( خطف الجنديين)، هذا إذا كان هناك فعلا من اعتداء. وعليه، لا يمكن التسليم بأن العملية المدمرة التي تقوم بها تستند إلى حق الدفاع عن النفس، إذ أن هذا الحق لا يقوم إلا في حال كانت وسيلة رد العدوان متناسبة مع حجم خطورة وقوة العدوان الواقع. يضاف إلى ذلك إن نص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة يضع لزاما على الدولة التي تستعمل حق الدفاع بأن تبلّغ مجلس الأمن فورا "بعملية رد العدوان" أو بإجراءات استعمال حق الدفاع، على أن لا يحول هذا الدفاع عن النفس دون تمكّن مجلس الأمن من القيام بالإجراءات التي يراها مناسبة من أجل الحفاظ على السلم والأمن الدولي تطبيقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ويلاحظ، في هذا السياق، أن مجلس الأمن الذي يقع على عاتقه موجب حفظ الأمن والسلم الدوليين وفقا لما ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة لم يبادر بعد إلى اتخاذ قرار بوقف شامل لإطلاق النار في وقت ترتكب فيه إسرائيل مجزرة بحق اللبنانيين المدنيين وجرائم حرب خطيرة يعاقب عليها القانون الدولي الجنائي وتشرّد مئات الآلاف منهم وتدمّر البنى التحتية للبنان بشكل وحشي.
لذلك فان هذا الموقف الصامت يدل على أن العدالة الدولية تكيل بمكيالين وان هذه العدالة هي عدالة القوي ضد الضعيف، وعدالة التسلّط والهيمنة والاحتلال ضد حق الشعوب في الحرية وتقرير المصير. وهذا الواقع الأليم يثبت أيضا أن المجتمع الدولي يقف دائما موقف المتفرّج عندما يتعرّض لبنان لاعتداء ما رغم هول وشراسة الاعتداء. فلبنان محكوم عليه بأن يكون دائما ساحة لتنفيذ المشاريع الإقليمية ولتصفية الحسابات والصراعات الإقليمية والدولية وبأن يكون حقلا لتجارب الأسلحة ولعرض العضلات العسكرية على حساب اقتصاده وأمن سكانه وبناه التحتية التي دمّرت بفعل هذه الحرب البربرية التي تشنها إسرائيل على المدنيين. كل هذا يتم وللأسف أمام أعين المجتمع الدولي الذي يقف موقف المتفرّج أو العاجز، مما يشجّع المعتدي على الإمعان في اعتداءاته وفي انتهاكه لكل القواعد والمبادئ الأساسية لقانون النزاعات المسلحة ( أولا) ولكل الاتفاقيات والمواثيق المعنية بحماية حقوق الإنسان ( ثانيا).
أولا: انتهاك القواعد والمبادئ الأساسية لقانون الحرب أو النزاعات المسلحة.
إن الحرب الحالية التي تقودها إسرائيل ضد لبنان والتي باستمرارها على النحو البربري والوحشي الذي تعتمده أساسا لنجاحها وذلك بالقضاء على أكبر عدد ممكن من المدنيين العزّل والأبرياء وبتهديم ما أمكن من المنشآت المدنية والجسور والبيوت، تشكّل انتهاكا فاضحا للعديد من القواعد والمبادئ الأساسية التي تحكم النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، إذ أنها تخالف مبدأ الضرورة في اللجوء إلى استعمال القوة والحل العسكري، ومبدأ التقيّد بحدود دولية معينة لاستعمال وسائل القتال، وموجب تحييد المدنيين ومبدأ تناسب الوسيلة العسكرية المستعملة مع حجم الاعتداء أو الخطر المحدق بالجهة التي تلجأ إلى القوة من أجل حل نزاعها مع الطرف المستهدف.
مخالفة مبدأ الضرورة في اللجوء إلى استعمال القوة أو الحل العسكري
لا تسمح قواعد القانون الدولي الإنساني باللجوء إلى استعمال القوة من اجل حل النزاعات بين الدول أو في داخل الدول إلا في حالة الضرورة القصوى بحيث تكون القوة الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها من أجل التوصل إلى حفظ السلم والأمن الدوليين أو من اجل رد العدوان أو وضع حد للأعمال الإرهابية التي تتعرض لها الدولة المعتدى عليها. وهذا ما يمكن استنتاجه من نص البند الثالث من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة الذي جاء فيه أنه " يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر". وهذا ما يؤكّد عليه أيضا وبشكل صريح البند الرابع من المادة ذاتها بنصه على أنه " يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة". مما يعني أن الدولة المعنية لا يمكنها استعمال القوة العسكرية ضد دولة أخرى أو بلد آخر إلا في حالة الضرورة كحالة الدفاع عن النفس أو كالحالة التي يصبح فيها استخدام القوة العسكرية الوسيلة الوحيدة المتوفرة لرد العدوان أو لحفظ الأمن والسلم الدوليين أو لمواجهة أعمال إرهابية تطال من أمن الدولة المعنية ومن سلامة مواطنيها. ولكن حتى في هذه الحالات لا يمكن استخدام مبدأ الضرورة الحربية كعذر يبرر القيام بأعمال غير إنسانية وانتهاكات تعبّر عن عدم الامتثال لقواعد قانون النزاعات المسلحة.
ومن مراجعة مجرى وطبيعة الأعمال الحربية التي قام بها الجيش الإسرائيلي ضد لبنان، يتبيّن أن هذه الأعمال لا يمكن إسنادها إلى حالة الضرورة العسكرية، ذلك أن فعل خطف الجنديين الإسرائيليين لا يؤلّف مبررا كافيا ومقنعا كي يستخدم كأساس شرعي لهذه الحرب الشرسة التي شنتها إسرائيل ضد لبنان، وهذا لأن هذا الفعل وان كان يتصف بالخطورة بالنسبة لدولة إسرائيل وبالنسبة للمجتمع الدولي، فهو لم يهدد فعلا الكيان الإسرائيلي ولم يحمل اعتداء خطيرا على أمن إسرائيل وسلامة مواطنيها ولا يبرر تاليا حربا مدمرة ومنظمة واسعة النطاق. هذا من جهة، أما من جهة ثانية فحالة الضرورة العسكرية لا تقوم قانونا إلا إذا كانت مسندة إلى سبب شرعي أو قانوني، مما يعني أنه لا يمكن اعتبار فعل خطف الجنديين الإسرائيليين اعتداء فعليا ضد الجيش الإسرائيلي طالما أن إسرائيل لا زالت تحتفظ بعدد من الأسرى اللبنانيين من دون وجه حق. ومن هنا، فان فعل خطف الجنديين الإسرائيليين يمكن إدخاله في خانة عمل المقاومة الشرعي ضد العدو الذي تجيزه شرعة الأمم المتحدة في البند الثاني من مادتها الأولى ( حق الشعوب في تقرير المصير).
وبالتأسيس على هذه العناصر يمكن التأكيد على أن الحرب التي تشنها اليوم دولة إسرائيل ضد لبنان لا تقوم على أساس الضرورة العسكرية، وذلك من جهة لأن هذه الضرورة لا تستند إلى أي مبرر موضوعي حقيقي ولأن العملية الحربية التي يراد تبريرها بالضرورة العسكرية لا تتمتع بالشرعية الحاسمة من جهة ثانية.
مخالفة مبدأ التقيّد بحدود معّينة في عملية استعمال القوة العسكرية.
إن حق اللجوء إلى استعمال القوة العسكرية ضد دولة ما أو مجموعة ما لا يعتبر حقا مطلقا، إذ أنه يخضع لقيود نصت عليها قواعد قانون النزاعات المسلحة وفرضت على جميع الدول التقيد بها واحترامها. فقد أكّدت المادة 35 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف الموقع في العام 1977 على « إن حق أطراف أي نزاع مسلح في اختيار أساليب ووسائل القتال ليس حقا لا تقيده قيود". وفي الاتجاه ذاته، كانت قد أشارت صراحة المادة 22 من اتفاقية لاهاي المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية الموقعة في 18 تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1907 إلى أنه " ليس للمتحاربين حق مطلق في اختيار وسائل إلحاق الضرر بالعدو".
وعلى هذا الأساس، ليس للمتحاربين الحق غير المقيّد بأي قيد في اختيار وسائل الإضرار، وهذا لأن الهدف الرئيسي للحرب يكون ضرب القوة العسكرية للعدو وإيقاع الهزيمة به. وفي السياق ذاته، يحظّر البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1949 استخدام الأسلحة التي من شأنها زيادة معاناة الجرحى وآلامهم وجعل تدهور حالتهم الصحية أو موتهم أمرا محتوما ومؤكدا. وهذا ما كانت قد أكّدت عليه من قبل المادة 12 من اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان المؤرخة في 12 آب / أغسطس 1949 والتي جاء فيها أنه " يجب في جميع الأحوال احترام وحماية الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة وغيرهم من الأشخاص المشار إليهم في المادة التالية". وكذلك تنص المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب على أنه " يكون الجرحى والمرضى وكذلك العجزة والحوامل موضع حماية واحترام خاصين...".
وبالنظر إلى هذه القواعد، يظهر أن إسرائيل لم تفرط في استعمال القوة العسكرية فحسب وإنما لم تتقيد بأي حدود أو سقف في تنفيذ عملياتها العسكرية حيث لجأت إلى استعمال كافة الأسلحة الثقيلة وحتى بعض الأسلحة المدمرة وغير المسموح استعمالها والمحرّمة دوليا ضد المدنيين العجزة ولأطفال والنساء والمرضى من دون تمييز ومن دون شفقة أو رحمة ولم تضع لعملياتها الحربية أي حدود أو أهداف واضحة ومحددة غير تلك التي تبتغي القتل والدمار والتهجير ليس إلا. هذا بالإضافة إلى أن الأعمال الحربية العنيفة التي يقودها الجيش الإسرائيلي اليوم ضد لبنان لم تؤد إلى تدمير أو إصابة أي هدف أو موقع عسكري، ما يؤكّد أن لجوء إسرائيل إلى استعمال القوة يهدف إلى تدمير لبنان والقضاء على بنيته التحتية وعلى اقتصاده ويتخطى حدود وأهداف العمليات العسكرية المسموح بها في قانون النزاعات المسلحة.
د – مخالفة موجب تحييد المدنيين في العمليات العسكرية.
يقع هذا الموجب الإلزامي على عاتق الدولة التي تلجأ إلى استعمال القوة العسكرية بحيث يفرض عليها قانون النزاعات المسلحة حماية المدنيين وتحييدهم وذلك باتخاذ الإجراءات الضرورية التي يمكن بموجبها التمييز بين الأهداف العسكرية والأهداف المدنية والتمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين. وتلتزم الدولة التي تختار القوة العسكرية لحل نزاعها مع دولة أخرى أو لصد عدوان ما أو لوضع حد لخطر إرهابي أو لأعمال إرهابية معينة بحماية الأشخاص العاجزين عن القتال أي المقاتلين الذين عجزوا عن القتال بسبب مرضهم أو إصابتهم بجروح أو أسرهم أو لأي سبب آخر يمنعهم من الدفاع عن أنفسهم وعناصر الخدمات الطبية وأفراد الهيئات الدينية، وذلك تطبيقا لنص المادة 12 من اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى في الميدان ولنص المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب. كما يتوجب على القوات المسلحة التي تستخدم القوة العسكرية، عملا بأحكام المادة 21 من اتفاقية جنيف الرابعة، احترام وحماية عمليات نقل الجرحى والمرضى المدنيين والعجزة والنساء التي تجري في البر بواسطة قوافل المركبات وقطارات المستشفى أو في البحر بواسطة سفن مخصصة لهذا النقل. وعلى كل طرف من أطراف النزاع أن يكفل حرية مرور جميع رسالات الأدوية والمهمات الطبية ومستلزمات العبادة المرسلة حصرا إلى سكان مدنيين حتى ولو كانوا تابعين لدولة عدوة. وعليه أيضا الترخيص بحرية مرور أي رسالات من الأغذية الضرورية، والملابس، والمقويات المخصصة للأطفال والنساء الحوامل أو النفاس ( م 23 من اتفاقية جنيف الرابعة). ويكون من واجبات أطراف النزاع اتخاذ التدابير الضرورية لضمان عدم إهمال الأطفال دون الخامسة عشر من العمر الذين تيتموا أو افترقوا عن عائلاتهم بسبب الحرب وتيسير إعالتهم وممارسة طقوس ديانتهم وإيوائهم في بلد محايد طوال مدة النزاع ( م 24 من اتفاقية جنيف الرابعة ).
ويتبيّن من خلال الوقائع الثابتة بالصور والمشاهد التلفزيونية والتقارير الصحافية والأمنية أن القوات الإسرائيلية تنتهك في الحرب التي تشنها على لبنان كل هذه القواعد والأعراف التي تحكم النزاعات المسلحة كونها تستهدف بقصفها العشوائي المدنيين من دون تمييز بين مواقع عسكرية وأخرى مدنية ومن دون التمييز بين مقاتلين وغير مقاتلين وتقوم بضرب الجسور وبقطع كل المواصلات البرية بهدف منع وصول المؤن والأغذية والأدوية إلى المدنيين اللبنانيين المحاصرين. يضاف إلى ذلك أن هذه القوات وبدلا من أن تتخذ إجراءات معينة لتحييد المدنيين من الأطفال والنساء والعجزة ولحمايتهم أو لتسهيل عملية نقلهم إلى مناطق آمنة أو محايدة، راحت تلقي عليهم الأطنان من القنابل وتقطع عنهم المؤن والأغذية وتهجّرهم من منازلهم ومن قراهم ومدنهم وترتكب بحقهم أبشع الجرائم وأخطرها ( جرائم حرب ) التي يعاقب عليها القانون الدولي الجنائي، ما يؤلّف خرقا فاضحا وخطيرا لكل قواعد قانون النزاعات المسلحة أو للقانون الدولي الإنساني.
ه – مخالفة مبدأ تناسب الوسيلة العسكرية المستعملة مع حجم الاعتداء وخطورته.
الكل يسلّم بأن الحرب التي تشنها إسرائيل ضد لبنان تتخطى بمداها وبنوع الأسلحة والوسائل العسكرية المستعملة وكثافة القصف الجوي الذي لجأ إليه الجيش الإسرائيلي في عملياته الحربية ضد المواطنين المدنيين والبنى التحتية وشبكة الاتصالات الهاتفية السلكية واللاسلكية ومحطات البث الإذاعي والتلفزيوني وغيرها، حجم وخطورة العملية العسكرية التي نفذتها المقاومة ضد القوات العسكرية الإسرائيلية والتي كمنت في خطف جنديين إسرائيليين وقتل سبعة جنود آخرين. وهذا ما يخالف مبدأ تناسب الوسائل العسكرية المستعملة مع حجم وخطورة الاعتداء أو الخطر الذي تتعرض له الدولة التي تلجأ إلى استعمال القوة العسكرية. ويقضي هذا المبدأ بعدم الإفراط في استعمال القوة العسكرية ووسائل القتال بحجم لا يتناسب مع خطورة الوضع العسكري أو الصفة العسكرية للهدف المقصود. ومن هذا المنطلق يضع قانون النزاعات المسلحة لزاما على أطراف النزاع ببذل رعاية متواصلة في إدارة العمليات العسكرية من أجل تفادي إلحاق الأذى بالمدنيين وبالامتناع عن اتخاذ قرار بشن هجوم عسكري قد يتوقع منه أن يحدث، بشكل عرضي، خسائر في الأرواح بين المدنيين أو إلحاق الأذى بهم أو بممتلكاتهم. كما أن قواعد قانون النزاعات المسلحة تفرض بأن يلغى أو يعلّق أي هجوم عسكري إذا تبيّن أن الهدف المتوخى من ضربه ليس هدفا عسكريا أو قد ينتج منه، بصورة عرضية، ضرر وخسائر بشرية أو مادية مدنية. وهذا ما تؤكّد عليه المادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين التي تنص على أنه " يحظّر على دولة الاحتلال أن تدمّر أي ممتلكات خاصة ثابتة أو منقولة تتعلق بأفراد أو جماعات، أو بالدولة أو السلطات العامة، أو المنظمات الاجتماعية أو التعاونية، إلا إذا كانت العمليات الحربية تقتضي حتما هذا التدمير".
ويظهر من خلال طبيعة العمليات الحربية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في لبنان إن الوسائل العسكرية التي يستعملها في هذه العمليات لا تتناسب البتة مع خطورة الأعمال التي قامت بها المقاومة ولا حتى مع الوسائل الحربية المستخدمة من قبل هذه المقاومة التي لا تمتلك كالجيش الإسرائيلي كافة الأسلحة والأعتدة الحربية المتطورة ولا الدبابات ولا الطيران الحربي الذي تلجأ إليه إسرائيل بصورة أساسية في هذه المعركة، مما يعتبر خرقا فاضحا لقواعد قانون النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية وخصوصا أن القوات الإسرائيلية، ووفقا لمعلومات صحافية ودولية، لجأت إلى استعمال أسلحة محرّمة دوليا في هذه الحرب ضد المدنيين اللبنانيين ولاسيما منها القنابل الفسفورية والعنقودية.
ثانيا: انتهاك القواعد الأساسية لحقوق الإنسان
تأثر القانون الدولي الإنساني، فيما يتعلق بحماية المدنيين وضحايا الحروب وبأسلوب إدارة العمليات العسكرية، بالصكوك الأساسية المعنية بحقوق الإنسان ولاسيما منها الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان والاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وذلك على أساس أن للإنسان التمتع بحقوقه اللصيقة بآدميته وكرامته البشرية على قدم المساواة في زمن الحرب كما في زمن السلم.
لذلك فان هناك تقارب كبير بين القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، إذ كلاهما يعنى بحماية حق كل إنسان في الحياة والسلامة البدنية والمعنوية والكرامة الإنسانية مهما كانت الظروف. ولكن بحكم طبيعة القانون الدولي الإنساني ( الحد من المعاناة في النزاعات المسلحة)، فان هذا القانون يضم أحكاما أكثر تحديدا وخصوصية لجهة النزاعات المسلحة من تلك الواردة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق المتعلقة بحماية حقوق الإنسان عامة. ويذكر هنا على سبيل المثال الأحكام المتصلة بوسائل وأساليب القتال. ورغم التمايز بين قانون النزاعات المسلحة وقانون حقوق الإنسان، هناك تكامل بين المبادئ والقواعد التي يتضمناها وخصوصا لجهة الأهداف المشتركة والأساسية ألا وهي حماية الإنسان في حقوقه الإنسانية أي في حياته وسلامته البدنية وحريته وكرامته الإنسانية ( أ) واتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع حد للانتهاكات التي تخرق هذه الحقوق وقانون النزاعات المسلحة، ومحاكمة مرتكبي هذه الانتهاكات وفقا لأحكام القانون الدولي الجنائي ( ب).
أ- الحقوق المحمية
تحقيقا للأهداف السامية المذكورة أعلاه، نصت المادة الثالثة من الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان على أن " لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه". وتحرّم المادة الخامسة من الإعلان ذاته تعريض أي إنسان للتعذيب أو للعقوبات والمعاملة القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة الإنسانية. ويقضي الإعلان أيضا بمعاملة الأشخاص معاملة إنسانية دون أي تمييز قائم على العرق أو الجنسية أو الجنس أو الانتماء السياسي أو المعتقدات الدينية، وخصوصا الأشخاص الذين تشملهم الحماية بموجب القانون الدولي الإنساني أي الأشخاص المحميين بموجب المادة الرابعة من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب. وهذا ما جاء التأكيد عليه في المادة 27 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تنص على أنه " للأشخاص المحميين في جميع الأحوال حق الاحترام لأشخاصهم وشرفهم وحقوقهم العائلية وعقائدهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم. ويجب معاملتهم في جميع الأوقات معاملة إنسانية، وحمايتهم بشكل خاص ضد جميع أعمال العنف أو التهديد، وضد السباب وفضول الجماهير. ويجب حماية النساء بصفة خاصة ضد أي اعتداء على شرفهن، ولاسيما ضد الاغتصاب والإكراه على الدعارة وأي هتك لحرمتهن. ومع مراعاة الأحكام المتعلقة بالحالة الصحية والسن والجنس، يعامل جميع الأشخاص المحميين بواسطة طرف النزاع الذي يخضعون لسلطته، بنفس الاعتبار دون تمييز ضار على أساس العنصر أو الدين أو الآراء السياسية".
وتجدر الإشارة إلى أن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يؤكّد على ما جاء في الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان من حيث حماية حق الأشخاص بالحياة وبالسلامة البدنية وبالكرامة الإنسانية، إذ نصت المادة 6-1 منه على أن " لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة، ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي". كما جاء في مادته السابعة أنه " لا يجوز إخضاع أي فرد للتعذيب أو لعقوبة أو لمعاملة فظة أو غير إنسانية أو مهينة...". ورغم أن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يخوّل للدول في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تهدد كيان الدولة الحد من بعض الحقوق، فهو ينص في البند الأول من مادته الرابعة على حصر استعمال هذا الحق ضمن حدود التزامات القانون الدولي الإنساني وشرط أن لا تتنافى الإجراءات المتخذة من قبل الدولة المعنية والتي تحد من حقوق الإنسان مع قواعد القانون الدولي الإنساني وأن لا تتضمن تمييزا على أساس العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الديانة أو الأصل الاجتماعي فحسب.
والى جانب الصكوك الدولية المذكورة أعلاه والتي تعنى بحماية حقوق الإنسان، فان القانون الدولي الإنساني الهادف إلى ضمان معاملة الإنسان في جميع الأحوال معاملة إنسانية في زمن الحرب دون أي تمييز ضار يقوم على العنصر أو اللون أو الدين أو المعتقد أو الجنس أو المولد أو الثروة أو أي معيار آخر، قد تطور بفضل ما يعرف بقانون " جنيف" الذي يضم الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية الموضوعة تحت رعاية اللجنة الدولية للصليب الأحمر والتي تهتم أساسا بحماية ضحايا الحرب، وبقانون " لاهاي" الذي يهتم بالنتائج التي انتهت إليها مؤتمرات السلم التي عقدت في عاصمة هولندا ويتناول أساس الأساليب والوسائل الحربية المسموح بها، وكذلك بفضل مجهود الأمم المتحدة لضمان احترام حقوق الإنسان أثناء النزاعات المسلحة والحد من استخدام أسلحة معينة لعدم مراعاتها إنسانية الإنسان.
وبالتأسيس على المبادئ الأساسية الهادفة إلى حماية حقوق الإنسان في زمن الحرب والمنصوص عليها في اتفاقيات جنيف الأربع وفي البروتوكولين الملحقين بهذه الاتفاقيات في العام 1977، يقتضي أن لا تتنافى مقتضيات الحرب مع احترام الذات الإنسانية وينبغي على أطراف النزاع احترام وحماية الحقوق التالية:
احترام مبدأ حصانة الذات البشرية، مما يعني أنه لا يجوز اعتبار الحرب مبررا للاعتداء على حياة من لا يشاركون في القتال أو الذين لم يعودوا قادرين على ذلك.
منع التعذيب بشتى أنواعه، ويتعيّن على الطرف الذي يحتجز رعايا العدو أن يطلب منهم البيانات المتعلقة بهويتهم فقط، دون إجبارهم على ذلك، وأن يعاملهم معاملة إنسانية حسنة ويتيح الفرصة للجنة الدولية للصليب الأحمر زيارتهم والإطلاع على أوضاعهم.
احترام الشرف والحقوق العائلية والمعتقد والتقاليد. وتكتسب الأخبار العائلية أهمية خاصة في القانون الإنساني الذي يوجب تسهيل عملية التواصل بين كافة المدنيين الذين حوصروا في منطقة كانت مسرحا للعمليات العسكرية.
توفير الأمان والطمأنينة وحظر الأعمال الانتقامية والعقوبات الجماعية واحتجاز الرهائن.
منع استغلال المدنيين واستخدامهم لحماية أهداف عسكرية.
حظر النهب والهجومات العسكرية العشوائية والأعمال الانتقامية.
عدم التعرّض للملكية الفردية وعدم قصف المنشآت المدنية والمنازل والممتلكات.
ب-الانتهاكات والإجراءات الواجب اتخاذها لمعاقبتها.
من الثابت أن العمليات العسكرية التي تنفذها إسرائيل ضد لبنان تنتهك كل حقوق الإنسان المشار إليها أعلاه والمنصوص عليها في المواثيق والاتفاقات الدولية المعنية بحماية هذه الحقوق، وهي تحمل بشكل واضح اعتداء على حق المدنيين اللبنانيين بالحياة وبالسلامة المدنية، ذلك أنها تستهدف في الدرجة الأولى المدنيين العزّل والمسالمين والعجزة والنساء والأطفال من دون تمييز. هذا بالإضافة إلى أن الجيش الإسرائيلي لا يتوانى عن استعمال شتى أنواع الأسلحة المدمرة ومنها المحظورة دوليا ضد المدنيين وعن ضرب المنشآت المدنية والبيوت الآمنة وشبكة المواصلات ومحطات التلفزة والإذاعات والصحافيين بشكل عشوائي ومنظّم وبربري، ما يؤسّس اعتداء فاضحا على حق الإنسان في الحياة وفي سلامته البدنية وفي حريته الشخصية بالتنقل دون قيود وبممارسة مهنته أو عمله بحرية. ثم أن الاعتداءات المذكورة تستهدف بصورة خطيرة الذات والكرامة الإنسانية كونها تهدف إلى إذلال الشعب اللبناني وعزله عن محيطه وعن العالم عن طريق دك الطرقات والجسور وشبكة الاتصالات وتجويع المدنيين وقطع الأغذية والأدوية والمساعدات الإنسانية عنهم وتهجير قسم كبير منهم، هذا إضافة إلى مهاجمة المدنيين بالقصف العشوائي والمركّز لقتلهم وترويعهم وإذلالهم، مما يؤلّف انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وجرائم حرب يعاقب عليها القانون الدولي الجنائي.
إن هذه الاعتداءات والانتهاكات توجب على الأمم المتحدة بأن لا تقف موقف المتفرّج وبأن تقوم باتخاذ الإجراءات اللازمة التي من الواجب تطبيقها في حالات مماثلة وفقا لما ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة وذلك لوضع حد للحالة التي تهدد الأمن والسلم والدوليين. ذلك ان من أولى موجبات مجلس الأمن في الأمم المتحدة هي اتخاذ كل الإجراءات اللازمة من أجل التوصل إلى وقف فعلي للاعتداءات ولإطلاق النار أو على الأقل من أجل دعوة أطراف النزاع إلى الالتزام بوقف فوري لإطلاق النار تطبيقا لنص المادتين 39 و 40 من ميثاق الأمم المتحدة. ولا يجوز لمجلس الأمن أن يستمر في ترك الأمور على حالها وأن يلتزم هذا الصمت المذهل أمام هول المجازر المرتكبة بحق الشعب اللبناني، إذ أن هذا الموقف اللامبالي حتى لا نقول المؤيد للعدوان هو الذي يشجّع دولة إسرائيل على متابعة عملياتها العسكرية العدوانية. فالمادة 40 من ميثاق الأمم المتحدة تحث مجلس الأمن، منعا لتفاقم الوضع الذي يهدد الأمن والسلم الدوليين، على اتخاذ التدابير المؤقتة اللازمة لإيقاف النزاع المسلح أو على الأقل لوضع حد للانتهاكات الخطيرة التي تطال من حقوق الإنسان ومن الأمن الدولي على أن لا يحسب لعدم أخذ المتنازعين بهذه التدابير المؤقتة حسابه. كما لمجلس الأمن أن يتخذ التدابير العقابية اللازمة التي لا تستلزم اللجوء إلى استعمال القوة بحق الطرف الذي يهدد الأمن والسلم الدوليين تطبيقا للمادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة. أما إذا رأى أن هذه التدابير لم تف بالغرض، جاز له أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ الأمن والسلم الدولي. ومن هذا المنطلق، يمكن القول أنه، أمام هول الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي الإنساني ولحقوق الإنسان، لم يعد مسموحا لمجلس الأمن الوقوف موقف العاجز عن ضبط الوضع الأمني وعن وضع حد لهذه الحالة العسكرية الخطيرة التي تهدد الأمن والسلم الدولي في المنطقة نزولا عند رغبة بعض الدول الفاعلة في هذه المرجعية الدولية.
هذا من جهة، أما من جهة ثانية فان من واجب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بالنظر إلى فظاعة الانتهاكات الواقعة على القانون الدولي الإنساني وعلى قواعد الحرب، أن تجري اتصالا سريا مع السلطات المسؤولة عن هذه الانتهاكات. وبما أن هذه الانتهاكات جسيمة ومتكررة وحتى منهجية ومنظمة ومؤكدة على وجه اليقين، وبما أن الاتصالات التي أجرتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر لم تساعد حتى الآن في تحسين الوضع، يكون من واجب اللجنة اتخاذ موقف علني تدين فيه هذا الانتهاك الخطير للقانون الدولي الإنساني ولحقوق الإنسان، ذلك أن هذا الإعلان يخدم مصالح الأشخاص المدنيين المتضررين والمهددين في حياتهم بهذه الانتهاكات. هذا ولو كان اللجوء إلى هذا الإجراء يعد أمرا استثنائيا. يضاف إلى ذلك ضرورة مقاضاة مرتكبي هذه الانتهاكات بجرائم حرب وذلك عن طريق ملاحقتهم أمام المحاكم الجزائية الوطنية المعنية أو أمام محكمة جزائية دولية خاصة Ad Hoc على غرار المحكمة الجزائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة والمحكمة الجزائية الدولية الخاصة برواندا. كما يمكن لمجلس الأمن ( م 13 من اتفاقية روما الموقعة بتاريخ 18 تموز 1998 ) طلب ملاحقة ومحاكمة المسؤولين عن هذه الانتهاكات والاعتداءات الخطيرة الواقعة على القانون الدولي الإنساني والتي تستهدف المدنيين اللبنانيين أمام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة التي أنشئت بموجب اتفاقية روما بتاريخ 18 تموز سنة 1998 وحيث بدأت العمل في لاهاي ابتداء من أول تموز سنة 2002 على محاكمة الأشخاص الملاحقين بجرائم الحرب وضد الإنسانية وبجرائم الابادة الواقعة بعد هذا التاريخ.
على المجتمع الدولي الذي طالما تغنّى بالديمقراطية وبالحريات وبحقوق الإنسان والذي من واجبه الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين وحماية الإنسانية أن يتحرك فعلا لوقف الحرب التي تشنها إسرائيل على المدنيين اللبنانيين، وأن لا يقف موقف شاهد الزور على هذه الحالة الخطيرة وعلى المجزرة التي يتعرّض لها الشعب اللبناني وأن يبرهن بأن العدالة الدولية ليست رهينة المصالح الدولية وليست خاضعة لعواصم القرار، وإلا فرحمة الله على هذه العدالة الدولية المسيرة وعلى الحقوق والديمقراطيات في العالم وعلى الإنسانية التي تتعرّض لأبشع الاعتداءات والانتهاكات في لبنان.
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
أستاذ محاضر في القانون الجنائي الدولي وفي القانون الجنائي العام والإجراءات الجنائية في كلية الحقوق والعلوم السياسية التابعة لجامعة روبير شومان- فرنسا
محام عام أسبق- محام بالاستئناف
- تعريف القانون الدولي الإنساني والنزاعات المسلحة
يُعرّف القانون الدولي الإنساني، الذي يسمى أيضا قانون " النزاعات المسلحة"، بأنه مجموعة المبادئ والقواعد التي تحمي في زمن الحرب الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية أو الذين كفّوا عن المشاركة فيها والتي تحد من استخدام العنف أثناء الحرب أو من الآثار الناجمة عنها تجاه الإنسان عامة. ويعتبر هذا القانون فرعا من فروع القانون الدولي العام لحقوق الإنسان، غرضه حماية الأشخاص المدنيين في حالة نزاع مسلّح وحماية الممتلكات والأموال والمنشآت التي ليست ذات طابع عسكري، وهو يسعى إلى رفع أي اعتداء عسكري عن السكان غير المشتركين بصورة مباشرة أو الذين كفّوا عن الاشتراك في النزاعات المسلحة مثل الجرحى والغرقى وأسرى الحرب. وكان قد انطلق القانون الدولي الإنساني باتفاقية " جنيف" الأولى سنة 1864 التي تلتها عدة اتفاقيات وبروتوكولات هامة في هذا الحقل. هذا مع العلم أن النزاع المسلّح الدولي ينشب بين القوات المسلحة لدولتين على الأقل، أما النزاع المسلّح غير الدولي فهو المواجهة العسكرية التي تحصل داخل إقليم دولة معينة بين القوات المسلحة النظامية وجماعات مسلحة يمكن التعرّف على هويتها، أو فيما بين جماعات مسلحة غير نظامية. وتحكم قواعد القانون الدولي الإنساني النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية على السواء.
- النصوص الدولية المنتهكة.
وبغض النظر عن موضوع صدقية الذريعة التي على أساسها تمكنت دولة إسرائيل من شن حربها المدمرة على لبنان ( عملية خطف جنديين إسرائيليين)، ومن دون الخوض في مسألة شرعية عمل المقاومة " الإسلامية" في لبنان وفي ما إذا كانت هذه المقاومة تعبّر فعلا عن إرادة الشعب اللبناني، كل الشعب اللبناني، أو ما إذا كانت مسيرة بمشاريع إقليمية وعلى الأخص إيرانية وسورية، فان استهداف الهجوم الإسرائيلي البربري أولا وآخرا وبصورة متعمّدة المدنيين الأبرياء والآمنين والبنى التحتية والاقتصادية في هذا البلد يناقض بشكل فاضح وصارخ القانون الدولي الإنساني ولاسيما الاتفاقيات والصكوك الدولية التي ترعى النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية وقواعد الحرب ويؤسّس جرائم حرب خطيرة يعاقب عليها القانون الدولي الجزائي.
وبالفعل فان القانون الدولي الإنساني يحظّر هذا العنف المستمر والممارس على المدنيين من أطفال وشيوخ ونساء بصورة منظمة ومنهجية، كما تحرّمه كل الديانات السماوية في حدود تحقيق العدالة في صراعات أو مواجهات يكون الهدف منها رد الظلم والطغيان والدفاع عن النفس والحياة والممتلكات مع "احترام الإنسانية في الإنسان البريء الذي أجمعت الأديان كلها على "ومضة عزة الله" في خلقه وتكوينه" ( الدكتور العميد علي عوّاد: قانون النزاعات المسلحة، دليل الرئيس والقائد، دار المؤلّف، 2004 ، ص 17 وما يليها). وبالإضافة إلى ذلك فإن الحضارات كلها تجسّد هذه القيمة الإنسانية وترفض الظلم الذي يكمن في إيقاع الأذى بغير وجه حق وعدل بواسطة أسلحة مدمرة ومحظورة دوليا. ذلك إن الهدف من "الحرب العادلة" هو وضع حد لاغتصاب حقوق الشعب وليس ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية ضد شعب آخر والخروج على تقاليد الأديان والقيم الإنسانية وقواعد القانون الدولي الإنساني. ومن هذا المنطلق بالذات، وبالتأسيس على هذه القيم والقواعد، فان قانون النزاعات المسلحة ( القانون الدولي الإنساني- قانون الحرب) يهدف أساسا إلى حماية الإنسانية وحقوق الإنسان من خلال القوانين والاتفاقيات والمعاهدات والمواثيق الدولية التي تحدد قيود استخدام القوة العسكرية في النزاعات المسلحة والتي ترتكز خصوصا على المبادئ الإنسانية والأعراف الدولية المستقرة والمعترف بها دوليا. ومن أهم هذه النصوص الدولية :
- اتفاقية " جنيف الأولى" لسنة 1864.
- إعلان سان بطرسبرغ لعام 1868 لحظر القذائف المتفجرة.
إعلان لاهاي لسنة 1899 حول قذائف " دم دم " والغازات الخانقة.
اتفاقية " لاهاي" لعام 1907 وهي تتضمن نصوصا أساسية تضع ضوابط وقواعد وأصول مهمة للنزاعات المسلحة، إذ أنها تهدف إلى تنظيم وسائل حل النزاعات بين الدول بالطرق السلمية والى وضع قيود على استخدام الأسلحة في النزاعات المسلحة البرية والبحرية.
اتفاقية هيج لعام 1907 التي تتضمن قواعد مهمة تتعلق بمفهوم الحياد وبمفهوم الاحتلال وبكيفية إدارة العمليات الحربية. يشار إلى أنه أضيفت على هذه الاتفاقية قواعد الحرب الجوية التي وضعت مسودتها في العام 1923 من دون أن تعتمد بشكل رسمي حتى الآن.
بروتوكول جنيف بشأن تحظير استعمال الغازات السامة والأسلحة الجرثومية لعام 1925.
ميثاق الأمم المتحدة.
اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949.
اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية المواقع الثقافية في زمن النزاعات المسلحة.
اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية لعام 1972 .
اتفاقية أوسلو لمنع استخدام بعض الأسلحة.
اتفاقية باريس لتحظير استعمال الأسلحة الكيماوية.
اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1980 بشأن حظر أو تقييد بعض الأسلحة التقليدية.
البروتوكولان الإضافيان لاتفاقيات جنيف الأربع الموقعان في العام 1977 لاستكمال الحماية التي تضمنها اتفاقيات جنيف لعام 1949 في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية ( أي النزاعات المسلحة الداخلية). ويذكر أن موضوع الاتفاق الأول ضحايا النزاعات المسلحة الدولية، وهو يتضمن اعتبار حروب التحرير الوطني نزاعا دوليا مسلحا. ويعترف هذا البروتوكول لمقاتلي حرب العصابات بصفة المقاتل وصفة أسير الحرب ويهتم بالسكان المدنيين وصيانتهم وتجنيبهم تبعات النزاع المسلح أثناء العمليات العسكرية بهدف الحد من الأخطار التي تحدق بهم في زمن الحرب، أما البروتوكول الثاني فيعرّف النزاع المسلّح غير الدولي ويدعّم الضمانات الأساسية لغير المقاتلين وتقديم الخدمات اللازمة لمساعدة الأسرى.
اتفاقية أوتاوا لعام 1997 لمنع استخدام الألغام ضد الأفراد.
ومن بين هذه النصوص، تؤلّف اتفاقيات جنيف المصادق عليها سنة 1949 والبروتوكولان المضافين عليها في سنة 1977 واتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية المرتكز القانوني الأساس للقانون الدولي الإنساني المطبق على النزاعات المسلحة وللقضاء الجنائي الدولي الدائم ( المحكمة الجنائية الدولية التي أنشئت بموجب اتفاقية روما لعام 1998 والتي بدأت العمل منذ تاريخ الأول من تموز سنة 2002 ).
- حق الدفاع عن النفس المنصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة لا يبرّر ضرب المدنيين.
يتبيّن من خلال تمحيص نصوص الاتفاقيات والصكوك الدولية المذكورة أعلاه أن الحرب المدمرة والمبرمجة التي يشنها الجيش الإسرائيلي اليوم على لبنان والتي ينتج منها قصف المدنيين الآمنين وتشريد مئات الآلاف منهم وضرب البنى التحتية والاقتصادية في هذا البلد من دون التركيز أولا وأساسا على الأهداف العسكرية لحزب الله ومن دون التمكّن حتى الآن من ضرب أي موقع عسكري تابع للمقاومة، تشكّل خرقا فاضحا لقوانين النزاعات المسلحة وللمبادئ العامة والأعراف التي يقوم عليها القانون الدولي الإنساني وان كانت إسرائيل ترتكز في حربها الضروس هذه على مبدأ حق الدفاع عن النفس المكرّس بنص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. ذلك أن ضخامة واتساع العمليات العسكرية التي تنفذها إسرائيل في لبنان منذ عشرة أيام يثبت تخطيها لحق الدفاع عن النفس المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة من حيث استهداف هذه العمليات بالدرجة الأولى وبشكل منظم ودائم المنشآت والبنى المدنية والجسور ودور العبادة والمدنيين الذين لا تربطهم بالمقاومة أي صلة عسكرية والذين لم يمدوا يد العون لمقاتلي المقاومة، ومن حيث استعمال الجيش الإسرائيلي لكم هائل ومخيف من الأسلحة المدمرة والمتطورة وحتى بعض الأسلحة التي تحظرها الاتفاقيات الدولية. ومن هنا، يتأكد بوضوح أن إسرائيل تخرق أحكام المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تعترف بحق كل دولة بالدفاع عن نفسها إما بشكل فردي وإما بشكل جماعي، وذلك لعدم تناسب وسائل الدفاع التي تستعملها مع خطورة الاعتداء الذي وقع عليها ( خطف الجنديين)، هذا إذا كان هناك فعلا من اعتداء. وعليه، لا يمكن التسليم بأن العملية المدمرة التي تقوم بها تستند إلى حق الدفاع عن النفس، إذ أن هذا الحق لا يقوم إلا في حال كانت وسيلة رد العدوان متناسبة مع حجم خطورة وقوة العدوان الواقع. يضاف إلى ذلك إن نص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة يضع لزاما على الدولة التي تستعمل حق الدفاع بأن تبلّغ مجلس الأمن فورا "بعملية رد العدوان" أو بإجراءات استعمال حق الدفاع، على أن لا يحول هذا الدفاع عن النفس دون تمكّن مجلس الأمن من القيام بالإجراءات التي يراها مناسبة من أجل الحفاظ على السلم والأمن الدولي تطبيقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ويلاحظ، في هذا السياق، أن مجلس الأمن الذي يقع على عاتقه موجب حفظ الأمن والسلم الدوليين وفقا لما ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة لم يبادر بعد إلى اتخاذ قرار بوقف شامل لإطلاق النار في وقت ترتكب فيه إسرائيل مجزرة بحق اللبنانيين المدنيين وجرائم حرب خطيرة يعاقب عليها القانون الدولي الجنائي وتشرّد مئات الآلاف منهم وتدمّر البنى التحتية للبنان بشكل وحشي.
لذلك فان هذا الموقف الصامت يدل على أن العدالة الدولية تكيل بمكيالين وان هذه العدالة هي عدالة القوي ضد الضعيف، وعدالة التسلّط والهيمنة والاحتلال ضد حق الشعوب في الحرية وتقرير المصير. وهذا الواقع الأليم يثبت أيضا أن المجتمع الدولي يقف دائما موقف المتفرّج عندما يتعرّض لبنان لاعتداء ما رغم هول وشراسة الاعتداء. فلبنان محكوم عليه بأن يكون دائما ساحة لتنفيذ المشاريع الإقليمية ولتصفية الحسابات والصراعات الإقليمية والدولية وبأن يكون حقلا لتجارب الأسلحة ولعرض العضلات العسكرية على حساب اقتصاده وأمن سكانه وبناه التحتية التي دمّرت بفعل هذه الحرب البربرية التي تشنها إسرائيل على المدنيين. كل هذا يتم وللأسف أمام أعين المجتمع الدولي الذي يقف موقف المتفرّج أو العاجز، مما يشجّع المعتدي على الإمعان في اعتداءاته وفي انتهاكه لكل القواعد والمبادئ الأساسية لقانون النزاعات المسلحة ( أولا) ولكل الاتفاقيات والمواثيق المعنية بحماية حقوق الإنسان ( ثانيا).
أولا: انتهاك القواعد والمبادئ الأساسية لقانون الحرب أو النزاعات المسلحة.
إن الحرب الحالية التي تقودها إسرائيل ضد لبنان والتي باستمرارها على النحو البربري والوحشي الذي تعتمده أساسا لنجاحها وذلك بالقضاء على أكبر عدد ممكن من المدنيين العزّل والأبرياء وبتهديم ما أمكن من المنشآت المدنية والجسور والبيوت، تشكّل انتهاكا فاضحا للعديد من القواعد والمبادئ الأساسية التي تحكم النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، إذ أنها تخالف مبدأ الضرورة في اللجوء إلى استعمال القوة والحل العسكري، ومبدأ التقيّد بحدود دولية معينة لاستعمال وسائل القتال، وموجب تحييد المدنيين ومبدأ تناسب الوسيلة العسكرية المستعملة مع حجم الاعتداء أو الخطر المحدق بالجهة التي تلجأ إلى القوة من أجل حل نزاعها مع الطرف المستهدف.
مخالفة مبدأ الضرورة في اللجوء إلى استعمال القوة أو الحل العسكري
لا تسمح قواعد القانون الدولي الإنساني باللجوء إلى استعمال القوة من اجل حل النزاعات بين الدول أو في داخل الدول إلا في حالة الضرورة القصوى بحيث تكون القوة الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها من أجل التوصل إلى حفظ السلم والأمن الدوليين أو من اجل رد العدوان أو وضع حد للأعمال الإرهابية التي تتعرض لها الدولة المعتدى عليها. وهذا ما يمكن استنتاجه من نص البند الثالث من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة الذي جاء فيه أنه " يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر". وهذا ما يؤكّد عليه أيضا وبشكل صريح البند الرابع من المادة ذاتها بنصه على أنه " يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة". مما يعني أن الدولة المعنية لا يمكنها استعمال القوة العسكرية ضد دولة أخرى أو بلد آخر إلا في حالة الضرورة كحالة الدفاع عن النفس أو كالحالة التي يصبح فيها استخدام القوة العسكرية الوسيلة الوحيدة المتوفرة لرد العدوان أو لحفظ الأمن والسلم الدوليين أو لمواجهة أعمال إرهابية تطال من أمن الدولة المعنية ومن سلامة مواطنيها. ولكن حتى في هذه الحالات لا يمكن استخدام مبدأ الضرورة الحربية كعذر يبرر القيام بأعمال غير إنسانية وانتهاكات تعبّر عن عدم الامتثال لقواعد قانون النزاعات المسلحة.
ومن مراجعة مجرى وطبيعة الأعمال الحربية التي قام بها الجيش الإسرائيلي ضد لبنان، يتبيّن أن هذه الأعمال لا يمكن إسنادها إلى حالة الضرورة العسكرية، ذلك أن فعل خطف الجنديين الإسرائيليين لا يؤلّف مبررا كافيا ومقنعا كي يستخدم كأساس شرعي لهذه الحرب الشرسة التي شنتها إسرائيل ضد لبنان، وهذا لأن هذا الفعل وان كان يتصف بالخطورة بالنسبة لدولة إسرائيل وبالنسبة للمجتمع الدولي، فهو لم يهدد فعلا الكيان الإسرائيلي ولم يحمل اعتداء خطيرا على أمن إسرائيل وسلامة مواطنيها ولا يبرر تاليا حربا مدمرة ومنظمة واسعة النطاق. هذا من جهة، أما من جهة ثانية فحالة الضرورة العسكرية لا تقوم قانونا إلا إذا كانت مسندة إلى سبب شرعي أو قانوني، مما يعني أنه لا يمكن اعتبار فعل خطف الجنديين الإسرائيليين اعتداء فعليا ضد الجيش الإسرائيلي طالما أن إسرائيل لا زالت تحتفظ بعدد من الأسرى اللبنانيين من دون وجه حق. ومن هنا، فان فعل خطف الجنديين الإسرائيليين يمكن إدخاله في خانة عمل المقاومة الشرعي ضد العدو الذي تجيزه شرعة الأمم المتحدة في البند الثاني من مادتها الأولى ( حق الشعوب في تقرير المصير).
وبالتأسيس على هذه العناصر يمكن التأكيد على أن الحرب التي تشنها اليوم دولة إسرائيل ضد لبنان لا تقوم على أساس الضرورة العسكرية، وذلك من جهة لأن هذه الضرورة لا تستند إلى أي مبرر موضوعي حقيقي ولأن العملية الحربية التي يراد تبريرها بالضرورة العسكرية لا تتمتع بالشرعية الحاسمة من جهة ثانية.
مخالفة مبدأ التقيّد بحدود معّينة في عملية استعمال القوة العسكرية.
إن حق اللجوء إلى استعمال القوة العسكرية ضد دولة ما أو مجموعة ما لا يعتبر حقا مطلقا، إذ أنه يخضع لقيود نصت عليها قواعد قانون النزاعات المسلحة وفرضت على جميع الدول التقيد بها واحترامها. فقد أكّدت المادة 35 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف الموقع في العام 1977 على « إن حق أطراف أي نزاع مسلح في اختيار أساليب ووسائل القتال ليس حقا لا تقيده قيود". وفي الاتجاه ذاته، كانت قد أشارت صراحة المادة 22 من اتفاقية لاهاي المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية الموقعة في 18 تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1907 إلى أنه " ليس للمتحاربين حق مطلق في اختيار وسائل إلحاق الضرر بالعدو".
وعلى هذا الأساس، ليس للمتحاربين الحق غير المقيّد بأي قيد في اختيار وسائل الإضرار، وهذا لأن الهدف الرئيسي للحرب يكون ضرب القوة العسكرية للعدو وإيقاع الهزيمة به. وفي السياق ذاته، يحظّر البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1949 استخدام الأسلحة التي من شأنها زيادة معاناة الجرحى وآلامهم وجعل تدهور حالتهم الصحية أو موتهم أمرا محتوما ومؤكدا. وهذا ما كانت قد أكّدت عليه من قبل المادة 12 من اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان المؤرخة في 12 آب / أغسطس 1949 والتي جاء فيها أنه " يجب في جميع الأحوال احترام وحماية الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة وغيرهم من الأشخاص المشار إليهم في المادة التالية". وكذلك تنص المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب على أنه " يكون الجرحى والمرضى وكذلك العجزة والحوامل موضع حماية واحترام خاصين...".
وبالنظر إلى هذه القواعد، يظهر أن إسرائيل لم تفرط في استعمال القوة العسكرية فحسب وإنما لم تتقيد بأي حدود أو سقف في تنفيذ عملياتها العسكرية حيث لجأت إلى استعمال كافة الأسلحة الثقيلة وحتى بعض الأسلحة المدمرة وغير المسموح استعمالها والمحرّمة دوليا ضد المدنيين العجزة ولأطفال والنساء والمرضى من دون تمييز ومن دون شفقة أو رحمة ولم تضع لعملياتها الحربية أي حدود أو أهداف واضحة ومحددة غير تلك التي تبتغي القتل والدمار والتهجير ليس إلا. هذا بالإضافة إلى أن الأعمال الحربية العنيفة التي يقودها الجيش الإسرائيلي اليوم ضد لبنان لم تؤد إلى تدمير أو إصابة أي هدف أو موقع عسكري، ما يؤكّد أن لجوء إسرائيل إلى استعمال القوة يهدف إلى تدمير لبنان والقضاء على بنيته التحتية وعلى اقتصاده ويتخطى حدود وأهداف العمليات العسكرية المسموح بها في قانون النزاعات المسلحة.
د – مخالفة موجب تحييد المدنيين في العمليات العسكرية.
يقع هذا الموجب الإلزامي على عاتق الدولة التي تلجأ إلى استعمال القوة العسكرية بحيث يفرض عليها قانون النزاعات المسلحة حماية المدنيين وتحييدهم وذلك باتخاذ الإجراءات الضرورية التي يمكن بموجبها التمييز بين الأهداف العسكرية والأهداف المدنية والتمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين. وتلتزم الدولة التي تختار القوة العسكرية لحل نزاعها مع دولة أخرى أو لصد عدوان ما أو لوضع حد لخطر إرهابي أو لأعمال إرهابية معينة بحماية الأشخاص العاجزين عن القتال أي المقاتلين الذين عجزوا عن القتال بسبب مرضهم أو إصابتهم بجروح أو أسرهم أو لأي سبب آخر يمنعهم من الدفاع عن أنفسهم وعناصر الخدمات الطبية وأفراد الهيئات الدينية، وذلك تطبيقا لنص المادة 12 من اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى في الميدان ولنص المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب. كما يتوجب على القوات المسلحة التي تستخدم القوة العسكرية، عملا بأحكام المادة 21 من اتفاقية جنيف الرابعة، احترام وحماية عمليات نقل الجرحى والمرضى المدنيين والعجزة والنساء التي تجري في البر بواسطة قوافل المركبات وقطارات المستشفى أو في البحر بواسطة سفن مخصصة لهذا النقل. وعلى كل طرف من أطراف النزاع أن يكفل حرية مرور جميع رسالات الأدوية والمهمات الطبية ومستلزمات العبادة المرسلة حصرا إلى سكان مدنيين حتى ولو كانوا تابعين لدولة عدوة. وعليه أيضا الترخيص بحرية مرور أي رسالات من الأغذية الضرورية، والملابس، والمقويات المخصصة للأطفال والنساء الحوامل أو النفاس ( م 23 من اتفاقية جنيف الرابعة). ويكون من واجبات أطراف النزاع اتخاذ التدابير الضرورية لضمان عدم إهمال الأطفال دون الخامسة عشر من العمر الذين تيتموا أو افترقوا عن عائلاتهم بسبب الحرب وتيسير إعالتهم وممارسة طقوس ديانتهم وإيوائهم في بلد محايد طوال مدة النزاع ( م 24 من اتفاقية جنيف الرابعة ).
ويتبيّن من خلال الوقائع الثابتة بالصور والمشاهد التلفزيونية والتقارير الصحافية والأمنية أن القوات الإسرائيلية تنتهك في الحرب التي تشنها على لبنان كل هذه القواعد والأعراف التي تحكم النزاعات المسلحة كونها تستهدف بقصفها العشوائي المدنيين من دون تمييز بين مواقع عسكرية وأخرى مدنية ومن دون التمييز بين مقاتلين وغير مقاتلين وتقوم بضرب الجسور وبقطع كل المواصلات البرية بهدف منع وصول المؤن والأغذية والأدوية إلى المدنيين اللبنانيين المحاصرين. يضاف إلى ذلك أن هذه القوات وبدلا من أن تتخذ إجراءات معينة لتحييد المدنيين من الأطفال والنساء والعجزة ولحمايتهم أو لتسهيل عملية نقلهم إلى مناطق آمنة أو محايدة، راحت تلقي عليهم الأطنان من القنابل وتقطع عنهم المؤن والأغذية وتهجّرهم من منازلهم ومن قراهم ومدنهم وترتكب بحقهم أبشع الجرائم وأخطرها ( جرائم حرب ) التي يعاقب عليها القانون الدولي الجنائي، ما يؤلّف خرقا فاضحا وخطيرا لكل قواعد قانون النزاعات المسلحة أو للقانون الدولي الإنساني.
ه – مخالفة مبدأ تناسب الوسيلة العسكرية المستعملة مع حجم الاعتداء وخطورته.
الكل يسلّم بأن الحرب التي تشنها إسرائيل ضد لبنان تتخطى بمداها وبنوع الأسلحة والوسائل العسكرية المستعملة وكثافة القصف الجوي الذي لجأ إليه الجيش الإسرائيلي في عملياته الحربية ضد المواطنين المدنيين والبنى التحتية وشبكة الاتصالات الهاتفية السلكية واللاسلكية ومحطات البث الإذاعي والتلفزيوني وغيرها، حجم وخطورة العملية العسكرية التي نفذتها المقاومة ضد القوات العسكرية الإسرائيلية والتي كمنت في خطف جنديين إسرائيليين وقتل سبعة جنود آخرين. وهذا ما يخالف مبدأ تناسب الوسائل العسكرية المستعملة مع حجم وخطورة الاعتداء أو الخطر الذي تتعرض له الدولة التي تلجأ إلى استعمال القوة العسكرية. ويقضي هذا المبدأ بعدم الإفراط في استعمال القوة العسكرية ووسائل القتال بحجم لا يتناسب مع خطورة الوضع العسكري أو الصفة العسكرية للهدف المقصود. ومن هذا المنطلق يضع قانون النزاعات المسلحة لزاما على أطراف النزاع ببذل رعاية متواصلة في إدارة العمليات العسكرية من أجل تفادي إلحاق الأذى بالمدنيين وبالامتناع عن اتخاذ قرار بشن هجوم عسكري قد يتوقع منه أن يحدث، بشكل عرضي، خسائر في الأرواح بين المدنيين أو إلحاق الأذى بهم أو بممتلكاتهم. كما أن قواعد قانون النزاعات المسلحة تفرض بأن يلغى أو يعلّق أي هجوم عسكري إذا تبيّن أن الهدف المتوخى من ضربه ليس هدفا عسكريا أو قد ينتج منه، بصورة عرضية، ضرر وخسائر بشرية أو مادية مدنية. وهذا ما تؤكّد عليه المادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين التي تنص على أنه " يحظّر على دولة الاحتلال أن تدمّر أي ممتلكات خاصة ثابتة أو منقولة تتعلق بأفراد أو جماعات، أو بالدولة أو السلطات العامة، أو المنظمات الاجتماعية أو التعاونية، إلا إذا كانت العمليات الحربية تقتضي حتما هذا التدمير".
ويظهر من خلال طبيعة العمليات الحربية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في لبنان إن الوسائل العسكرية التي يستعملها في هذه العمليات لا تتناسب البتة مع خطورة الأعمال التي قامت بها المقاومة ولا حتى مع الوسائل الحربية المستخدمة من قبل هذه المقاومة التي لا تمتلك كالجيش الإسرائيلي كافة الأسلحة والأعتدة الحربية المتطورة ولا الدبابات ولا الطيران الحربي الذي تلجأ إليه إسرائيل بصورة أساسية في هذه المعركة، مما يعتبر خرقا فاضحا لقواعد قانون النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية وخصوصا أن القوات الإسرائيلية، ووفقا لمعلومات صحافية ودولية، لجأت إلى استعمال أسلحة محرّمة دوليا في هذه الحرب ضد المدنيين اللبنانيين ولاسيما منها القنابل الفسفورية والعنقودية.
ثانيا: انتهاك القواعد الأساسية لحقوق الإنسان
تأثر القانون الدولي الإنساني، فيما يتعلق بحماية المدنيين وضحايا الحروب وبأسلوب إدارة العمليات العسكرية، بالصكوك الأساسية المعنية بحقوق الإنسان ولاسيما منها الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان والاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وذلك على أساس أن للإنسان التمتع بحقوقه اللصيقة بآدميته وكرامته البشرية على قدم المساواة في زمن الحرب كما في زمن السلم.
لذلك فان هناك تقارب كبير بين القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، إذ كلاهما يعنى بحماية حق كل إنسان في الحياة والسلامة البدنية والمعنوية والكرامة الإنسانية مهما كانت الظروف. ولكن بحكم طبيعة القانون الدولي الإنساني ( الحد من المعاناة في النزاعات المسلحة)، فان هذا القانون يضم أحكاما أكثر تحديدا وخصوصية لجهة النزاعات المسلحة من تلك الواردة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق المتعلقة بحماية حقوق الإنسان عامة. ويذكر هنا على سبيل المثال الأحكام المتصلة بوسائل وأساليب القتال. ورغم التمايز بين قانون النزاعات المسلحة وقانون حقوق الإنسان، هناك تكامل بين المبادئ والقواعد التي يتضمناها وخصوصا لجهة الأهداف المشتركة والأساسية ألا وهي حماية الإنسان في حقوقه الإنسانية أي في حياته وسلامته البدنية وحريته وكرامته الإنسانية ( أ) واتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع حد للانتهاكات التي تخرق هذه الحقوق وقانون النزاعات المسلحة، ومحاكمة مرتكبي هذه الانتهاكات وفقا لأحكام القانون الدولي الجنائي ( ب).
أ- الحقوق المحمية
تحقيقا للأهداف السامية المذكورة أعلاه، نصت المادة الثالثة من الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان على أن " لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه". وتحرّم المادة الخامسة من الإعلان ذاته تعريض أي إنسان للتعذيب أو للعقوبات والمعاملة القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة الإنسانية. ويقضي الإعلان أيضا بمعاملة الأشخاص معاملة إنسانية دون أي تمييز قائم على العرق أو الجنسية أو الجنس أو الانتماء السياسي أو المعتقدات الدينية، وخصوصا الأشخاص الذين تشملهم الحماية بموجب القانون الدولي الإنساني أي الأشخاص المحميين بموجب المادة الرابعة من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب. وهذا ما جاء التأكيد عليه في المادة 27 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تنص على أنه " للأشخاص المحميين في جميع الأحوال حق الاحترام لأشخاصهم وشرفهم وحقوقهم العائلية وعقائدهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم. ويجب معاملتهم في جميع الأوقات معاملة إنسانية، وحمايتهم بشكل خاص ضد جميع أعمال العنف أو التهديد، وضد السباب وفضول الجماهير. ويجب حماية النساء بصفة خاصة ضد أي اعتداء على شرفهن، ولاسيما ضد الاغتصاب والإكراه على الدعارة وأي هتك لحرمتهن. ومع مراعاة الأحكام المتعلقة بالحالة الصحية والسن والجنس، يعامل جميع الأشخاص المحميين بواسطة طرف النزاع الذي يخضعون لسلطته، بنفس الاعتبار دون تمييز ضار على أساس العنصر أو الدين أو الآراء السياسية".
وتجدر الإشارة إلى أن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يؤكّد على ما جاء في الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان من حيث حماية حق الأشخاص بالحياة وبالسلامة البدنية وبالكرامة الإنسانية، إذ نصت المادة 6-1 منه على أن " لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة، ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي". كما جاء في مادته السابعة أنه " لا يجوز إخضاع أي فرد للتعذيب أو لعقوبة أو لمعاملة فظة أو غير إنسانية أو مهينة...". ورغم أن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يخوّل للدول في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تهدد كيان الدولة الحد من بعض الحقوق، فهو ينص في البند الأول من مادته الرابعة على حصر استعمال هذا الحق ضمن حدود التزامات القانون الدولي الإنساني وشرط أن لا تتنافى الإجراءات المتخذة من قبل الدولة المعنية والتي تحد من حقوق الإنسان مع قواعد القانون الدولي الإنساني وأن لا تتضمن تمييزا على أساس العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الديانة أو الأصل الاجتماعي فحسب.
والى جانب الصكوك الدولية المذكورة أعلاه والتي تعنى بحماية حقوق الإنسان، فان القانون الدولي الإنساني الهادف إلى ضمان معاملة الإنسان في جميع الأحوال معاملة إنسانية في زمن الحرب دون أي تمييز ضار يقوم على العنصر أو اللون أو الدين أو المعتقد أو الجنس أو المولد أو الثروة أو أي معيار آخر، قد تطور بفضل ما يعرف بقانون " جنيف" الذي يضم الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية الموضوعة تحت رعاية اللجنة الدولية للصليب الأحمر والتي تهتم أساسا بحماية ضحايا الحرب، وبقانون " لاهاي" الذي يهتم بالنتائج التي انتهت إليها مؤتمرات السلم التي عقدت في عاصمة هولندا ويتناول أساس الأساليب والوسائل الحربية المسموح بها، وكذلك بفضل مجهود الأمم المتحدة لضمان احترام حقوق الإنسان أثناء النزاعات المسلحة والحد من استخدام أسلحة معينة لعدم مراعاتها إنسانية الإنسان.
وبالتأسيس على المبادئ الأساسية الهادفة إلى حماية حقوق الإنسان في زمن الحرب والمنصوص عليها في اتفاقيات جنيف الأربع وفي البروتوكولين الملحقين بهذه الاتفاقيات في العام 1977، يقتضي أن لا تتنافى مقتضيات الحرب مع احترام الذات الإنسانية وينبغي على أطراف النزاع احترام وحماية الحقوق التالية:
احترام مبدأ حصانة الذات البشرية، مما يعني أنه لا يجوز اعتبار الحرب مبررا للاعتداء على حياة من لا يشاركون في القتال أو الذين لم يعودوا قادرين على ذلك.
منع التعذيب بشتى أنواعه، ويتعيّن على الطرف الذي يحتجز رعايا العدو أن يطلب منهم البيانات المتعلقة بهويتهم فقط، دون إجبارهم على ذلك، وأن يعاملهم معاملة إنسانية حسنة ويتيح الفرصة للجنة الدولية للصليب الأحمر زيارتهم والإطلاع على أوضاعهم.
احترام الشرف والحقوق العائلية والمعتقد والتقاليد. وتكتسب الأخبار العائلية أهمية خاصة في القانون الإنساني الذي يوجب تسهيل عملية التواصل بين كافة المدنيين الذين حوصروا في منطقة كانت مسرحا للعمليات العسكرية.
توفير الأمان والطمأنينة وحظر الأعمال الانتقامية والعقوبات الجماعية واحتجاز الرهائن.
منع استغلال المدنيين واستخدامهم لحماية أهداف عسكرية.
حظر النهب والهجومات العسكرية العشوائية والأعمال الانتقامية.
عدم التعرّض للملكية الفردية وعدم قصف المنشآت المدنية والمنازل والممتلكات.
ب-الانتهاكات والإجراءات الواجب اتخاذها لمعاقبتها.
من الثابت أن العمليات العسكرية التي تنفذها إسرائيل ضد لبنان تنتهك كل حقوق الإنسان المشار إليها أعلاه والمنصوص عليها في المواثيق والاتفاقات الدولية المعنية بحماية هذه الحقوق، وهي تحمل بشكل واضح اعتداء على حق المدنيين اللبنانيين بالحياة وبالسلامة المدنية، ذلك أنها تستهدف في الدرجة الأولى المدنيين العزّل والمسالمين والعجزة والنساء والأطفال من دون تمييز. هذا بالإضافة إلى أن الجيش الإسرائيلي لا يتوانى عن استعمال شتى أنواع الأسلحة المدمرة ومنها المحظورة دوليا ضد المدنيين وعن ضرب المنشآت المدنية والبيوت الآمنة وشبكة المواصلات ومحطات التلفزة والإذاعات والصحافيين بشكل عشوائي ومنظّم وبربري، ما يؤسّس اعتداء فاضحا على حق الإنسان في الحياة وفي سلامته البدنية وفي حريته الشخصية بالتنقل دون قيود وبممارسة مهنته أو عمله بحرية. ثم أن الاعتداءات المذكورة تستهدف بصورة خطيرة الذات والكرامة الإنسانية كونها تهدف إلى إذلال الشعب اللبناني وعزله عن محيطه وعن العالم عن طريق دك الطرقات والجسور وشبكة الاتصالات وتجويع المدنيين وقطع الأغذية والأدوية والمساعدات الإنسانية عنهم وتهجير قسم كبير منهم، هذا إضافة إلى مهاجمة المدنيين بالقصف العشوائي والمركّز لقتلهم وترويعهم وإذلالهم، مما يؤلّف انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وجرائم حرب يعاقب عليها القانون الدولي الجنائي.
إن هذه الاعتداءات والانتهاكات توجب على الأمم المتحدة بأن لا تقف موقف المتفرّج وبأن تقوم باتخاذ الإجراءات اللازمة التي من الواجب تطبيقها في حالات مماثلة وفقا لما ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة وذلك لوضع حد للحالة التي تهدد الأمن والسلم والدوليين. ذلك ان من أولى موجبات مجلس الأمن في الأمم المتحدة هي اتخاذ كل الإجراءات اللازمة من أجل التوصل إلى وقف فعلي للاعتداءات ولإطلاق النار أو على الأقل من أجل دعوة أطراف النزاع إلى الالتزام بوقف فوري لإطلاق النار تطبيقا لنص المادتين 39 و 40 من ميثاق الأمم المتحدة. ولا يجوز لمجلس الأمن أن يستمر في ترك الأمور على حالها وأن يلتزم هذا الصمت المذهل أمام هول المجازر المرتكبة بحق الشعب اللبناني، إذ أن هذا الموقف اللامبالي حتى لا نقول المؤيد للعدوان هو الذي يشجّع دولة إسرائيل على متابعة عملياتها العسكرية العدوانية. فالمادة 40 من ميثاق الأمم المتحدة تحث مجلس الأمن، منعا لتفاقم الوضع الذي يهدد الأمن والسلم الدوليين، على اتخاذ التدابير المؤقتة اللازمة لإيقاف النزاع المسلح أو على الأقل لوضع حد للانتهاكات الخطيرة التي تطال من حقوق الإنسان ومن الأمن الدولي على أن لا يحسب لعدم أخذ المتنازعين بهذه التدابير المؤقتة حسابه. كما لمجلس الأمن أن يتخذ التدابير العقابية اللازمة التي لا تستلزم اللجوء إلى استعمال القوة بحق الطرف الذي يهدد الأمن والسلم الدوليين تطبيقا للمادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة. أما إذا رأى أن هذه التدابير لم تف بالغرض، جاز له أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ الأمن والسلم الدولي. ومن هذا المنطلق، يمكن القول أنه، أمام هول الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي الإنساني ولحقوق الإنسان، لم يعد مسموحا لمجلس الأمن الوقوف موقف العاجز عن ضبط الوضع الأمني وعن وضع حد لهذه الحالة العسكرية الخطيرة التي تهدد الأمن والسلم الدولي في المنطقة نزولا عند رغبة بعض الدول الفاعلة في هذه المرجعية الدولية.
هذا من جهة، أما من جهة ثانية فان من واجب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بالنظر إلى فظاعة الانتهاكات الواقعة على القانون الدولي الإنساني وعلى قواعد الحرب، أن تجري اتصالا سريا مع السلطات المسؤولة عن هذه الانتهاكات. وبما أن هذه الانتهاكات جسيمة ومتكررة وحتى منهجية ومنظمة ومؤكدة على وجه اليقين، وبما أن الاتصالات التي أجرتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر لم تساعد حتى الآن في تحسين الوضع، يكون من واجب اللجنة اتخاذ موقف علني تدين فيه هذا الانتهاك الخطير للقانون الدولي الإنساني ولحقوق الإنسان، ذلك أن هذا الإعلان يخدم مصالح الأشخاص المدنيين المتضررين والمهددين في حياتهم بهذه الانتهاكات. هذا ولو كان اللجوء إلى هذا الإجراء يعد أمرا استثنائيا. يضاف إلى ذلك ضرورة مقاضاة مرتكبي هذه الانتهاكات بجرائم حرب وذلك عن طريق ملاحقتهم أمام المحاكم الجزائية الوطنية المعنية أو أمام محكمة جزائية دولية خاصة Ad Hoc على غرار المحكمة الجزائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة والمحكمة الجزائية الدولية الخاصة برواندا. كما يمكن لمجلس الأمن ( م 13 من اتفاقية روما الموقعة بتاريخ 18 تموز 1998 ) طلب ملاحقة ومحاكمة المسؤولين عن هذه الانتهاكات والاعتداءات الخطيرة الواقعة على القانون الدولي الإنساني والتي تستهدف المدنيين اللبنانيين أمام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة التي أنشئت بموجب اتفاقية روما بتاريخ 18 تموز سنة 1998 وحيث بدأت العمل في لاهاي ابتداء من أول تموز سنة 2002 على محاكمة الأشخاص الملاحقين بجرائم الحرب وضد الإنسانية وبجرائم الابادة الواقعة بعد هذا التاريخ.
على المجتمع الدولي الذي طالما تغنّى بالديمقراطية وبالحريات وبحقوق الإنسان والذي من واجبه الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين وحماية الإنسانية أن يتحرك فعلا لوقف الحرب التي تشنها إسرائيل على المدنيين اللبنانيين، وأن لا يقف موقف شاهد الزور على هذه الحالة الخطيرة وعلى المجزرة التي يتعرّض لها الشعب اللبناني وأن يبرهن بأن العدالة الدولية ليست رهينة المصالح الدولية وليست خاضعة لعواصم القرار، وإلا فرحمة الله على هذه العدالة الدولية المسيرة وعلى الحقوق والديمقراطيات في العالم وعلى الإنسانية التي تتعرّض لأبشع الاعتداءات والانتهاكات في لبنان.
١٦/١٢/٢٠٠٥
جبران لم يمت
جبران لم يمت
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
رحل جبران حاملا قلمه على كفنه المضرّج بدماء العنفوان والكرامة والعزة التي لا تقهر.
رحل جبران مع إشراق شمس الحرية ومع نسمات شرقية لامست محياه ورشفت من جسده كالفراشات عطر الاستشهاد لتنشره على مساحة الوطن وفي كل أرجائه ذخيرة وطنية لا تنضب.
رحل شهيد الكلمة الحرة ورائدها مرفوع الجبين، منصور اليمين، رحل في غفلة الحلم ليحلّق كطير الفنيق في سماء لبنان الصافية كصفاء ذهنه النيّر وفكره الخالد.
سقط جبران عن جواده سقوط الفارس المقدام الذي لا يحسب للموت أي حساب، هوى دفاعا عن لبنان الذي سكر بحبه حتى الثمالة وعن الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية وكرامة اللبنانيين.
إن يد الغدر والإثم التي امتدت إلى جبران ورفاقه استطاعت أن تقتل جسده، لكنها لم ولن تستطيع أن تصرع وجوده لأنه بروحه وبأفكاره وبشجاعته اللامتناهية سيبقى حيا فينا، في كل لبناني شريف مناضل ومحب للحرية.
سيبقى فكر جبران ينبض وينضح بالعطاء وبالوفاء في كل كلمة تكتب في صحيفة النهار، صحيفة الأحرار والشرفاء، صحيفة الدفاع عن الحريات والديمقراطية والتعددية الفكرية، الصحيفة التي لم تبخل بأن تقدّم الغالي والنفيس فداء عن لبنان وعن سيادته واستقلاله.
" النهار" لن تتحول إلى ليل حالك كما خطط القاتل الجبان، بل ستبقى الضوء المنير في دروب الحق والحقيقة، وستبقى تعمل في وضح النهار دفاعا عن حرية الكلمة وعن حقوق اللبنانيين الأساسية وعن كرامة الإنسان. ستكمل " النهار" المسيرة على خطى جبران وستنشر نور الحرية وفكره في كل مكان وزمان وسيتحول هذا النور إلى شعلة أبدية لا تنطفئ. هم وحدهم قتلة جبران الجبناء من يتستّر بظلمة الليل المدلهم كالخفافيش وبعتمة الإرهاب الحاقد والجبان. هم وحدهم من يختبئ في جحور الخوف من الحقيقة، ذلك أنهم أعداء الحق والكلمة الحرة التي ترعبهم.
أخافهم قلم جبران الحر، خافوا من كلمات الحق المدوية التي كان يكتبها وينطق بها بكل شجاعة وإقدام، خافوا من طلته البهية الشامخة كأرز لبنان الأبي ومن تصميمه وإيمانه اللامحدود بوطن واحد وموحّد، فقتلوا جسده بطريقة جبانة ووحشية تدل على مدى بربر يتهم ومعاداتهم للإنسانية.
جبران لم يمت وستبقى روحه الطاهرة ترفرف فوق ربى لبنان تعانق الياسمين والرياحين والأقحوان إلى الأبد. ستحيا نفسه في جنة الخلد لأنه أصبح قديسا من قديسي لبنان، لأنه مات فداء عن كل لبناني يحب وطنه ويعشق الحرية ولأنه قدّم نفسه قربانا على مذبح الوحدة الوطنية والقرار اللبناني الحر.
نم يا شهيد الكلمة الحرة قرير العين، فنحن نعاهدك يا أخي أننا على العهد باقون، لن نخاف ولن يتزعزع إيماننا بالمسيرة التي قدت، مسيرة الحرية وتوحيد اللبنانيين والعيش المشترك والدفاع عن سيادة واستقلال لبنان. سنبقى نقاوم حتى الرمق الأخير كل أساليب الترهيب والديكتاتورية ومحاولات تحويل النظام اللبناني إلى نظام " توتاليتاري". لن نخشى الموت، وليعلم القتلة الجبناء أننا على خطى جبران سنكمل المسيرة، وعلى هدى روح هذا المعلّم العظيم سندافع عن الحرية التي استشهد من أجلها.
لن أقول لك وداعا يا أخي جبران لأنك باق في مخيلتي، في كياني، في أفكاري وفي كل كلمة سيخطها قلمي دفاعا عن الحرية والديمقراطية.
أنت معنا طالما حلمنا بلبنان قوي موحد سيد حر ومستقل وكلما تنشّقنا نسيم لبنان الذي تبلل بعطر شهادتك.
أنت معنا في كل صبيحة تتمايل فيها نسمات شرقية آتية من وطن الأرز والعنبر والبخور. نرى محيّاك مع بزوغ كل فجر في عرف ديك النهار، ونحس بوجودك في كل كلمة نقرأها في صحيفة النهار، صحيفة الحرية والعنفوان.
ستبقى الشعاع الذي يحمل معه الحرية وبصيص الأمل بغد حالم وأفضل لبلدي لبنان.
لن أقول رحم الله جبران وإنما ليرحم ألعلي القدير قتلة جبران الجبناء وليرأف بعقولهم وبنفوسهم الميتة وبضمائرهم الخالية من الإنسانية علهم يتعظون ويرتدون.
هي نفس جبران الأبية والخالدة التي توزّع رحمة وشفقة على القاتلين الغاشمين، على الحاقدين الرعاديد الذين لا يعرفون من الإنسانية سوى اسمها الذي يلقي الرعب في نفوسهم الخاسئة. هو جبران المنتصر باسم الحق والكلمة، باسم قلمه الحر الذي ستبقى كلماته خالدة مدوية ومحفورة في عقولنا وضمائرنا وفي سجل أمجاد لبنان، حيث لا تضمحل.
فلنفرح ونهلل لأن جبران لم يمت. ولنردد:
نقسم بالله العظيم
مسحيين ومسلمين
أن نبقى موحدين
أن نلاحق المجرمين
أن نقاوم المحتلين
إلى أبد الآبدين
دفاعا عن لبنان العظيم
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
رحل جبران حاملا قلمه على كفنه المضرّج بدماء العنفوان والكرامة والعزة التي لا تقهر.
رحل جبران مع إشراق شمس الحرية ومع نسمات شرقية لامست محياه ورشفت من جسده كالفراشات عطر الاستشهاد لتنشره على مساحة الوطن وفي كل أرجائه ذخيرة وطنية لا تنضب.
رحل شهيد الكلمة الحرة ورائدها مرفوع الجبين، منصور اليمين، رحل في غفلة الحلم ليحلّق كطير الفنيق في سماء لبنان الصافية كصفاء ذهنه النيّر وفكره الخالد.
سقط جبران عن جواده سقوط الفارس المقدام الذي لا يحسب للموت أي حساب، هوى دفاعا عن لبنان الذي سكر بحبه حتى الثمالة وعن الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية وكرامة اللبنانيين.
إن يد الغدر والإثم التي امتدت إلى جبران ورفاقه استطاعت أن تقتل جسده، لكنها لم ولن تستطيع أن تصرع وجوده لأنه بروحه وبأفكاره وبشجاعته اللامتناهية سيبقى حيا فينا، في كل لبناني شريف مناضل ومحب للحرية.
سيبقى فكر جبران ينبض وينضح بالعطاء وبالوفاء في كل كلمة تكتب في صحيفة النهار، صحيفة الأحرار والشرفاء، صحيفة الدفاع عن الحريات والديمقراطية والتعددية الفكرية، الصحيفة التي لم تبخل بأن تقدّم الغالي والنفيس فداء عن لبنان وعن سيادته واستقلاله.
" النهار" لن تتحول إلى ليل حالك كما خطط القاتل الجبان، بل ستبقى الضوء المنير في دروب الحق والحقيقة، وستبقى تعمل في وضح النهار دفاعا عن حرية الكلمة وعن حقوق اللبنانيين الأساسية وعن كرامة الإنسان. ستكمل " النهار" المسيرة على خطى جبران وستنشر نور الحرية وفكره في كل مكان وزمان وسيتحول هذا النور إلى شعلة أبدية لا تنطفئ. هم وحدهم قتلة جبران الجبناء من يتستّر بظلمة الليل المدلهم كالخفافيش وبعتمة الإرهاب الحاقد والجبان. هم وحدهم من يختبئ في جحور الخوف من الحقيقة، ذلك أنهم أعداء الحق والكلمة الحرة التي ترعبهم.
أخافهم قلم جبران الحر، خافوا من كلمات الحق المدوية التي كان يكتبها وينطق بها بكل شجاعة وإقدام، خافوا من طلته البهية الشامخة كأرز لبنان الأبي ومن تصميمه وإيمانه اللامحدود بوطن واحد وموحّد، فقتلوا جسده بطريقة جبانة ووحشية تدل على مدى بربر يتهم ومعاداتهم للإنسانية.
جبران لم يمت وستبقى روحه الطاهرة ترفرف فوق ربى لبنان تعانق الياسمين والرياحين والأقحوان إلى الأبد. ستحيا نفسه في جنة الخلد لأنه أصبح قديسا من قديسي لبنان، لأنه مات فداء عن كل لبناني يحب وطنه ويعشق الحرية ولأنه قدّم نفسه قربانا على مذبح الوحدة الوطنية والقرار اللبناني الحر.
نم يا شهيد الكلمة الحرة قرير العين، فنحن نعاهدك يا أخي أننا على العهد باقون، لن نخاف ولن يتزعزع إيماننا بالمسيرة التي قدت، مسيرة الحرية وتوحيد اللبنانيين والعيش المشترك والدفاع عن سيادة واستقلال لبنان. سنبقى نقاوم حتى الرمق الأخير كل أساليب الترهيب والديكتاتورية ومحاولات تحويل النظام اللبناني إلى نظام " توتاليتاري". لن نخشى الموت، وليعلم القتلة الجبناء أننا على خطى جبران سنكمل المسيرة، وعلى هدى روح هذا المعلّم العظيم سندافع عن الحرية التي استشهد من أجلها.
لن أقول لك وداعا يا أخي جبران لأنك باق في مخيلتي، في كياني، في أفكاري وفي كل كلمة سيخطها قلمي دفاعا عن الحرية والديمقراطية.
أنت معنا طالما حلمنا بلبنان قوي موحد سيد حر ومستقل وكلما تنشّقنا نسيم لبنان الذي تبلل بعطر شهادتك.
أنت معنا في كل صبيحة تتمايل فيها نسمات شرقية آتية من وطن الأرز والعنبر والبخور. نرى محيّاك مع بزوغ كل فجر في عرف ديك النهار، ونحس بوجودك في كل كلمة نقرأها في صحيفة النهار، صحيفة الحرية والعنفوان.
ستبقى الشعاع الذي يحمل معه الحرية وبصيص الأمل بغد حالم وأفضل لبلدي لبنان.
لن أقول رحم الله جبران وإنما ليرحم ألعلي القدير قتلة جبران الجبناء وليرأف بعقولهم وبنفوسهم الميتة وبضمائرهم الخالية من الإنسانية علهم يتعظون ويرتدون.
هي نفس جبران الأبية والخالدة التي توزّع رحمة وشفقة على القاتلين الغاشمين، على الحاقدين الرعاديد الذين لا يعرفون من الإنسانية سوى اسمها الذي يلقي الرعب في نفوسهم الخاسئة. هو جبران المنتصر باسم الحق والكلمة، باسم قلمه الحر الذي ستبقى كلماته خالدة مدوية ومحفورة في عقولنا وضمائرنا وفي سجل أمجاد لبنان، حيث لا تضمحل.
فلنفرح ونهلل لأن جبران لم يمت. ولنردد:
نقسم بالله العظيم
مسحيين ومسلمين
أن نبقى موحدين
أن نلاحق المجرمين
أن نقاوم المحتلين
إلى أبد الآبدين
دفاعا عن لبنان العظيم
٧/٨/٢٠٠٥
المجلس العدلي: ضرورة أمنية أم محكمة استثنائية مخالفة لقواعد المحاكمة العادلة والنزيهة ولكل الاتفاقات الدولية المعنية بحماية حقوق الانسان؟
المجلس ألعدلي: ضرورة أمنية أم محكمة استثنائية مخالفة لقواعد المحاكمة العادلة والنزيهة ولكل الاتفاقات الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان ؟
النهار 7 آب 2005 ( صفحة آفاق وأبعاد).
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
أستاذ محاضر في القوانين الجزائية والإجراءات الجزائية في جامعة روبير شومان- فرنسا
محام عام أسبق- فرنسا
محام بالاستئناف
بصدور قانون العفو عن الجرائم التي حُكم بها الدكتور سمير جعجع ورفيقه جريس الخوري وبصدور قانون عفو آخر عن الجرائم التي كانت مسندة إلى موقوفي الضنية ومجدل عنجر، بدأت تطرح على بساط البحث مسألة مصداقية التحقيقات العدلية والأحكام الصادرة على أساسها عن المجلس العدلي ومدى تطابقها مع القواعد والأصول التي تحكم التحقيقات والمحاكمات الجزائية العادلة وغير المتحيزة، وخصوصا أن قسما لا يستهان به من اللبنانيين يؤكّد على أن الحكم الذي صدر بحق الدكتور سمير جعجع كان حكما سياسيا جائرا أكثر مما هو حكم قضائي صادر عن محكمة عادلة ونزيهة وفقا للأصول والقواعد المنصوص عليها في الاتفاقات والعهود الدولية المعنية بحماية حقوق الموقوفين والمتهمين.
ولو لم يكن هذا الحكم سياسيا بامتياز وجائرا ومغايرا لأبسط قواعد وأصول المحاكمات الجزائية ولحقوق الدفاع ولقاعدة إجراء المحاكمة الجزائية على درجتين أمام محكمة مستقلة وغير متحيزة، لما كان تدخل المشترع اللبناني لإصدار قانون عفو عن الجرائم التي حكم بها الدكتور سمير جعجع في أول فرصة أصبحت فيها السلطات اللبنانية والمؤسسات الدستورية حرة وغير خاضعة لقبضة الوصاية السورية.
إن التحقيقات العدلية التي يعتقد أنه رُكّبت بعض عناصر الاتهام والإثبات فيها بتدخل سياسي وأمني فاضح في ملفات الدكتور سمير جعجع الجزائية، والأحكام القضائية المغايرة لأبسط قواعد المحاكمة العادلة والنزيهة التي صدرت بحقه عن المجلس العدلي على أساس التحقيقات المذكورة أعلاه، ليست الدليل الوحيد على وجود ثغرات قانونية خطيرة في النصوص التي تحكم آلية إحالة الجرائم على الهيئة القضائية المذكورة وكيفية تنفيذ الإجراءات والتحقيقات الجارية أمامها وصدور الأحكام عنها. فملف العماد عون المالي الذي أحيل على المجلس العدلي وترك مفتوحا بطريقة كيدية وسياسية بحقه على مدى خمس عشرة سنة والذي استعمل أداة للتهويل عليه وعلى تياره في يد سلطة التبعية وسلطة الوصاية والذي لم يبت فيه من قبل محقق عدلي إلا مؤخرا وبعد أن تحرر لبنان من النظام الاستبدادي حيث تقرر كف التعقبات الجزائية في هذه القضية لعدم تأسيس الأفعال المنسوبة إلى العماد عون لأية جريمة جزائية، يؤلّف هو أيضا إثباتا دامغا على مدى تحكّم السلطة السياسية بالمجلس العدلي.
وقضية المحكوم عليه يوسف شعبان الذي لا يزال ينفّذ حكما بالسجن لمدى الحياة كان قد صدر بحقه عن المجلس العدلي منذ إحدى عشرة سنة في ملف اغتيال الدبلوماسي الأردني في بيروت، قد تشكّل هي أيضا دليلا على مدى مخالفة نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي لقواعد المحاكمة العادلة ولاسيما منها حقوق الدفاع وقرينة البراءة وإجراء المحاكمة على درجتين وامكان الطعن بالأحكام الصادرة عن الهيئة القضائية الحاكمة أمام قضاء من درجة أعلى، لاسيما وان السلطات القضائية الأردنية تمكنت من كشف هوية قتلة الدبلوماسي الأردني الحقيقيين وحكمت عليهم بالإعدام ونفّذت هذه العقوبة بحقهم منذ فترة.
إن النائب وليد عيدو، وإدراكا منه لهذا الخلل الذي يصيب نظام وآلية المحاكمات الجزائية أمام المجلس العدلي، تقدّم، بعد طول انتظار، باقتراح قانون يقضي بتعديل نص المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني التي تنص على عدم قبول الأحكام الصادرة عن المجلس العدلي لأي طريق من طرق المراجعة القضائية العادية أو غير العادية بحيث تصبح هذه الأحكام قابلة لطريق واحدة من طرق المراجعة استثنائيا، هي إعادة المحاكمة في حال توافرت شروطها المنصوص عليها في المادة 328 من القانون نفسه.
ولكن، رغم تثميننا لهذا الاقتراح الذي قد يعتبر خطوة خجولة وغير كافية نحو جعل نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي نظاما متطابقا مع قواعد المحاكمة العادلة وغير المتحيزة المنصوص عليها في الاتفاقات والعهود الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان، لا بد أن نشير إلى أن الثغرات التي تعتري نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي والمخالفة للقواعد والمبادئ الأساسية للمحاكمة الجزائية العادلة لا تنحصر فقط بأحكام المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية إنما تتعداها أيضا إلى آلية تأليف المجلس العدلي والى آلية إحالة الملفات الجزائية على هذه المرجعية القضائية والى كيفية إجراء التحقيقات العدلية أمام المحقق العدلي.
أولا: مخالفة آلية تأليف المجلس العدلي لقاعدة إجراء المحاكمة الجزائية أمام محكمة عادلة مستقلة وغير ومتحيزة.
يفترض بالقضاء الجزائي عموما أن يكون مستقلا تمام الاستقلال عن السلطة الإجرائية وعن السلطات السياسية كافة في عملية أدائه للمهمات القضائية الموضوعة على عاتقه، وذلك عملا بمبدأ فصل السلطات وبالمبدأ الدستوري القاضي باستقلال السلطة القضائية والذي يلزم، على حد ما جاء في الفقرة الأخيرة من المادة 20 من الدستور اللبناني، بأن يكون القضاة مستقلين في إجراء وظائفهم. ويقوم مبدأ استقلال القضاء على مقومات النظام الديمقراطي الذي تجسّده دولة القانون والمؤسسات الدستورية، وكل مساس بهذا المبدأ يؤدي إلى الانتقاص من شرعية القضاء ومن ثقة المتقاضين بفعالية العدالة. وتكرّس المادة العاشرة من الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان مبدأ استقلال القضاء وحياده بنصها على ان " لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظرا عادلا علنيا للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه". وجاء العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من مقدمة الدستور اللبناني بموجب القانون الدستوري الرقم 18 تاريخ 21 أيلول 1990، ليضمن هذا الحق في مادته 14 -1 التي تنص على ما يأتي: " جميع الأشخاص متساوون أمام القضاء ولكل فرد الحق، عند النظر في أية تهمة جنائية ضده وفي حقوقه والتزاماته في إحدى القضايا القانونية، في محاكمة عادلة وعلنية بواسطة محكمة مختصة ومستقلة وحيادية قائمة استنادا إلى القانون...".
ويضع هذا العهد لزاما على كل دولة طرف فيه احترام قاعدة استقلال الهيئات القضائية ضمن إقليمها وذلك عن طريق عدم تدخل السلطات السياسية في عملية تشكيل هذه الهيئات ضمانا لمبدأ استقلال القضاء وإجراء المحاكمة أمام محكمة عادلة مستقلة وغير متحيزة. وقد خصص المجتمع الدولي بجميع هيئاته الرسمية والخاصة، خلال النصف الأخير من القرن العشرين، الكثير من الاهتمام بمسألة استقلال القضاء. وتمثل ذلك خصوصا في قيام لجنة الحقوقيين الدوليين في جنيف في العام 1978 بإنشاء مركز لاستقلال القضاء وتطوير مبادئ هذا الاستقلال في جميع أنحاء العالم وفق المعايير الدولية وفي تبني مؤتمر الأمم المتحدة المنعقد في ميلانو- ايطاليا بين 26 آب و 6 أيلول عام 1983 للإعلان العالمي المتعلق باستقلال المحاكم والصادر عن مؤتمر مونتريال-كندا في العام 1983 وأقرته لاحقا الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتاريخ 29 تشرين الثاني من السنة ذاتها.
إن آلية تأليف المجلس العدلي في لبنان تتعارض مع القواعد المشار إليها آنفا ولاسيما مع قاعدة استقلال المحاكم، إذ أن السلطة الإجرائية المتمثلة بمجلس الوزراء هي المرجعية التي يكون لها الكلمة الفصل في عملية تأليف المجلس العدلي. وبالفعل فان هذه الهيئة القضائية تتألف، عملا بأحكام المادة 357 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، من الرئيس الأول لمحكمة التمييز رئيسا ومن أربعة قضاة من محكمة التميز أعضاء يعينون بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى. ويلاحظ، مقارنة مع نص قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، إن المادة 357 المذكورة أعلاه توجب موافقة مجلس القضاء الأعلى بالنسبة لتعيين القضاة الأربعة أعضاء في المجلس العدلي، بينما كان نص المادة 364 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم والمادة 143 من قانون التنظيم القضائي الصادر بالمرسوم رقم 7855 تاريخ 16 تشرين الأول سنة 1961 لا يشير إلا إلى استشارة مجلس القضاء الأعلى في ما خص التعيينات المذكورة أعلاه. ولكن رغم هذا التعديل الذي يقضي بالحصول على موافقة مجلس القضاء الأعلى قبل اتخاذ مجلس الوزراء لقراره بتعيين أعضاء المجلس العدلي، فان هذه الآلية المتبعة في تأليف المجلس المذكور لا تؤمّن احترام قاعدة استقلال المحاكم الجزائية بالكامل إذ أن السلطة السياسية هي التي توافق أو لا توافق على تعيين أعضاء المجلس العدلي الذين سمح مجلس القضاء الأعلى بتسميتهم. وهذا ما يمكن ان يعد تدخلا في شؤون السلطة القضائية من قبل السلطة السياسية وما يؤدي إلى انتهاك قاعدة استقلال القضاء وقاعدة ضرورة إجراء المحاكمة أمام محكمة عادلة وغير متحيزة. فالسلطة السياسية التي يعود لها اختصاص إحالة بعض الجرائم الخطرة على المجلس العدلي، يهمها أن تضمن ملاحقة ومحاكمة من تعتبرهم خطرا على السلامة العامة وعلى الأمن العام أمام هيئة قضائية يمكنها التأثير عليها وذلك عن طريق اختيار أعضائها الذين قد يكونون أعضاء يدينون بالولاء لها. وعليه فان للسلطة السياسية طول الباع في عملية تأليف المجلس العدلي، إذ أن الرئيس الأول لمحكمة التمييز، الذي يعيّن رئيسا للمجلس العدلي بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى، يكون معيّنا مسبقا من قبل السلطة السياسية وحدها بوصفه رئيسا لمجلس القضاء الأعلى وعضوا حكميا في هذا المجلس. أما بالنسبة لأعضاء المجلس العدلي الأربعة فيعيّنون من بين قضاة محكمة التمييز بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى، ما يعني أن التعيين المذكور لا يتم دون اقتراح وزير العدل. والسؤال يطرح هنا عن الحل الواجب اعتماده في حال اختلاف وجهات النظر، حول تعيين هؤلاء القضاة الأعضاء في المجلس العدلي، بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى، وخصوصا ان نص المادة 357 من قانون أصول المحاكمات الجزائية لم يلحظ حلا لهذه المسألة، مما قد يفتح المجال أمام وزير العدل لعرقلة إجراءات تعيين أعضاء المجلس العدلي في حال عدم تأييده للتعيينات الموافق عليها من قبل مجلس القضاء الأعلى وذلك عن طريق عدم تقديم اقتراحه لمجلس الوزراء بتعيين القضاة المذكورين. هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فان المحقق العدلي الذي يتولى التحقيق يعيّن بقرار صادر عن وزير العدل بناء على موافقة مجلس القضاء الأعلى ( م 360 أ.م.)، ما يعد تدخلا في شؤون التحقيقات العدلية من قبل السلطة السياسية وان كان تعيين المحقق العدلي يحتاج إلى موافقة مجلس القضاء الأعلى. فموافقة مجلس القضاء الأعلى التي تسبق عملية تعيين أعضاء المجلس العدلي أو المحقق العدلي، تعتبر خطوة مهمة باتجاه تأمين استقلال المحاكم، ولكنها لا تعتبر كافية بما فيه الكفاية، إذ أن السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) تعيّن ثمانية قضاة من أصل مجموع الأعضاء الذين يشكّلون مجلس القضاء الأعلى ( عشرة أعضاء). أضف إلى ذلك أن المشترع لم يكتف بهذا القدر من تدخل السلطة السياسية في شؤون السلطة القضائية، بل انه اشترط أيضا أن تصادق السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) على صحة عضوية القاضيين اللذين تم انتخابهما ليؤلفا قسما من هيئة مجلس القضاء الأعلى وفقا لما تنص عليه المادة الثانية الجديدة، الفقرة (أ)، من قانون القضاء العدلي. وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن المجلس العدلي لا يتمتع بالاستقلالية التامة عن السلطة السياسية وان اشترط المشترع موافقة مجلس القضاء الأعلى على تعيين أعضائه كون هذا المجلس الأخير، ووفقا لتركيبته الحالية، يخضع لهيمنة السلطة السياسية ويُشكّل وفقا لرغباتها. وينتج من هذا الوضع تدخل واضح للسلطة السياسية في أمور السلطة القضائية لاسيما في الأمور صرف الداخلية للقضاء والمتعلقة بتشكيل المحاكم والهيئات القضائية المختصة. مما يناقض مبدأ فصل السلطات الدستوري ويحد من استقلال السلطة القضائية ويتعارض مع المبادئ الأساسية المعترف بها في مقدمة الدستور اللبناني وفي الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان وأهمها مبادئ فصل السلطات ونزاهة المحاكم واستقلالها وقرينة البراءة. لهذا السبب يقتضي أن تعدّل أصول تعيين القضاة وتشكيل المحاكم ولاسيما تشكيل مجلس القضاء الأعلى بحيث يصار إلى انتخاب رئيسه وأعضائه من بين القضاة ودون أي تدخل أو إشراف من قبل السلطة السياسية وفقا لشروط ومعايير يضع ضوابطها المشترع على أن تعهد لهذا المجلس وحده مهمة تأليف المحاكم ومنها طبعا المجلس العدلي، وذلك تأمينا لحسن سير العدالة واحتراما لقاعدة استقلال السلطة القضائية.
ولأن المجلس العدلي بتركيبته الحالية لا يعتبر هيئة قضائية مستقلة تمام الاستقلال عن السلطة السياسية ولا يشكل تاليا محكمة عادلة ونزيهة وغير متحيزة، لفتت لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان نظر الحكومة اللبنانية إلى الخلل الحاصل على صعيد تعيين القضاة وتأليف المحاكم واستقلال المؤسسات القضائية اللبنانية بتاريخ العاشر من نيسان 1997، إذ ورد في ملاحظات اللجنة المذكورة الموجهة إلى الحكومة المذكورة ما يأتي: " وبشكل أعم، تعرب اللجنة عن القلق إزاء استقلال وحياد القضاء في الدولة الطرف، وتلاحظ أن الوفد نفسه سلّم بأن الإجراءات التي تحكم تعيين القضاة، وبخاصة أعضاء مجلس القضاء الأعلى، غير مرضية أبدا، ويساور اللجنة أيضا القلق لأن الدولة الطرف ( أي الدولة اللبنانية) لا تؤمّن للمواطنين في الكثير من الحالات، وسائل انتصاف وإجراءات استئناف فعّالة بخصوص شكاويهم، وبالتالي، توصي اللجنة بأن تعيد الدولة الطرف النظر على سبيل الاستعجال، في الإجراءات التي تحكم تعيين أعضاء السلك القضائي بهدف ضمان استقلالهم الكامل".
ثانيا: انتهاك آلية إحالة الدعاوى على المجلس العدلي لحق النيابة العامة في تقدير استنسابية الملاحقة الجزائية ولمبدأ استقلال السلطة القضائية.
يؤلّف المجلس العدلي هيئة قضائية استثنائية إن كان لجهة آلية تشكيله وان كان لجهة كيفية إحالة الدعاوى عليه ولجهة إجراءات وأصول المحاكمة المنفذّة أمامه. وتحدد المادة 356 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد اختصاص المجلس العدلي، مستندة إلى ذات المعيار الذي نصت عليه سابقا المادة 363 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، وذلك بالنظر إلى طبيعة الجريمة المرتكبة ودرجة خطورتها. وعلى هذا الأساس، فان الجنايات والجنح التي تمس بالأمن الداخلي أو الخارجي للدولة، ونظرا لما تحمله من اعتداء خطير على أمن المجتمع وعلى النظام العام، تحال على المجلس العدلي لمحاكمتها بناء على مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء ( م 355 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد). وهي، وفقا لما جاء في أحكام المادة 356 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، كل الجرائم المنصوص عليها في المواد 270 وما يليها حتى المادة 336 ضمنا من قانون العقوبات ( الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي والداخلي والجرائم الواقعة على السلامة العامة دون الجرائم المتعلقة بالجمعيات السرية والتظاهرات وتجمعات الشغب وجرائم الاغتصاب والتعدي على حرية العمل)، والجرائم المنصوص عليها في القانون الصادر بتاريخ 11 كانون الثاني 1958 ( إثارة الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي، العصيان المسلح أو اجتياح مدينة أو قرية أو بعض أملاك الدولة، اقتناء أو حيازة المواد المتفجرة بقصد ارتكاب هذه الجرائم، أعمال الإرهاب)، والجرائم الناتجة من صفقات الأسلحة والأعتدة التي تعقدها وزارة الدفاع الوطني والجرائم المرتبطة بها ولاسيما الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة المنصوص عليها في المواد 351 إلى 366 ضمنا من قانون العقوبات ( الرشوة والاختلاس واستثمار الوظيفة)، وجرائم التزوير المنصوص عليها في المواد 453 إلى 472 ضمنا من قانون العقوبات وفي المادتين 138 و 141 من قانون العقوبات العسكرية ( تزوير، غش، وسرقة واختلاس).
وعليه تحال الدعاوى على المجلس العدلي بناء على مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء عملا بأحكام المادة 355 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد. مما يعني أن السلطة السياسية هي التي تقدّر وحدها ضرورة أو عدم ضرورة إحالة القضية على المجلس العدلي وفق معايير محض سياسية أو أمنية. وهذا يعني أيضا أن ليس للمتضرر الشخصي الحق بالادعاء المباشر أمام المجلس العدلي، إنما له أن يقيم دعواه المدنية تبعا للدعوى العامة المحرّكة أمام هذا القضاء الاستثنائي وفقا لأحكام المادة 363، الفقرة الأخيرة، من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد.
من جهة أخرى، ينتج من نص المادة 355 من القانون نفسه أنه لا يحق للمجلس العدلي أن ينظر تلقائيا في الجرائم الواقعة على أمن الدولة، إذ أن هذه القضايا لا تحال عليه إلا بقرار السلطة السياسية. فإذا ارتأت هذه السلطة إحالة الجريمة الواقعة على أمن الدولة على المجلس العدلي، تدّعي عند ذلك النيابة العامة التمييزية باسم المجتمع أمام المحقق العدلي عملا بأحكام المادة 361 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد. وعلى هذا الأساس، فان حق النيابة العامة بالادعاء العام يكون رهنا بإرادة السلطة السياسية وبحقها في التقدير في ما إذا كان يتوجب إحالة الجريمة المرتكبة على المجلس العدلي أم لا. هذا من جهة، أما من جهة ثانية فللسلطة السياسية أن تحدد وحدها طبيعة الجريمة المرتكبة وما إذا كانت تعود صلاحية النظر فيها للمجلس العدلي أم لا. ولها كذلك أن تقضي برفع يد القضاء العادي أو العسكري عن الدعوى التي تكون قيد النظر أمامه وبإحالتها على المجلس العدلي، وذلك تطبيقا لأحكام المادة 356، الفقرة الأخيرة، من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد.
وبهذا فان السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) تقرر وحدها ما إذا كانت الجريمة الواقعة تحمل اعتداء أم لا على امن الدولة، أو إذا كانت تتصف بالجريمة الإرهابية. وتقديرها لهذه الجهة يكون خاضعا بالتأكيد لاعتبارات سياسية وشخصية ولا يكون مستندا إلى معايير موضوعية أو قانونية، ما يؤدي إلى إحالة بعض الجرائم على المجلس العدلي دون الجرائم الأخرى، وان كانت هذه الأخيرة تحمل اعتداء فاضحا على أمن الدولة وعلى سلامة المجتمع. والدليل على ذلك هو أن مجلس الوزراء اللبناني أحال بعض القضايا على المجلس العدلي، ليس فقط بالنظر إلى طبيعة الجريمة وخطورتها وإنما أيضا بالنظر إلى شخص من وجهت إليه تهمة ارتكاب هذه الجرائم أو الاشتراك في ارتكابها، وكذلك خصوصا بالنظر إلى ما يمثّل من اتجاهات سياسية بالنسبة لفئات معيّنة من اللبنانيين ( ونذكر منها على سبيل المثال قضية الدكتور سمير جعجع وقضية العماد عون المالية). فكانت الإحالة في هذه القضايا على المجلس العدلي إحالة سياسية كيدية وانتقامية أكثر مما هي إحالة قضائية تهدف إلى محاربة الجريمة وحماية امن الدولة والمجتمع.
وما يزيد من هذا الوضع خطورة على استقلال السلطة القضائية هو أن النيابة العامة تكون مكبلة اليدين إزاء عملية إحالة الجرائم على المجلس العدلي، إذ لا يعود لها حق تقدير ملاءمة الملاحقة الجزائية أو حق التعديل في طبيعة الجريمة التي أسبغتها السلطة السياسية على الفعل المحال على المجلس المذكور، ما يناقض مبدأ استنسابية الملاحقة الجزائية المنصوص عليه في قانون أصول المحاكمات الجزائية. وهذا ما ينتج صراحة من عبارات المادة 361 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد التي تضع لزاما على النائب العام التمييزي موجب الادعاء دون أن تترك له حق الخيار بين الادعاء وعدم الادعاء: " يدّعي النائب العام التمييزي لدى المحقق العدلي بالجريمة ويحيل إليه ملف التحقيقات". إلى ذلك فان هذا الإجراء غير الطبيعي يؤكّد مدى إخلاله بقاعدة استقلال القضاء، هذا عدا عن انه يحمل اعتداء سافرا على حقوق الإنسان وعلى حقوق الدفاع كونه يؤلّف سلاحا خطيرا في يد السلطة السياسية قد تسلّطه متى تشاء على المواطنين بهدف الانتقام السياسي ضد من يناصب النظام الحاكم العداء أو المعارضة السياسية.
ثالثا: مخافة إجراءات التحقيق العدلي للقواعد وللأصول العامة للمحاكمات الجزائية ولحق المراجعة ضد قرارات قاضي التحقيق.
يتولى المحقق العدلي أعمال التحقيق بعد أن يعيّنه وزير العدل بناء على موافقة مجلس القضاء الأعلى ( م 360 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد). وعملا بنص المادة 363 من القانون ذاته، يطبق المحقق العدلي، في ما خص أعمال وإجراءات التحقيق، الأصول العادية المتبعة أمام قاضي التحقيق العادي. غير أن له، خلافا للأصول العادية، أن يصدر جميع المذكرات التي يقتضيها التحقيق دون طلب من النيابة العامة، على أن قراراته بهذا الخصوص لا تقبل أي طريق من طرق المراجعة. وهذا يعني أن للمحقق العدلي أن يصدر ضد المدعى عليه مذكرة توقيف أو إحضار تلقائيا من دون طلب النيابة العامة وحتى من دون أن يطلعها على هذا الأمر، مما يناقض القواعد العامة للإجراءات والأصول الجزائية التي تقضي بأن يطلع قاضي التحقيق النيابة العامة على كل إجراء جزائي ينوي تنفيذه وأن يتلقى مطالعتها الخطية أو الشفهية في هذا الموضوع.
وما يزيد الأمر خطورة على حقوق المدعى عليهم هو أن قرارات المحقق العدلي لا تقبل لهذه الناحية أي طريق من طرق المراجعة لا من قبل المدعى عليه ولا حتى من قبل النيابة العامة كون التحقيق العدلي يجري على درجة واحدة وكون لا وجود لهيئة قضائية تحقيقية عليا لممارسة الرقابة على أعمال التحقيق والإجراءات التي يقوم بها المحقق العدلي ( كالغرفة الاتهامية).
إن هذا الوضع التشريعي الشاذ يتعارض تماما مع ما كان ينص عليه القانون الفرنسي الذي أنشأ محكمة أمن الدولة ( القانون الصادر بتاريخ 15 كانون الثاني 1963 ) والذي ألغي بالقانون الصادر بتاريخ 4 آب 1981. فبموجب هذا القانون كانت القرارات الصادرة عن المحقق العدلي قابلة للطعن بطريق الاستئناف أمام غرفة الرقابة على صحة التحقيق العدلي ( وهي غرفة استئنافية شبيهة بالهيئة الاتهامية). وكان لغرفة الرقابة هذه أن تعلن بطلان الأعمال التحقيقية المنفذة على يد المحقق العدلي والمخالفة للقانون أو للقواعد والأصول الجوهرية، كما كان لها أن تنظر بطلبات الاستئناف المقدمة ضد كل القرارات القضائية الصادرة عن المحقق العدلي ( يراجع في هذا الخصوص : قرار محكمة النقض الفرنسية الصادر بتاريخ 4 حزيران 1964 ، منشور في مجلة الأسبوع القانوني لعام 1964 ، الجزء الثاني، رقم 13806 ، مع تقرير : COMPTE ).
وبخلاف ما كان ينص عليه قانون إنشاء محكمة أمن الدولة الفرنسية، أتت نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني الجديد، على غرار أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، خالية من أية إشارة إلى هيئة قضائية استئنافية صالحة للنظر في المراجعات ضد القرارات والإجراءات التي يتخذها المحقق العدلي. كما أنها لا تتضمن أي أحكام تقضي بإعادة إجراءات التحقيق العدلي أمام هيئة قضائية تحقيقية من درجة أعلى، ما يدل صراحة على أن التحقيق العدلي يجري على درجة واحدة أمام المحقق العدلي ويحال بعد ذلك الملف على المجلس العدلي في حال أصدر المحقق العدلي قرارا باتهام المدعى عليه بالجرائم المسندة إليه. وهذا ما يؤدي إلى حرمان المدعى عليه من درجة من درجات التحقيق خلافا لما تنص عليه القواعد العامة للإجراءات الجزائية والاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان ولاسيما منها الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان ( المادة التاسعة، الفقرة الرابعة) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ( المادة الرابعة عشر، الفقرة الخامسة). إضافة إلى ذلك، فان إحالة الملف مباشرة، بعد ختم أعمال التحقيق العدلي، إلى المجلس العدلي بموجب قرار اتهامي من دون أن تخضع أعمال التحقيق هذه لرقابة سلطة تحقيقية من درجة أعلى ومن دون أن تكون القرارات الصادرة عن المحقق العدلي قابلة للطعن بطريق الاستئناف أمام الهيئة التحقيقية المذكورة، يسبغ على الإجراءات المنفذة على يد المحقق العدلي المذكور صفة الأعمال التعسفية التي تنتهك ظلامة حقوق الدفاع وذلك على مثال ما هو معمول به في الدول ذات الأنظمة القمعية والديكتاتورية.
رابعا: النص على عدم قبول قرارات المجلس العدلي أي طريق من طرق المراجعة: مخالفة جسيمة لحقوق الدفاع ولمبدأ ثنائية المحاكمة.
تنص المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، تماثلا بنص المادتين 369 و 371 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، على أنه " تجري المحاكمة أمام المجلس العدلي، وجاهية كانت أم غيابية، وفقا لأصول المحاكمة لدى محكمة الجنايات. يصدر المجلس حكمه وفقا للأصول ذاتها.
لا تقبل أحكام المجلس العدلي أي طريق من طرق المراجعة العادية وغير العادية".
إن هذا النص يدل على أن المجلس العدلي يتّبع في المحاكمة أمامه الأصول والقواعد ذاتها المعمول بها في المحاكمات أمام محكمة الجنايات، ولكن مع هذا الفارق الأساسي والخطير وهو أن قرارات المجلس العدلي لا تكون قابلة لأي طريق من طرق المراجعة، مما يناقض القواعد العامة للإجراءات الجزائية والمبادئ الأساسية التي تحكم المحاكمات الجزائية والمنصوص عليها في الشرعات الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان ولاسيما في الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان ( م 9 ) وفي الشرعة الدولية للحقوق المدنية والسياسية الصادرة عن الأمم المتحدة بتاريخ 16 كانون الأول سنة 1966 ( م 14 ) :
« Toute personne déclarée coupable d’une infraction a le droit de faire examiner par une juridiction supérieure la déclaration de culpabilité et la condamnation conformément à la loi » ( art. 14-5).
إن هذا المنحى التشريعي اللبناني يهدف إلى حرمان المحكوم عليه من امكان عرض قضيته على مرجع قضائي أعلى للتأكد من صحة الحكم الذي صدر بحقه ومن صحة التحقيقات وعناصر الإثبات التي بني على أساسها هذا الحكم. ثم ان هذا الانتهاك لحقوق الدفاع يعد أكثر خطورة بالنظر إلى أن قرار الإدانة الذي يصدر عن المجلس العدلي قد يتضمن الحكم بعقوبة جسدية خطيرة كعقوبة الإعدام أو كعقوبة الحبس المؤبد مع الأشغال الشاقة وذلك في الدرجة الأولى والأخيرة دون امكان التقدم ضد هذا الحكم بأي مراجعة حتى مراجعة إعادة المحاكمة التي لا تقرر إلا وفقا لشروط جد قاسية.
لذلك فان هذا الإجراء يعتبر تدبيرا تعسفيا ومنافيا لأبسط قواعد المحاكمة العادلة والنزيهة ولحقوق الإنسان، ولا يجوز تاليا الاستمرار في السكوت على تطبيقه في لبنان الذي طالما تغنّى بنظامه الديمقراطي والذي يلتزم في مقدمة دستوره احترام الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان وطالما أن القضاة الذين يؤلّفون أي هيئة قضائية لا ينحدرون من سليلة الملائكة أو الآلهة ومعرّضون للوقوع في الخطأ كما يخطئ أي إنسان آخر،( وجل من لا يخطئ). وما الحكم الذي انزل بالمدعو يوسف شعبان من أجل جريمة لم يقترفها أو حتى لم يشترك في ارتكابها، إلا دليلا على أن القاضي مهما علت درجته أو رتبته يقع في الخطأ. ولأن القاضي معرّض للخطأ، نصت معظم التشريعات في البلدان الديمقراطية على موجب إعادة النظر في الدعوى ذاتها أمام هيئة قضائية على درجة أعلى من درجة المحكمة التي أصدرت الحكم بداية.
ومن هنا، فان الخلل التشريعي الذي يصيب الأحكام المتعلقة بالمجلس العدلي يحتّم تدخل المشترع اللبناني على هذا الصعيد كي يجعل من هذه المرجعية القضائية محكمة عادلة ومستقلة تمام الاستقلال عن السلطة السياسية، وذلك بالنص على أن يشكّل المجلس العدلي على أساس درجتين من المحاكمة: درجة ابتدائية بحيث يتألف من عدة قضاة ( سبعة قضاة إذا أمكن: رئيس وستة أعضاء) متخصصين من بين رؤساء محاكم البداية أو قضاة محاكم البداية بقرار من مجلس القضاء الأعلى ودون أي تدخل من قبل وزير العدل أو مجلس الوزراء، ودرجة استئنافية بحيث يتألف من عدة قضاة ( تسعة إذا أمكن: رئيس وثمانية أعضاء) متخصصين من بين قضاة محكمة الاستئناف بقرار من مجلس القضاء الأعلى، على أن تخضع قرارات هذه الهيئة الأخيرة لطرق الطعن بالنقض أمام محكمة التمييز.
وكان قد طبق هذا النظام في فرنسا منذ أن ألغيت محكمة أمن الدولة في أول عهد الرئيس ميتران في سنة 1981 بحيث تحال على محكمة جنايات ابتدائية خاصة مؤلفة من سبعة قضاة متخصصين في كل دائرة من دوائر محاكم الاستئناف كل الجنايات ذات الطابع العسكري أو المرتكبة من قبل عسكريين والجنايات التي تحمل اعتداء على المصالح الأساسية للأمة ( والمسماة سابقا بالجنايات الواقعة على أمن الدولة) ( م 698 /6 قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي). وتكون قرارات هذه المحكمة قابلة للاستئناف أمام محكمة جنايات استئنافية مؤلفة من تسعة قضاة ( رئيس وثمانية أعضاء) متخصصين ( م 698/6 )، وتخضع الأحكام الصادرة عن هذه المحكمة الأخيرة لطريق المراجعة بالنقض أمام محكمة التمييز. أما الجنح الموصوفة بالعسكرية أو الواقعة على المصالح العليا والأساسية للأمة فتحاكم أمام غرف متخصصة ومؤلفة من ثلاثة قضاة في دوائر محاكم الدرجة الأولى ( أو المحاكم الابتدائية) ( م 697 /1 قانون إجراءات جزائية فرنسي)، مع الإشارة إلى أن جنايات الإرهاب تحال على محكمة جنايات باريس الخاصة والمؤلفة من سبعة قضاة متخصصين في قضايا الإرهاب وذلك بغض النظر عن مكان وقوعها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى جنح الإرهاب التي تحاكم أمام غرف متخصصة في مادة الإرهاب في دائرة محكمة البداية في باريس ( م 706/17 قانون إجراءات جزائية فرنسي).
ويتبيّن أن المشترع الفرنسي، ورغم تعرّض الدولة الفرنسية لهجمات إرهابية خطيرة ورغم استمرار المخاطر الإرهابية التي تهدد أمن وسلامة الشعب الفرنسي، لم يتخذ من هذا الوضع حجة أو أساسا كي ينشئ قضاء استثنائيا مخالفا لقواعد وأصول المحاكمة الجزائية العادلة ولم تتدخل السلطات السياسية في البلاد كي تساهم في تشكيل قضاء جزائي مماثل للمجلس العدلي اللبناني. فمحكمة أمن الدولة الفرنسية التي أنشئت بالقانونين الصادرين بتاريخ 15 كانون الثاني سنة 1963 اثر حرب الجزائر التي خاضتها قوات الجيش الفرنسي ضد الثورة الجزائرية وما رافقها من أعمال إرهابية وتخريبية ألغيت، منذ بداية عهد الرئيس ميتران، بالقانون الصادر بتاريخ 4 آب سنة 1981 وألغيت كذلك المحاكم العسكرية الدائمة بالقانون الصادر بتاريخ 21 تموز سنة 1982 وذلك حماية للحريات وصونا لحقوق الإنسان وخصوصا لحقوق الدفاع ولقاعدة استقلال المحاكم الجزائية منها التي غالبا ما كانت تنتهك لدى محكمة أمن الدولة نتيجة لآلية تأليفها، إذ كانت هذه المحكمة تتألف من الرئيس الأول لمحكمة النقض رئيسا ومن قاضيين يعيّنين بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى ومن ضابطين عسكريين من أعلى الرتب، وكان النائب العام لدى محكمة النقض يقوم، تحت إشراف وزير العدل، بمهمات النيابة العامة لدى محكمة أمن الدولة والى جانبه محاميين عامين لمساعدته في تنفيذ مهمات الادعاء العام. ولكن خلافا لما هو معمول به في التشريع اللبناني، لم تكن تحال الجرائم على محكمة أمن الدولة بمرسوم من مجلس الوزراء، بل بادعاء النيابة العامة إما تلقائيا وإما بناء على أمر وزير العدل الخطي. وهذا ما كانت تنص عليه المادة 27، الفقرة الرابعة، من القانون الفرنسي الرقم 63/23 الصادر بتاريخ 15 كانون الثاني سنة 1963.وكانت تنفذ أعمال التحقيق الابتدائي على يد ثلاثة قضاة تحقيق في الدرجة الأولى، ولدى غرفة تحقيقية مؤلفة من رئيس ومستشارين في الدرجة الثانية. وكان ينتمي هؤلاء القضاة إلى سلك قضاء الحكم في محكمة الدرجة الأولى ( قضاة التحقيق) وفي محكمة الاستئناف ( غرفة التحقيق).
وبالاستناد إلى كل ما ورد أعلاه، يعتبر مشروع القانون الذي تقدّم به النائب وليد عيدو ناقصا وغير كامل ولا يؤدّي النتيجة القانونية المرجوة على صعيد احترام نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي للقواعد والأصول والمبادئ الأساسية المنصوص عليها في الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان. ويلاحظ أيضا على هذا الصعيد أن الاقتراح ذاته لم يأت على مستوى الأسباب الموجبة التي أدرجها الأستاذ عيدو دعما لاقتراحه، إذ جاء في هذه الأسباب ما حرفيته: " حفظت الشرائع كافة، احترام التقاضي وحقوق المتقاضين بما يؤمّن أكبر قدر من العدالة بين البشر. وحرصت دول العالم على وضع قوانين للمحاكمات تمارس من خلال حقوق الدفاع كاملة، بحيث وضعت درجات عدة للمحاكمة في محاولة لنفي أي امكان لخطأ أو تجاوز قضائي. واتجهت دول عدة في العالم لإلغاء المحاكمات التي تتم على درجة واحدة، أيا كانت طبيعة المحاكمة، وكذلك نوع الجرم الذي تتم بسببه المحاكمة".
وبإزاء هذه الأسباب الموجبة التي تضمنها الاقتراح المشار إليه أعلاه، وطالما أن دول العالم حرصت على وضع قوانين للمحاكمات تمارس من خلال حقوق الدفاع كاملة بحيث وضعت درجات عدة للمحاكمة بقصد تلافي الأخطاء القضائية، وطالما أن دولا عدة في العالم ألغت المحاكمات التي تتم على درجة واحدة، فلا بد لرجل القانون المتخصص إلا أن يتساءل عن السبب الموجب الذي أدى إلى عدم تضمين هذا الاقتراح نصا يقضي بضرورة إجراء المحاكمة أمام المجلس العدلي على درجتين أو بإلغاء المحاكمة على درجة واحدة تلافيا للأخطاء القضائية وصونا لحقوق الدفاع وللمبادئ الأساسية التي تحكم المحاكمة النزيهة والعادلة وغير المتحيزة. فالخلل يكمن هنا في القول من جهة أولى بأن ممارسة حق الدفاع على أكمل وجه وتلافي الأخطاء القضائية يوجب إجراء المحاكمة على درجتين وبأن العديد من دول العالم ألغت نظام المحاكمة على درجة واحدة، وفي الإبقاء من جهة ثانية على نظام المحاكمة الحالي للمجلس العدلي.
أما في ما خص التذرّع بسرعة المحاكمة أو بطبيعة الجريمة وخطورتها كمبررات لعدم قابلية أحكام المجلس العدلي لأي طريق من طرق المراجعة، فان هذا الأمر لا يقوم على أي سند قانوني أو عملي حقيقي، والدليل على ذلك هو أن العديد من القضايا الخطيرة التي أحيلت على المجلس العدلي منذ سنوات طويلة لم يبت فيها حتى الآن، كقضية اغتيال الرئيس بشير الجميل وقضية اغتيال الوزير ايلي حبيقة وغيرها من القضايا الأخرى الخطيرة.
في النهاية، إن متطلبات دولة المؤسسات والقانون والبدء في عملية الإصلاح والتغيير على أساس من العدل واحترام حقوق الإنسان والمبادئ الأساسية المنصوص عليها في الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بصون حقوق المشتبه فيهم والمتهمين، تستدعي التصدي للخلل بشكل فعّال وكامل وليس اتخاذ بعض التدابير الخجولة التي ليست على مستوى ورشة الإصلاح والتغيير التي وعد بها الشعب اللبناني. وبناء على ذلك، يقع على عاتق المشترع موجب إعادة النظر في آلية تأليف المجلس العدلي وإحالة الدعاوى عليه وفي كل الإجراءات والأصول التي تحكم المحاكمة الجارية أمامه بحيث تصبح هذه الهيئة القضائية محكومة بقواعد المحاكمة العادلة والنزيهة وغير خاضعة لأساليب الضغوط السياسية التي مورست سابقا على خلفية التنكيل بالمعارضين السياسيين.
النهار 7 آب 2005 ( صفحة آفاق وأبعاد).
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
أستاذ محاضر في القوانين الجزائية والإجراءات الجزائية في جامعة روبير شومان- فرنسا
محام عام أسبق- فرنسا
محام بالاستئناف
بصدور قانون العفو عن الجرائم التي حُكم بها الدكتور سمير جعجع ورفيقه جريس الخوري وبصدور قانون عفو آخر عن الجرائم التي كانت مسندة إلى موقوفي الضنية ومجدل عنجر، بدأت تطرح على بساط البحث مسألة مصداقية التحقيقات العدلية والأحكام الصادرة على أساسها عن المجلس العدلي ومدى تطابقها مع القواعد والأصول التي تحكم التحقيقات والمحاكمات الجزائية العادلة وغير المتحيزة، وخصوصا أن قسما لا يستهان به من اللبنانيين يؤكّد على أن الحكم الذي صدر بحق الدكتور سمير جعجع كان حكما سياسيا جائرا أكثر مما هو حكم قضائي صادر عن محكمة عادلة ونزيهة وفقا للأصول والقواعد المنصوص عليها في الاتفاقات والعهود الدولية المعنية بحماية حقوق الموقوفين والمتهمين.
ولو لم يكن هذا الحكم سياسيا بامتياز وجائرا ومغايرا لأبسط قواعد وأصول المحاكمات الجزائية ولحقوق الدفاع ولقاعدة إجراء المحاكمة الجزائية على درجتين أمام محكمة مستقلة وغير متحيزة، لما كان تدخل المشترع اللبناني لإصدار قانون عفو عن الجرائم التي حكم بها الدكتور سمير جعجع في أول فرصة أصبحت فيها السلطات اللبنانية والمؤسسات الدستورية حرة وغير خاضعة لقبضة الوصاية السورية.
إن التحقيقات العدلية التي يعتقد أنه رُكّبت بعض عناصر الاتهام والإثبات فيها بتدخل سياسي وأمني فاضح في ملفات الدكتور سمير جعجع الجزائية، والأحكام القضائية المغايرة لأبسط قواعد المحاكمة العادلة والنزيهة التي صدرت بحقه عن المجلس العدلي على أساس التحقيقات المذكورة أعلاه، ليست الدليل الوحيد على وجود ثغرات قانونية خطيرة في النصوص التي تحكم آلية إحالة الجرائم على الهيئة القضائية المذكورة وكيفية تنفيذ الإجراءات والتحقيقات الجارية أمامها وصدور الأحكام عنها. فملف العماد عون المالي الذي أحيل على المجلس العدلي وترك مفتوحا بطريقة كيدية وسياسية بحقه على مدى خمس عشرة سنة والذي استعمل أداة للتهويل عليه وعلى تياره في يد سلطة التبعية وسلطة الوصاية والذي لم يبت فيه من قبل محقق عدلي إلا مؤخرا وبعد أن تحرر لبنان من النظام الاستبدادي حيث تقرر كف التعقبات الجزائية في هذه القضية لعدم تأسيس الأفعال المنسوبة إلى العماد عون لأية جريمة جزائية، يؤلّف هو أيضا إثباتا دامغا على مدى تحكّم السلطة السياسية بالمجلس العدلي.
وقضية المحكوم عليه يوسف شعبان الذي لا يزال ينفّذ حكما بالسجن لمدى الحياة كان قد صدر بحقه عن المجلس العدلي منذ إحدى عشرة سنة في ملف اغتيال الدبلوماسي الأردني في بيروت، قد تشكّل هي أيضا دليلا على مدى مخالفة نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي لقواعد المحاكمة العادلة ولاسيما منها حقوق الدفاع وقرينة البراءة وإجراء المحاكمة على درجتين وامكان الطعن بالأحكام الصادرة عن الهيئة القضائية الحاكمة أمام قضاء من درجة أعلى، لاسيما وان السلطات القضائية الأردنية تمكنت من كشف هوية قتلة الدبلوماسي الأردني الحقيقيين وحكمت عليهم بالإعدام ونفّذت هذه العقوبة بحقهم منذ فترة.
إن النائب وليد عيدو، وإدراكا منه لهذا الخلل الذي يصيب نظام وآلية المحاكمات الجزائية أمام المجلس العدلي، تقدّم، بعد طول انتظار، باقتراح قانون يقضي بتعديل نص المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني التي تنص على عدم قبول الأحكام الصادرة عن المجلس العدلي لأي طريق من طرق المراجعة القضائية العادية أو غير العادية بحيث تصبح هذه الأحكام قابلة لطريق واحدة من طرق المراجعة استثنائيا، هي إعادة المحاكمة في حال توافرت شروطها المنصوص عليها في المادة 328 من القانون نفسه.
ولكن، رغم تثميننا لهذا الاقتراح الذي قد يعتبر خطوة خجولة وغير كافية نحو جعل نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي نظاما متطابقا مع قواعد المحاكمة العادلة وغير المتحيزة المنصوص عليها في الاتفاقات والعهود الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان، لا بد أن نشير إلى أن الثغرات التي تعتري نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي والمخالفة للقواعد والمبادئ الأساسية للمحاكمة الجزائية العادلة لا تنحصر فقط بأحكام المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية إنما تتعداها أيضا إلى آلية تأليف المجلس العدلي والى آلية إحالة الملفات الجزائية على هذه المرجعية القضائية والى كيفية إجراء التحقيقات العدلية أمام المحقق العدلي.
أولا: مخالفة آلية تأليف المجلس العدلي لقاعدة إجراء المحاكمة الجزائية أمام محكمة عادلة مستقلة وغير ومتحيزة.
يفترض بالقضاء الجزائي عموما أن يكون مستقلا تمام الاستقلال عن السلطة الإجرائية وعن السلطات السياسية كافة في عملية أدائه للمهمات القضائية الموضوعة على عاتقه، وذلك عملا بمبدأ فصل السلطات وبالمبدأ الدستوري القاضي باستقلال السلطة القضائية والذي يلزم، على حد ما جاء في الفقرة الأخيرة من المادة 20 من الدستور اللبناني، بأن يكون القضاة مستقلين في إجراء وظائفهم. ويقوم مبدأ استقلال القضاء على مقومات النظام الديمقراطي الذي تجسّده دولة القانون والمؤسسات الدستورية، وكل مساس بهذا المبدأ يؤدي إلى الانتقاص من شرعية القضاء ومن ثقة المتقاضين بفعالية العدالة. وتكرّس المادة العاشرة من الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان مبدأ استقلال القضاء وحياده بنصها على ان " لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظرا عادلا علنيا للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه". وجاء العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من مقدمة الدستور اللبناني بموجب القانون الدستوري الرقم 18 تاريخ 21 أيلول 1990، ليضمن هذا الحق في مادته 14 -1 التي تنص على ما يأتي: " جميع الأشخاص متساوون أمام القضاء ولكل فرد الحق، عند النظر في أية تهمة جنائية ضده وفي حقوقه والتزاماته في إحدى القضايا القانونية، في محاكمة عادلة وعلنية بواسطة محكمة مختصة ومستقلة وحيادية قائمة استنادا إلى القانون...".
ويضع هذا العهد لزاما على كل دولة طرف فيه احترام قاعدة استقلال الهيئات القضائية ضمن إقليمها وذلك عن طريق عدم تدخل السلطات السياسية في عملية تشكيل هذه الهيئات ضمانا لمبدأ استقلال القضاء وإجراء المحاكمة أمام محكمة عادلة مستقلة وغير متحيزة. وقد خصص المجتمع الدولي بجميع هيئاته الرسمية والخاصة، خلال النصف الأخير من القرن العشرين، الكثير من الاهتمام بمسألة استقلال القضاء. وتمثل ذلك خصوصا في قيام لجنة الحقوقيين الدوليين في جنيف في العام 1978 بإنشاء مركز لاستقلال القضاء وتطوير مبادئ هذا الاستقلال في جميع أنحاء العالم وفق المعايير الدولية وفي تبني مؤتمر الأمم المتحدة المنعقد في ميلانو- ايطاليا بين 26 آب و 6 أيلول عام 1983 للإعلان العالمي المتعلق باستقلال المحاكم والصادر عن مؤتمر مونتريال-كندا في العام 1983 وأقرته لاحقا الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتاريخ 29 تشرين الثاني من السنة ذاتها.
إن آلية تأليف المجلس العدلي في لبنان تتعارض مع القواعد المشار إليها آنفا ولاسيما مع قاعدة استقلال المحاكم، إذ أن السلطة الإجرائية المتمثلة بمجلس الوزراء هي المرجعية التي يكون لها الكلمة الفصل في عملية تأليف المجلس العدلي. وبالفعل فان هذه الهيئة القضائية تتألف، عملا بأحكام المادة 357 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، من الرئيس الأول لمحكمة التمييز رئيسا ومن أربعة قضاة من محكمة التميز أعضاء يعينون بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى. ويلاحظ، مقارنة مع نص قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، إن المادة 357 المذكورة أعلاه توجب موافقة مجلس القضاء الأعلى بالنسبة لتعيين القضاة الأربعة أعضاء في المجلس العدلي، بينما كان نص المادة 364 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم والمادة 143 من قانون التنظيم القضائي الصادر بالمرسوم رقم 7855 تاريخ 16 تشرين الأول سنة 1961 لا يشير إلا إلى استشارة مجلس القضاء الأعلى في ما خص التعيينات المذكورة أعلاه. ولكن رغم هذا التعديل الذي يقضي بالحصول على موافقة مجلس القضاء الأعلى قبل اتخاذ مجلس الوزراء لقراره بتعيين أعضاء المجلس العدلي، فان هذه الآلية المتبعة في تأليف المجلس المذكور لا تؤمّن احترام قاعدة استقلال المحاكم الجزائية بالكامل إذ أن السلطة السياسية هي التي توافق أو لا توافق على تعيين أعضاء المجلس العدلي الذين سمح مجلس القضاء الأعلى بتسميتهم. وهذا ما يمكن ان يعد تدخلا في شؤون السلطة القضائية من قبل السلطة السياسية وما يؤدي إلى انتهاك قاعدة استقلال القضاء وقاعدة ضرورة إجراء المحاكمة أمام محكمة عادلة وغير متحيزة. فالسلطة السياسية التي يعود لها اختصاص إحالة بعض الجرائم الخطرة على المجلس العدلي، يهمها أن تضمن ملاحقة ومحاكمة من تعتبرهم خطرا على السلامة العامة وعلى الأمن العام أمام هيئة قضائية يمكنها التأثير عليها وذلك عن طريق اختيار أعضائها الذين قد يكونون أعضاء يدينون بالولاء لها. وعليه فان للسلطة السياسية طول الباع في عملية تأليف المجلس العدلي، إذ أن الرئيس الأول لمحكمة التمييز، الذي يعيّن رئيسا للمجلس العدلي بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى، يكون معيّنا مسبقا من قبل السلطة السياسية وحدها بوصفه رئيسا لمجلس القضاء الأعلى وعضوا حكميا في هذا المجلس. أما بالنسبة لأعضاء المجلس العدلي الأربعة فيعيّنون من بين قضاة محكمة التمييز بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى، ما يعني أن التعيين المذكور لا يتم دون اقتراح وزير العدل. والسؤال يطرح هنا عن الحل الواجب اعتماده في حال اختلاف وجهات النظر، حول تعيين هؤلاء القضاة الأعضاء في المجلس العدلي، بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى، وخصوصا ان نص المادة 357 من قانون أصول المحاكمات الجزائية لم يلحظ حلا لهذه المسألة، مما قد يفتح المجال أمام وزير العدل لعرقلة إجراءات تعيين أعضاء المجلس العدلي في حال عدم تأييده للتعيينات الموافق عليها من قبل مجلس القضاء الأعلى وذلك عن طريق عدم تقديم اقتراحه لمجلس الوزراء بتعيين القضاة المذكورين. هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فان المحقق العدلي الذي يتولى التحقيق يعيّن بقرار صادر عن وزير العدل بناء على موافقة مجلس القضاء الأعلى ( م 360 أ.م.)، ما يعد تدخلا في شؤون التحقيقات العدلية من قبل السلطة السياسية وان كان تعيين المحقق العدلي يحتاج إلى موافقة مجلس القضاء الأعلى. فموافقة مجلس القضاء الأعلى التي تسبق عملية تعيين أعضاء المجلس العدلي أو المحقق العدلي، تعتبر خطوة مهمة باتجاه تأمين استقلال المحاكم، ولكنها لا تعتبر كافية بما فيه الكفاية، إذ أن السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) تعيّن ثمانية قضاة من أصل مجموع الأعضاء الذين يشكّلون مجلس القضاء الأعلى ( عشرة أعضاء). أضف إلى ذلك أن المشترع لم يكتف بهذا القدر من تدخل السلطة السياسية في شؤون السلطة القضائية، بل انه اشترط أيضا أن تصادق السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) على صحة عضوية القاضيين اللذين تم انتخابهما ليؤلفا قسما من هيئة مجلس القضاء الأعلى وفقا لما تنص عليه المادة الثانية الجديدة، الفقرة (أ)، من قانون القضاء العدلي. وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن المجلس العدلي لا يتمتع بالاستقلالية التامة عن السلطة السياسية وان اشترط المشترع موافقة مجلس القضاء الأعلى على تعيين أعضائه كون هذا المجلس الأخير، ووفقا لتركيبته الحالية، يخضع لهيمنة السلطة السياسية ويُشكّل وفقا لرغباتها. وينتج من هذا الوضع تدخل واضح للسلطة السياسية في أمور السلطة القضائية لاسيما في الأمور صرف الداخلية للقضاء والمتعلقة بتشكيل المحاكم والهيئات القضائية المختصة. مما يناقض مبدأ فصل السلطات الدستوري ويحد من استقلال السلطة القضائية ويتعارض مع المبادئ الأساسية المعترف بها في مقدمة الدستور اللبناني وفي الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان وأهمها مبادئ فصل السلطات ونزاهة المحاكم واستقلالها وقرينة البراءة. لهذا السبب يقتضي أن تعدّل أصول تعيين القضاة وتشكيل المحاكم ولاسيما تشكيل مجلس القضاء الأعلى بحيث يصار إلى انتخاب رئيسه وأعضائه من بين القضاة ودون أي تدخل أو إشراف من قبل السلطة السياسية وفقا لشروط ومعايير يضع ضوابطها المشترع على أن تعهد لهذا المجلس وحده مهمة تأليف المحاكم ومنها طبعا المجلس العدلي، وذلك تأمينا لحسن سير العدالة واحتراما لقاعدة استقلال السلطة القضائية.
ولأن المجلس العدلي بتركيبته الحالية لا يعتبر هيئة قضائية مستقلة تمام الاستقلال عن السلطة السياسية ولا يشكل تاليا محكمة عادلة ونزيهة وغير متحيزة، لفتت لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان نظر الحكومة اللبنانية إلى الخلل الحاصل على صعيد تعيين القضاة وتأليف المحاكم واستقلال المؤسسات القضائية اللبنانية بتاريخ العاشر من نيسان 1997، إذ ورد في ملاحظات اللجنة المذكورة الموجهة إلى الحكومة المذكورة ما يأتي: " وبشكل أعم، تعرب اللجنة عن القلق إزاء استقلال وحياد القضاء في الدولة الطرف، وتلاحظ أن الوفد نفسه سلّم بأن الإجراءات التي تحكم تعيين القضاة، وبخاصة أعضاء مجلس القضاء الأعلى، غير مرضية أبدا، ويساور اللجنة أيضا القلق لأن الدولة الطرف ( أي الدولة اللبنانية) لا تؤمّن للمواطنين في الكثير من الحالات، وسائل انتصاف وإجراءات استئناف فعّالة بخصوص شكاويهم، وبالتالي، توصي اللجنة بأن تعيد الدولة الطرف النظر على سبيل الاستعجال، في الإجراءات التي تحكم تعيين أعضاء السلك القضائي بهدف ضمان استقلالهم الكامل".
ثانيا: انتهاك آلية إحالة الدعاوى على المجلس العدلي لحق النيابة العامة في تقدير استنسابية الملاحقة الجزائية ولمبدأ استقلال السلطة القضائية.
يؤلّف المجلس العدلي هيئة قضائية استثنائية إن كان لجهة آلية تشكيله وان كان لجهة كيفية إحالة الدعاوى عليه ولجهة إجراءات وأصول المحاكمة المنفذّة أمامه. وتحدد المادة 356 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد اختصاص المجلس العدلي، مستندة إلى ذات المعيار الذي نصت عليه سابقا المادة 363 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، وذلك بالنظر إلى طبيعة الجريمة المرتكبة ودرجة خطورتها. وعلى هذا الأساس، فان الجنايات والجنح التي تمس بالأمن الداخلي أو الخارجي للدولة، ونظرا لما تحمله من اعتداء خطير على أمن المجتمع وعلى النظام العام، تحال على المجلس العدلي لمحاكمتها بناء على مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء ( م 355 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد). وهي، وفقا لما جاء في أحكام المادة 356 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، كل الجرائم المنصوص عليها في المواد 270 وما يليها حتى المادة 336 ضمنا من قانون العقوبات ( الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي والداخلي والجرائم الواقعة على السلامة العامة دون الجرائم المتعلقة بالجمعيات السرية والتظاهرات وتجمعات الشغب وجرائم الاغتصاب والتعدي على حرية العمل)، والجرائم المنصوص عليها في القانون الصادر بتاريخ 11 كانون الثاني 1958 ( إثارة الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي، العصيان المسلح أو اجتياح مدينة أو قرية أو بعض أملاك الدولة، اقتناء أو حيازة المواد المتفجرة بقصد ارتكاب هذه الجرائم، أعمال الإرهاب)، والجرائم الناتجة من صفقات الأسلحة والأعتدة التي تعقدها وزارة الدفاع الوطني والجرائم المرتبطة بها ولاسيما الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة المنصوص عليها في المواد 351 إلى 366 ضمنا من قانون العقوبات ( الرشوة والاختلاس واستثمار الوظيفة)، وجرائم التزوير المنصوص عليها في المواد 453 إلى 472 ضمنا من قانون العقوبات وفي المادتين 138 و 141 من قانون العقوبات العسكرية ( تزوير، غش، وسرقة واختلاس).
وعليه تحال الدعاوى على المجلس العدلي بناء على مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء عملا بأحكام المادة 355 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد. مما يعني أن السلطة السياسية هي التي تقدّر وحدها ضرورة أو عدم ضرورة إحالة القضية على المجلس العدلي وفق معايير محض سياسية أو أمنية. وهذا يعني أيضا أن ليس للمتضرر الشخصي الحق بالادعاء المباشر أمام المجلس العدلي، إنما له أن يقيم دعواه المدنية تبعا للدعوى العامة المحرّكة أمام هذا القضاء الاستثنائي وفقا لأحكام المادة 363، الفقرة الأخيرة، من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد.
من جهة أخرى، ينتج من نص المادة 355 من القانون نفسه أنه لا يحق للمجلس العدلي أن ينظر تلقائيا في الجرائم الواقعة على أمن الدولة، إذ أن هذه القضايا لا تحال عليه إلا بقرار السلطة السياسية. فإذا ارتأت هذه السلطة إحالة الجريمة الواقعة على أمن الدولة على المجلس العدلي، تدّعي عند ذلك النيابة العامة التمييزية باسم المجتمع أمام المحقق العدلي عملا بأحكام المادة 361 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد. وعلى هذا الأساس، فان حق النيابة العامة بالادعاء العام يكون رهنا بإرادة السلطة السياسية وبحقها في التقدير في ما إذا كان يتوجب إحالة الجريمة المرتكبة على المجلس العدلي أم لا. هذا من جهة، أما من جهة ثانية فللسلطة السياسية أن تحدد وحدها طبيعة الجريمة المرتكبة وما إذا كانت تعود صلاحية النظر فيها للمجلس العدلي أم لا. ولها كذلك أن تقضي برفع يد القضاء العادي أو العسكري عن الدعوى التي تكون قيد النظر أمامه وبإحالتها على المجلس العدلي، وذلك تطبيقا لأحكام المادة 356، الفقرة الأخيرة، من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد.
وبهذا فان السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) تقرر وحدها ما إذا كانت الجريمة الواقعة تحمل اعتداء أم لا على امن الدولة، أو إذا كانت تتصف بالجريمة الإرهابية. وتقديرها لهذه الجهة يكون خاضعا بالتأكيد لاعتبارات سياسية وشخصية ولا يكون مستندا إلى معايير موضوعية أو قانونية، ما يؤدي إلى إحالة بعض الجرائم على المجلس العدلي دون الجرائم الأخرى، وان كانت هذه الأخيرة تحمل اعتداء فاضحا على أمن الدولة وعلى سلامة المجتمع. والدليل على ذلك هو أن مجلس الوزراء اللبناني أحال بعض القضايا على المجلس العدلي، ليس فقط بالنظر إلى طبيعة الجريمة وخطورتها وإنما أيضا بالنظر إلى شخص من وجهت إليه تهمة ارتكاب هذه الجرائم أو الاشتراك في ارتكابها، وكذلك خصوصا بالنظر إلى ما يمثّل من اتجاهات سياسية بالنسبة لفئات معيّنة من اللبنانيين ( ونذكر منها على سبيل المثال قضية الدكتور سمير جعجع وقضية العماد عون المالية). فكانت الإحالة في هذه القضايا على المجلس العدلي إحالة سياسية كيدية وانتقامية أكثر مما هي إحالة قضائية تهدف إلى محاربة الجريمة وحماية امن الدولة والمجتمع.
وما يزيد من هذا الوضع خطورة على استقلال السلطة القضائية هو أن النيابة العامة تكون مكبلة اليدين إزاء عملية إحالة الجرائم على المجلس العدلي، إذ لا يعود لها حق تقدير ملاءمة الملاحقة الجزائية أو حق التعديل في طبيعة الجريمة التي أسبغتها السلطة السياسية على الفعل المحال على المجلس المذكور، ما يناقض مبدأ استنسابية الملاحقة الجزائية المنصوص عليه في قانون أصول المحاكمات الجزائية. وهذا ما ينتج صراحة من عبارات المادة 361 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد التي تضع لزاما على النائب العام التمييزي موجب الادعاء دون أن تترك له حق الخيار بين الادعاء وعدم الادعاء: " يدّعي النائب العام التمييزي لدى المحقق العدلي بالجريمة ويحيل إليه ملف التحقيقات". إلى ذلك فان هذا الإجراء غير الطبيعي يؤكّد مدى إخلاله بقاعدة استقلال القضاء، هذا عدا عن انه يحمل اعتداء سافرا على حقوق الإنسان وعلى حقوق الدفاع كونه يؤلّف سلاحا خطيرا في يد السلطة السياسية قد تسلّطه متى تشاء على المواطنين بهدف الانتقام السياسي ضد من يناصب النظام الحاكم العداء أو المعارضة السياسية.
ثالثا: مخافة إجراءات التحقيق العدلي للقواعد وللأصول العامة للمحاكمات الجزائية ولحق المراجعة ضد قرارات قاضي التحقيق.
يتولى المحقق العدلي أعمال التحقيق بعد أن يعيّنه وزير العدل بناء على موافقة مجلس القضاء الأعلى ( م 360 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد). وعملا بنص المادة 363 من القانون ذاته، يطبق المحقق العدلي، في ما خص أعمال وإجراءات التحقيق، الأصول العادية المتبعة أمام قاضي التحقيق العادي. غير أن له، خلافا للأصول العادية، أن يصدر جميع المذكرات التي يقتضيها التحقيق دون طلب من النيابة العامة، على أن قراراته بهذا الخصوص لا تقبل أي طريق من طرق المراجعة. وهذا يعني أن للمحقق العدلي أن يصدر ضد المدعى عليه مذكرة توقيف أو إحضار تلقائيا من دون طلب النيابة العامة وحتى من دون أن يطلعها على هذا الأمر، مما يناقض القواعد العامة للإجراءات والأصول الجزائية التي تقضي بأن يطلع قاضي التحقيق النيابة العامة على كل إجراء جزائي ينوي تنفيذه وأن يتلقى مطالعتها الخطية أو الشفهية في هذا الموضوع.
وما يزيد الأمر خطورة على حقوق المدعى عليهم هو أن قرارات المحقق العدلي لا تقبل لهذه الناحية أي طريق من طرق المراجعة لا من قبل المدعى عليه ولا حتى من قبل النيابة العامة كون التحقيق العدلي يجري على درجة واحدة وكون لا وجود لهيئة قضائية تحقيقية عليا لممارسة الرقابة على أعمال التحقيق والإجراءات التي يقوم بها المحقق العدلي ( كالغرفة الاتهامية).
إن هذا الوضع التشريعي الشاذ يتعارض تماما مع ما كان ينص عليه القانون الفرنسي الذي أنشأ محكمة أمن الدولة ( القانون الصادر بتاريخ 15 كانون الثاني 1963 ) والذي ألغي بالقانون الصادر بتاريخ 4 آب 1981. فبموجب هذا القانون كانت القرارات الصادرة عن المحقق العدلي قابلة للطعن بطريق الاستئناف أمام غرفة الرقابة على صحة التحقيق العدلي ( وهي غرفة استئنافية شبيهة بالهيئة الاتهامية). وكان لغرفة الرقابة هذه أن تعلن بطلان الأعمال التحقيقية المنفذة على يد المحقق العدلي والمخالفة للقانون أو للقواعد والأصول الجوهرية، كما كان لها أن تنظر بطلبات الاستئناف المقدمة ضد كل القرارات القضائية الصادرة عن المحقق العدلي ( يراجع في هذا الخصوص : قرار محكمة النقض الفرنسية الصادر بتاريخ 4 حزيران 1964 ، منشور في مجلة الأسبوع القانوني لعام 1964 ، الجزء الثاني، رقم 13806 ، مع تقرير : COMPTE ).
وبخلاف ما كان ينص عليه قانون إنشاء محكمة أمن الدولة الفرنسية، أتت نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني الجديد، على غرار أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، خالية من أية إشارة إلى هيئة قضائية استئنافية صالحة للنظر في المراجعات ضد القرارات والإجراءات التي يتخذها المحقق العدلي. كما أنها لا تتضمن أي أحكام تقضي بإعادة إجراءات التحقيق العدلي أمام هيئة قضائية تحقيقية من درجة أعلى، ما يدل صراحة على أن التحقيق العدلي يجري على درجة واحدة أمام المحقق العدلي ويحال بعد ذلك الملف على المجلس العدلي في حال أصدر المحقق العدلي قرارا باتهام المدعى عليه بالجرائم المسندة إليه. وهذا ما يؤدي إلى حرمان المدعى عليه من درجة من درجات التحقيق خلافا لما تنص عليه القواعد العامة للإجراءات الجزائية والاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان ولاسيما منها الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان ( المادة التاسعة، الفقرة الرابعة) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ( المادة الرابعة عشر، الفقرة الخامسة). إضافة إلى ذلك، فان إحالة الملف مباشرة، بعد ختم أعمال التحقيق العدلي، إلى المجلس العدلي بموجب قرار اتهامي من دون أن تخضع أعمال التحقيق هذه لرقابة سلطة تحقيقية من درجة أعلى ومن دون أن تكون القرارات الصادرة عن المحقق العدلي قابلة للطعن بطريق الاستئناف أمام الهيئة التحقيقية المذكورة، يسبغ على الإجراءات المنفذة على يد المحقق العدلي المذكور صفة الأعمال التعسفية التي تنتهك ظلامة حقوق الدفاع وذلك على مثال ما هو معمول به في الدول ذات الأنظمة القمعية والديكتاتورية.
رابعا: النص على عدم قبول قرارات المجلس العدلي أي طريق من طرق المراجعة: مخالفة جسيمة لحقوق الدفاع ولمبدأ ثنائية المحاكمة.
تنص المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، تماثلا بنص المادتين 369 و 371 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، على أنه " تجري المحاكمة أمام المجلس العدلي، وجاهية كانت أم غيابية، وفقا لأصول المحاكمة لدى محكمة الجنايات. يصدر المجلس حكمه وفقا للأصول ذاتها.
لا تقبل أحكام المجلس العدلي أي طريق من طرق المراجعة العادية وغير العادية".
إن هذا النص يدل على أن المجلس العدلي يتّبع في المحاكمة أمامه الأصول والقواعد ذاتها المعمول بها في المحاكمات أمام محكمة الجنايات، ولكن مع هذا الفارق الأساسي والخطير وهو أن قرارات المجلس العدلي لا تكون قابلة لأي طريق من طرق المراجعة، مما يناقض القواعد العامة للإجراءات الجزائية والمبادئ الأساسية التي تحكم المحاكمات الجزائية والمنصوص عليها في الشرعات الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان ولاسيما في الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان ( م 9 ) وفي الشرعة الدولية للحقوق المدنية والسياسية الصادرة عن الأمم المتحدة بتاريخ 16 كانون الأول سنة 1966 ( م 14 ) :
« Toute personne déclarée coupable d’une infraction a le droit de faire examiner par une juridiction supérieure la déclaration de culpabilité et la condamnation conformément à la loi » ( art. 14-5).
إن هذا المنحى التشريعي اللبناني يهدف إلى حرمان المحكوم عليه من امكان عرض قضيته على مرجع قضائي أعلى للتأكد من صحة الحكم الذي صدر بحقه ومن صحة التحقيقات وعناصر الإثبات التي بني على أساسها هذا الحكم. ثم ان هذا الانتهاك لحقوق الدفاع يعد أكثر خطورة بالنظر إلى أن قرار الإدانة الذي يصدر عن المجلس العدلي قد يتضمن الحكم بعقوبة جسدية خطيرة كعقوبة الإعدام أو كعقوبة الحبس المؤبد مع الأشغال الشاقة وذلك في الدرجة الأولى والأخيرة دون امكان التقدم ضد هذا الحكم بأي مراجعة حتى مراجعة إعادة المحاكمة التي لا تقرر إلا وفقا لشروط جد قاسية.
لذلك فان هذا الإجراء يعتبر تدبيرا تعسفيا ومنافيا لأبسط قواعد المحاكمة العادلة والنزيهة ولحقوق الإنسان، ولا يجوز تاليا الاستمرار في السكوت على تطبيقه في لبنان الذي طالما تغنّى بنظامه الديمقراطي والذي يلتزم في مقدمة دستوره احترام الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان وطالما أن القضاة الذين يؤلّفون أي هيئة قضائية لا ينحدرون من سليلة الملائكة أو الآلهة ومعرّضون للوقوع في الخطأ كما يخطئ أي إنسان آخر،( وجل من لا يخطئ). وما الحكم الذي انزل بالمدعو يوسف شعبان من أجل جريمة لم يقترفها أو حتى لم يشترك في ارتكابها، إلا دليلا على أن القاضي مهما علت درجته أو رتبته يقع في الخطأ. ولأن القاضي معرّض للخطأ، نصت معظم التشريعات في البلدان الديمقراطية على موجب إعادة النظر في الدعوى ذاتها أمام هيئة قضائية على درجة أعلى من درجة المحكمة التي أصدرت الحكم بداية.
ومن هنا، فان الخلل التشريعي الذي يصيب الأحكام المتعلقة بالمجلس العدلي يحتّم تدخل المشترع اللبناني على هذا الصعيد كي يجعل من هذه المرجعية القضائية محكمة عادلة ومستقلة تمام الاستقلال عن السلطة السياسية، وذلك بالنص على أن يشكّل المجلس العدلي على أساس درجتين من المحاكمة: درجة ابتدائية بحيث يتألف من عدة قضاة ( سبعة قضاة إذا أمكن: رئيس وستة أعضاء) متخصصين من بين رؤساء محاكم البداية أو قضاة محاكم البداية بقرار من مجلس القضاء الأعلى ودون أي تدخل من قبل وزير العدل أو مجلس الوزراء، ودرجة استئنافية بحيث يتألف من عدة قضاة ( تسعة إذا أمكن: رئيس وثمانية أعضاء) متخصصين من بين قضاة محكمة الاستئناف بقرار من مجلس القضاء الأعلى، على أن تخضع قرارات هذه الهيئة الأخيرة لطرق الطعن بالنقض أمام محكمة التمييز.
وكان قد طبق هذا النظام في فرنسا منذ أن ألغيت محكمة أمن الدولة في أول عهد الرئيس ميتران في سنة 1981 بحيث تحال على محكمة جنايات ابتدائية خاصة مؤلفة من سبعة قضاة متخصصين في كل دائرة من دوائر محاكم الاستئناف كل الجنايات ذات الطابع العسكري أو المرتكبة من قبل عسكريين والجنايات التي تحمل اعتداء على المصالح الأساسية للأمة ( والمسماة سابقا بالجنايات الواقعة على أمن الدولة) ( م 698 /6 قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي). وتكون قرارات هذه المحكمة قابلة للاستئناف أمام محكمة جنايات استئنافية مؤلفة من تسعة قضاة ( رئيس وثمانية أعضاء) متخصصين ( م 698/6 )، وتخضع الأحكام الصادرة عن هذه المحكمة الأخيرة لطريق المراجعة بالنقض أمام محكمة التمييز. أما الجنح الموصوفة بالعسكرية أو الواقعة على المصالح العليا والأساسية للأمة فتحاكم أمام غرف متخصصة ومؤلفة من ثلاثة قضاة في دوائر محاكم الدرجة الأولى ( أو المحاكم الابتدائية) ( م 697 /1 قانون إجراءات جزائية فرنسي)، مع الإشارة إلى أن جنايات الإرهاب تحال على محكمة جنايات باريس الخاصة والمؤلفة من سبعة قضاة متخصصين في قضايا الإرهاب وذلك بغض النظر عن مكان وقوعها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى جنح الإرهاب التي تحاكم أمام غرف متخصصة في مادة الإرهاب في دائرة محكمة البداية في باريس ( م 706/17 قانون إجراءات جزائية فرنسي).
ويتبيّن أن المشترع الفرنسي، ورغم تعرّض الدولة الفرنسية لهجمات إرهابية خطيرة ورغم استمرار المخاطر الإرهابية التي تهدد أمن وسلامة الشعب الفرنسي، لم يتخذ من هذا الوضع حجة أو أساسا كي ينشئ قضاء استثنائيا مخالفا لقواعد وأصول المحاكمة الجزائية العادلة ولم تتدخل السلطات السياسية في البلاد كي تساهم في تشكيل قضاء جزائي مماثل للمجلس العدلي اللبناني. فمحكمة أمن الدولة الفرنسية التي أنشئت بالقانونين الصادرين بتاريخ 15 كانون الثاني سنة 1963 اثر حرب الجزائر التي خاضتها قوات الجيش الفرنسي ضد الثورة الجزائرية وما رافقها من أعمال إرهابية وتخريبية ألغيت، منذ بداية عهد الرئيس ميتران، بالقانون الصادر بتاريخ 4 آب سنة 1981 وألغيت كذلك المحاكم العسكرية الدائمة بالقانون الصادر بتاريخ 21 تموز سنة 1982 وذلك حماية للحريات وصونا لحقوق الإنسان وخصوصا لحقوق الدفاع ولقاعدة استقلال المحاكم الجزائية منها التي غالبا ما كانت تنتهك لدى محكمة أمن الدولة نتيجة لآلية تأليفها، إذ كانت هذه المحكمة تتألف من الرئيس الأول لمحكمة النقض رئيسا ومن قاضيين يعيّنين بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى ومن ضابطين عسكريين من أعلى الرتب، وكان النائب العام لدى محكمة النقض يقوم، تحت إشراف وزير العدل، بمهمات النيابة العامة لدى محكمة أمن الدولة والى جانبه محاميين عامين لمساعدته في تنفيذ مهمات الادعاء العام. ولكن خلافا لما هو معمول به في التشريع اللبناني، لم تكن تحال الجرائم على محكمة أمن الدولة بمرسوم من مجلس الوزراء، بل بادعاء النيابة العامة إما تلقائيا وإما بناء على أمر وزير العدل الخطي. وهذا ما كانت تنص عليه المادة 27، الفقرة الرابعة، من القانون الفرنسي الرقم 63/23 الصادر بتاريخ 15 كانون الثاني سنة 1963.وكانت تنفذ أعمال التحقيق الابتدائي على يد ثلاثة قضاة تحقيق في الدرجة الأولى، ولدى غرفة تحقيقية مؤلفة من رئيس ومستشارين في الدرجة الثانية. وكان ينتمي هؤلاء القضاة إلى سلك قضاء الحكم في محكمة الدرجة الأولى ( قضاة التحقيق) وفي محكمة الاستئناف ( غرفة التحقيق).
وبالاستناد إلى كل ما ورد أعلاه، يعتبر مشروع القانون الذي تقدّم به النائب وليد عيدو ناقصا وغير كامل ولا يؤدّي النتيجة القانونية المرجوة على صعيد احترام نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي للقواعد والأصول والمبادئ الأساسية المنصوص عليها في الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان. ويلاحظ أيضا على هذا الصعيد أن الاقتراح ذاته لم يأت على مستوى الأسباب الموجبة التي أدرجها الأستاذ عيدو دعما لاقتراحه، إذ جاء في هذه الأسباب ما حرفيته: " حفظت الشرائع كافة، احترام التقاضي وحقوق المتقاضين بما يؤمّن أكبر قدر من العدالة بين البشر. وحرصت دول العالم على وضع قوانين للمحاكمات تمارس من خلال حقوق الدفاع كاملة، بحيث وضعت درجات عدة للمحاكمة في محاولة لنفي أي امكان لخطأ أو تجاوز قضائي. واتجهت دول عدة في العالم لإلغاء المحاكمات التي تتم على درجة واحدة، أيا كانت طبيعة المحاكمة، وكذلك نوع الجرم الذي تتم بسببه المحاكمة".
وبإزاء هذه الأسباب الموجبة التي تضمنها الاقتراح المشار إليه أعلاه، وطالما أن دول العالم حرصت على وضع قوانين للمحاكمات تمارس من خلال حقوق الدفاع كاملة بحيث وضعت درجات عدة للمحاكمة بقصد تلافي الأخطاء القضائية، وطالما أن دولا عدة في العالم ألغت المحاكمات التي تتم على درجة واحدة، فلا بد لرجل القانون المتخصص إلا أن يتساءل عن السبب الموجب الذي أدى إلى عدم تضمين هذا الاقتراح نصا يقضي بضرورة إجراء المحاكمة أمام المجلس العدلي على درجتين أو بإلغاء المحاكمة على درجة واحدة تلافيا للأخطاء القضائية وصونا لحقوق الدفاع وللمبادئ الأساسية التي تحكم المحاكمة النزيهة والعادلة وغير المتحيزة. فالخلل يكمن هنا في القول من جهة أولى بأن ممارسة حق الدفاع على أكمل وجه وتلافي الأخطاء القضائية يوجب إجراء المحاكمة على درجتين وبأن العديد من دول العالم ألغت نظام المحاكمة على درجة واحدة، وفي الإبقاء من جهة ثانية على نظام المحاكمة الحالي للمجلس العدلي.
أما في ما خص التذرّع بسرعة المحاكمة أو بطبيعة الجريمة وخطورتها كمبررات لعدم قابلية أحكام المجلس العدلي لأي طريق من طرق المراجعة، فان هذا الأمر لا يقوم على أي سند قانوني أو عملي حقيقي، والدليل على ذلك هو أن العديد من القضايا الخطيرة التي أحيلت على المجلس العدلي منذ سنوات طويلة لم يبت فيها حتى الآن، كقضية اغتيال الرئيس بشير الجميل وقضية اغتيال الوزير ايلي حبيقة وغيرها من القضايا الأخرى الخطيرة.
في النهاية، إن متطلبات دولة المؤسسات والقانون والبدء في عملية الإصلاح والتغيير على أساس من العدل واحترام حقوق الإنسان والمبادئ الأساسية المنصوص عليها في الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بصون حقوق المشتبه فيهم والمتهمين، تستدعي التصدي للخلل بشكل فعّال وكامل وليس اتخاذ بعض التدابير الخجولة التي ليست على مستوى ورشة الإصلاح والتغيير التي وعد بها الشعب اللبناني. وبناء على ذلك، يقع على عاتق المشترع موجب إعادة النظر في آلية تأليف المجلس العدلي وإحالة الدعاوى عليه وفي كل الإجراءات والأصول التي تحكم المحاكمة الجارية أمامه بحيث تصبح هذه الهيئة القضائية محكومة بقواعد المحاكمة العادلة والنزيهة وغير خاضعة لأساليب الضغوط السياسية التي مورست سابقا على خلفية التنكيل بالمعارضين السياسيين.
١٥/٧/٢٠٠٥
صلاحيات وزير العدل وفقا لما تنص عليه القوانين المرعية الاجراء
صلاحيات وزير العدل وفقا لما تنص عليه القوانين المرعية الإجراء.
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
أستاذ محاضر في جامعة روبير شومان وفي معهد القضاة والمحامين- ستراسبورغ
محام عام أسبق- فرنسا
محام بالاستئناف
النهار 14 تموز 2005
لم تؤد مفاوضات المرحلة الأولى التي كانت جارية بين العماد عون ورئيس الحكومة المكلف الأستاذ فؤاد السنيورة إلى تشكيل حكومة اتحاد وطني والى إشراك التيار الوطني الحر في هذه الحكومة مع ما يؤمّنه من تمثيل حقيقي لشريحة واسعة من اللبنانيين ومن غطاء وطني لهذه الحكومة. ويعتقد البعض ان الخلاف الأساسي الظاهر الذي أوصل إلى هذا الطلاق المبكر بين هاتين الجهتين السياسيتين يكمن أولا في إصرار العماد عون على أن تسند حقيبة العدل إلى أحد المقربين منه كشرط مبدئي لقبوله بدخول الحكومة، وذلك لتصور بعضهم أن تولي هذه الوزارة غير السيادية قد يسمح لتياره بوضع مشروعه السياسي المتعلق بفتح ملفات الفساد وهدر الأموال العامة موضع التنفيذ وبتطبيق قواعد المساءلة والمحاسبة بحق كل المشتبه فيهم بارتكاب جرائم مالية أو غيرها. أما ثانيا، وبحسب ما شيّع في وسائل الإعلام، فان إخفاق هذا المسعى يعود إلى عدم تجاوب تيار المستقبل مع مطلب العماد عون على أساس ان هذا التيار الأخير يعتبر وزارة العدل وزارة أساسية يتوجب إسنادها إلى أحد أعضائه أو أحد المحسوبين عليه لما لها من خصوصيات رمزية تتعلق في هذا الوقت بقضية التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وبمجريات هذا التحقيق.
في الحقيقة إن هذين السببين الظاهرين والمعروضين على بساط النقاش في لإعلام لا يشكلان السبب الحقيقي الذي أدى إلى عدم نجاح المفاوضات المذكورة أعلاه لأن العماد عون يصبو أولا وآخرا إلى تدعيم استقلالية القضاء وتنظيمه ومنع التدخلات السياسية في شؤونه وتطبيق قواعد العدالة والمساواة، ولا يهدف من خلال تسلمه حقيبة العدل إلى فتح ملفات قضائية انتقامية أو غيرها إذ أنه يعلم يقين العلم ان طبيعة الصلاحيات الممنوحة قانونا لوزير العدل لا تخوّله فتح ملفات قضائية أو تحريكها بالمطلق أو حتى إقفالها أو تطبيق قواعد المحاسبة والمساءلة الجزائية ( أولا ). هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فان تيار المستقبل يعرف أن لجنة التحقيق الدولية المكلفة رفع اللثام عن تفاصيل جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري هي لجنة مستقلة تمام الاستقلال عن السلطات اللبنانية ولا دالة أو سلطة قانونية لوزارة العدل عليها أو على مجريات التحقيق الذي تقوم به في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه ( ثانيا).
أولا: محدودية صلاحيات وزير العدل بالنسبة للتدخل في شؤون الملفات القضائية
أ- صلاحيات وزير العدل صلاحيات تنظيمية وإدارية أكثر مما هي قضائية:
1- السهر على حسن تطبيق القوانين والأنظمة وتنظيم شؤون القضاء
إن صلاحيات وزارة العدل حددت بموجب المادة الأولى من قانون تنظيم وزارة العدل الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 151 تاريخ 16 أيلول سنة 1983 والمعدّل بالمرسوم الاشتراعي رقم 23 تاريخ 23 آذار سنة 1985. ويتبين من خلال نص المادة المذكورة أعلاه ان هذه الوزارة تعنى بتنظيم شؤون القضاء والسهر على حسن تطبيق القوانين والأنظمة المتعلقة به وإعداد مشاريع القوانين والنصوص التنظيمية التي تكلّف بها وإبداء الرأي في المسائل التي تعرض عليها وتمثيل الدولة أمام المحاكم وتنظيم شؤون السجناء والأحداث المنحرفين. وتعنى أيضا بشؤون الكتّاب العدل والخبراء ووكلاء التفليسة ومراقبي الصلح الاحتياطي.
2 – يتم تعيين القضاة بناء على اقتراح وزير العدل وليس بقرار صادر عنه، والكلمة الفصل تعود في هذا الخصوص إلى مجلس الوزراء مجتمعا.
بالاستناد إلى النص المشار إليه أعلاه، يبدو واضحا أن المهمات التي تضطلع بها وزارة العدل فيما خص الشؤون القضائية هي مهمات تنظيمية بحتة تتعلق بوضع الأطر والآليات اللازمة لتأمين حسن سير العدالة كإجراءات تعيين القضاة ونقلهم وترقيتهم وتوزيع الأعمال القضائية على المحاكم. فبموجب المادة الثانية من قانون القضاء العدلي المعدّل بالقانون الرقم 389 تاريخ 21 كانون الأول 2001 ان مجلس الوزراء هو الذي يعيّن بمرسوم، بناء على اقتراح وزير العدل، نصف أعضاء مجلس القضاء الأعلى ( خمس قضاة) لمدة ثلاث سنوات. أضف إلى ذلك ان النائب العام التمييزي الذي يعتبر حكما نائبا لرئيس مجلس القضاء الأعلى يعيّن هو أيضا بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وفق ما تنص عليه المادة 31 من قانون القضاء العدلي. كذلك ان الرئيس الأول لمحكمة التمييز الذي يكون رئيسا لمجلس القضاء الأعلى حكما يعيّن بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل ( م 26 من قانون القضاء العدلي). وهذه هي الحال أيضا بالنسبة إلى رئيس هيئة التفتيش القضائي الذي يؤلّف عضوا حكميا في مجلس القضاء الأعلى والذي يتم تعيينه وتعيين هيئة التفتيش القضائي بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل ( م 100 و 101 من قانون القضاء العدلي). كما يتم تعيين أحد القضاة من رؤساء الغرف في محكمة التمييز وقاضيين من رؤساء الغرف في محاكم الاستئناف وقاض من رؤساء غرف محاكم الدرجة الأولى وقاض عدلي من بين رؤساء المحاكم أو من رؤساء الوحدات في وزارة العدل بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل بعد استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى. وبذلك فان السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) تعيّن ثمانية أعضاء من أصل مجموع الأعضاء الذين يشكّلون مجلس القضاء الأعلى ( 10 أعضاء). أما بالنسبة للعضوين المتبقيين، فيتم انتخابهما من بين رؤساء الغرف في محكمة التمييز من قبل الرئيس الأول لمحكمة التمييز ورؤساء الغرف والمستشارين في محكمة التمييز وتنظم دقائق هذا الانتخاب بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وبعد استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى.
3 - التشكيلات القضائية والمناقلات القضائية تقرر بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وليس بقرار صادر عنه، والكلمة الفصل تعود على هذا الصعيد إلى مجلس القضاء الأعلى.
على صعيد آخر ووفقا لأحكام المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي لا تصبح التشكيلات القضائية التي يقررها مجلس القضاء الأعلى نافذة إلا بعد موافقة وزير العدل. ولكن عند حصول اختلاف في وجهات النظر بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى تنعقد جلسة مشتركة بينهما للنظر في النقاط المختلف عليها. إذا استمر الخلاف ينظر مجلس القضاء الأعلى مجددا في الأمر لبته ويتخذ قراره بأكثرية سبعة أعضاء ويكون قراره في هذا الشأن نهائيا وملزما. وتصدر التشكيلات القضائية وفقا للبنود السابقة بمرسوم بناء على اقتراح وزير العدل.
4 - توزّع الأعمال القضائية على الدوائر والمراكز بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف.
أما في ما خص توزيع الأعمال القضائية فان توزيع هذه الأعمال بين الغرف في المركز الواحد أو في محكمة الاستئناف الواحدة كان يتم بقرار من وزير العدل بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف التابعة لها المحكمة. وكانت تطبق القاعدة نفسها، بموجب المادة 18 من قانون القضاء العدلي قبل تعديلها، في توزيع الأعمال بين الأقسام في المركز الواحد. وبهذا فان مجلس القضاء الأعلى كان يلعب دورا استشاريا لا غير في مسألة توزيع الأعمال القضائية بين الغرف وبين الأقسام، أي أن قراره لم يكن ملزما لهذه الجهة، وكانت الكلمة الفصل تعود إلى وزير العدل الذي كان يضع عملية التوزيع هذه موضع التنفيذ بقرار يتخذه بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى. غير أن القانون الرقم 389 الصادر بتاريخ 21 /12/2001 والذي عدّل قانون القضاء العدلي، استعاض عن عبارة " بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى" الواردة في المادتين 15 و 18 من قانون القضاء العدلي، بالعبارة التالية: " بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى". وعليه فان عملية توزيع الأعمال بين الغرف في المركز الواحد أو في القسم الواحد أو في محكمة الاستئناف لا تتم من تاريخ دخول القانون الرقم 389 حيز التنفيذ ( أي اعتبارا من 7 شباط 2002 ) إلا بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف.
وينتج من كل ذلك أنه حتى فيما يتعلق بأمور تعيين ونقل القضاة التي تعتبر أمورا تنظيمية وإدارية بحتة لا تكون الكلمة الفصل فيها لوزير العدل إنما في غالب الأحيان لمجلس الوزراء. أما فيما خص توزيع الأعمال القضائية على دوائر وأقسام وغرف المحاكم فان القرار الفاعل والنهائي يكون من اختصاص مجلس القضاء الأعلى وذلك لأن هذه المسألة تؤلّف شأنا يمت مباشرة إلى عملية التقاضي وإحقاق الحق وهي بطبيعتها مهمة قضائية صرفة لا يجوز للسلطة السياسية المس بها أو التدخل في تفاصيلها.
ب - العلاقة بين وزير العدل والنيابة العامة التمييزية تقوم على أساس ضرورة ممارسة الرقابة الإدارية على أعمال قضاة النيابة العامة وليس على أساس حق التدخل في شؤون الملاحقات الجزائية.
وإذا كانت صلاحيات وزير العدل قد حددت وفق ضوابط ومبادئ قانونية تحد من سلطان تدخله في عملية إحقاق الحق وفي عمل القضاة القضائي الصرف، فان ذلك تقرر بالاستناد إلى مبدأ فصل السلطات الدستوري ومبدأ استقلالية القاضي المنصوص عليه في المادة 20 من الدستور التي جاء فيها : " القضاة مستقلون في إجراء وظيفتهم وتصدر القرارات والأحكام من قبل كل المحاكم وتنفّذ باسم الشعب اللبناني". وجاء التأكيد على هذا المبدأ الأخير بأحكام المادة 44 من قانون القضاء العدلي التي تنص على أن " القضاة مستقلون في إجراء وظائفهم ولا يمكن نقلهم أو فصلهم عن السلك القضائي إلا وفقا لأحكام هذا القانون".
وانطلاقا من هذه المبادئ ينبغي عدم الخلط بين مبدأ استقلال القاضي في عملية قيامه بمهماته القضائية وبين ضرورة ممارسة الرقابة الإدارية على الجهاز القضائي من قبل السلطة السياسية بهدف ضمان استقلال هذا الجهاز وتأمين حسن سير العدالة وتطبيق القوانين، إذ لا يجوز تحرير المراجع القضائية من أية رقابة سياسية في ظل نظام برلماني يحكمه ليس فقط مبدأ فصل السلطات وإنما أيضا مبدأ تعاون هذه السلطات. ولكن هذا لا يعني من جهة أخرى السماح للسلطة السياسية التدخل في شؤون القضاء الداخلية والمتعلقة خصوصا بتفاصيل عملية إحقاق الحق والتقاضي وتوزيع العدالة.
وعلى هذا الأساس، ولأن النيابة العامة تمثّل المجتمع والسلطة العامة في البلاد ولأنه تلقى على عاتقها مهام حماية المجتمع ضد الجريمة والإجرام وحماية النظام العام، فان طبيعة عملها يوجب إشراف السلطة السياسية عليه منعا لإساءة استعمال سلطانها ومنعا للتنكيل والاستبداد بالمواطنين. ولهذا فان النيابة العامة بخلاف القضاء الجالس تخضع لنظام التبعية التسلسلية الذي يعطي للرئيس على المرؤوس سلطة كافية من الإشراف والرقابة الإداريتين، ما يجعلها، لهذه الجهة، أشبه بالهيئات الإدارية منها بالقضائية. وهذا يدل على ان قضاة النيابة العامة يخضعون لسلطة رؤسائهم التسلسلية التي تنتهي بوزير العدل الذي كان مخولا، في ظل قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، حق الإشراف على دوائر النيابات العامة وحق إعطائها الأوامر بإجراء التعقبات الجزائية في شأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه ( م 16 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم). ويلي وزير العدل في الهرم التسلسلي النائب العام لدى محكمة التمييز الذي يتمتع بسلطة تتناول جميع قضاة النيابات العامة، ثم يأتي النائب العام ألاستئنافي ومعاونوه من قضاة النيابة العامة التي يتولى إدارتها ورئاستها وفق ما ورد في المادة 12 من قانون التنظيم القضائي الصادر بالمرسوم الرقم 7855.
وتجدر الإشارة إلى أن المرسوم الاشتراعي الرقم 8 الصادر بتاريخ 15 كانون الأول سنة 1954 كان قد نص في مادته الثالثة والثلاثين على أنه يحق لوزير العدل أن يوجّه النيابات العامة بتعليمات خطية وعليها أن تتقيد بها. غير أن هذه المادة ألغيت بالقانون المتعلق بنظام القضاة العدليين والصادر بالمرسوم الرقم 7855 المذكور أعلاه واستعيض عنها بالمادة الثالثة التي تنص على أن " يخضع قضاة النيابة العامة لإدارة ومراقبة رؤسائهم ولسلطة وزير العدل". وتؤكّد المادة 45 من المرسوم الاشتراعي الرقم 150 ( قانون القضاء العدلي) على هذه التبعية التسلسلية في نظام النيابة العامة فتنص صراحة على أن " يخضع قضاة النيابات العامة لإدارة ومراقبة رؤسائهم، كما يخضعون لسلطة وزير العدل وتبقى لهم في جلسات المحاكمة حرية الكلام".
1 - لا يمنح قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد لوزير العدل سوى الحق في أن يطلب من النائب العام التمييزي إجراء التعقبات في شأن الجرائم التي وصلت إلى علمه: إن هذا الطلب لا يلزم النائب العام التمييزي بالانصياع لرغبات وزير العدل.
بصدور قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد بتاريخ 2 آب سنة 2001 أُدخلت بعض التعديلات على قاعدة خضوع النيابة العامة التمييزية لسلطة وزير العدل رغم الإبقاء على ارتباط هذه النيابة بوزارة العدل ولو بصورة جزئية. فمنذ دخول هذا القانون حيز التنفيذ أصبح النائب العام لدى محكمة التمييز السلطة المخولة وحدها مهمات مراقبة وإدارة النيابات العامة في لبنان، حالا بذلك مكان وزير العدل الذي يجرّده هذا القانون من معظم الصلاحيات التي كان يتمتع بها في إطار السلطة الممارسة من الحكومة على النيابات العامة والتي كان يستقيها من أحكام الفقرة الأولى من المادة 45 من المرسوم الاشتراعي الرقم 150 تاريخ 16 أيلول 1983 ( قانون القضاء العدلي) والتي أشرنا إليها أعلاه. وعلى هذا النحو يتحوّل النائب العام لدى محكمة التمييز، منذ بدء العمل بقانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، من مدير ومراقب تسلسلي على أعمال قضاة النيابات العامة، خاضع لسلطة وزير العدل، إلى صاحب سلطة مستقلة ( سلطة رقابة وإدارة) أوحد على أعمال الضابطة العدلية وحتى على أعمال قضاة النيابات العامة كلها المتعلقة بتحريك دعوى الحق العام وممارستها. أما وزير العدل، فتبقى له فقط صلاحية الطلب من النائب العام التمييزي إجراء الملاحقات الجزائية بشأن الجرائم التي علم بوقوعها، وذلك تطبيقا للفقرة الأولى من المادة 14 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد التي تنص على أنه " لوزير العدل أن يطلب إلى النائب العام التمييزي إجراء التعقبات بشأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه".
ويظهر من خلال عبارات نص الفقرة المذكورة أن طلب وزير العدل الموجّه إلى النائب العام التمييزي بتحريك الملاحقة الجزائية لا يكون ملزما لهذا الأخير وذلك لسببين رئيسيين:
- لأن الإجراءات والأصول الجزائية المتعلقة بالدعوى العامة تقوم على قاعدة أساسية ألا وهي قاعدة استنسابية الملاحقة الجزائية ( Le principe de l’opportunité de poursuite )، مما يعني ان للنيابة العامة وحدها حق تقدير ملاءمة أو عدم ملاءمة تحريك دعوى الحق العام ولا تكون في ذلك خاضعة لأي وصاية أو سلطة سياسية.
- لأن المشترع اللبناني لم ينص صراحة على إلزامية الطلب الذي يوجهه وزير العدل إلى النائب العام في ما خص تحريك الدعوى العامة. فلو ان المشترع أراد أن يلزم النائب العام التمييزي بطلبات وزير العدل المتعلقة بإجراء التعقبات الجزائية في شأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه لكان نص على ذلك صراحة وعلى الإجراءات والعقوبات التأديبية والإدارية الواجب اتخاذها في حال عدم انصياع النائب العام التمييزي لطلب وزير العدل، إذ لا يجوز تطبيق أية قاعدة أصولية أو إجرائية من دون نص صريح عملا بمبدأ شرعية الإجراءات الجزائية.
2- نتائج الفصل بين صلاحيات وزير العدل وصلاحيات النائب العام لدى محكمة التمييز
وضع قانون أصول المحاكمات الجزائية حدا لأحكام المادة 45 من قانون القضاء العدلي التي كانت تنص على خضوع النائب العام التمييزي لسلطة وزير العدل. ويثبت هذا الاتجاه القانوني بالمادة 428 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد التي نصت صراحة على أنه " يلغى قانون أصول المحاكمات الجزائية الصادر في 18/9/1948 وتعديلاته، كما تلغى جميع الأحكام والنصوص التشريعية المخالفة أو المتعارضة مع هذا القانون"، أي بما فيها نص المادة 45 من قانون القضاء العدلي الصادر بالمرسوم الاشتراعي الرقم 150 تاريخ 16 أيلول سنة 1983. ويؤدي تطبيق قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد على هذا الصعيد الى نتائج عدة أهمها:
- إخضاع قضاة النيابة العامة لإدارة وإشراف رؤسائهم تحت سلطة ورقابة النائب العام التمييزي.
- تشمل سلطة النائب العام التمييزي جميع قضاة النيابة العامة بمن فيهم مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية. وله أن يوجّه إلى كل منهم تعليمات خطية أو شفهية ملزمة في تسيير دعوى الحق العام. إنما تبقى لهم حرية الكلام في جلسات المحاكمة عملا بالقاعدة المأثورة والقائلة أنه " إذا كان القلم مقيدا فاللسان طليق": « La plume est serve, mais la parole est libre ».
- يحيل النائب العام التمييزي على قضاة النيابة العامة كل في حدود اختصاصه التقارير والمحاضر التي ترده بصدد جريمة ما ويطلب إليه تحريك دعوى الحق العام فيها.
- يعتبر طلب النائب العام التمييزي بتحريك دعوى الحق العام ملزما لقضاة النيابة العامة، وهذا ما يستنتج من نص الفقرة الثانية من المادة 13 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي وردت فيها عبارة " إنما يبقى لهم ( أي لقضاة النيابة العامة) حرية الكلام في جلسات المحاكمة".
- بوسع النائب العام التمييزي عند الاقتضاء أن يجري التحقيق مباشرة أو بواسطة معاونيه من قضاة النيابة العامة الملحقين به أو أفراد الضابطة العدلية التابعين له دون أن يكون له حق الادعاء.
- يجوز لوزير العدل توجيه التعليمات الخطية أو حتى الشفهية غير الملزمة إلى النيابة العامة التمييزية بتحريك دعوى الحق العام في قضية ما، ولكن لا يمكنه أن يعطي الأمر للنائب العام بحفظ الدعوى بعد تحريك الملاحقة الجزائية.
- يجوز لوزير العدل أن يوجّه إلى النيابة العامة التمييزية كل التعليمات غير الملزمة والتي تصب في المصلحة العامة وتتعلق بالدعوى العامة بما فيها بكف التعقبات الجزائية أو بمنع المحاكمة إذا كانت المصلحة العليا تقضي بذلك.
- لا يجوز لوزير العدل أن يقف حائلا دون أخذ الملاحقة الجزائية مجراها، أي لا يجوز له أن يأمر بوقف سير دعوى الحق العام في قضية ما. وهذا ما أكّد عليه اجتهاد محكمة النقض الفرنسية منذ زمن بعيد.
ثانيا: محدودية صلاحيات وزير العدل بالنسبة للتدخل في شؤون لجنة التحقيق الدولية المكلفة التحقيق في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
أ - لجنة التحقيق الدولية لجنة مستقلة تمام الاستقلال عن القضاء اللبناني ولا تخضع سوى للضوابط التي وضعها القرار 1595 الصادر عن مجلس الأمن.
إن القرار 1595 الصادر عن مجلس الأمن بتاريخ 7 نيسان 2005 قضى بتأليف لجنة تحقيق دولية ذات صلاحيات تنفيذية للتحقيق في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. وبما أن هذه اللجنة مكلفة القيام بمهمة التحقيق في جريمة إرهاب خطيرة تخطت نتائجها الحدود الوطنية لتطال السلام والأمن الدوليين، فان المرجعية الدولية الأولى ( مجلس الأمن) التي أنشأتها هي السلطة الوحيدة التي يكون بامكانها التدخل في شؤونها وممارسة الرقابة عليها وعلى أعمالها ومجريات التحقيق الذي تقوم به وذلك تطبيقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وبالتأسيس على القرارين الدوليين الرقم 1373 و 1566 المتعلقين بمكافحة الإرهاب. وتأكيدا على هذا المنحى، منح القرار 1595 لجنة التحقيق الدولية المولجة أمر التحقيق في جناية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه كل الصلاحيات التنفيذية التي تجعل من هذه اللجنة مرجعية تحقيقية دولية مستقلة لا يجوز لأية دولة التدخل في شؤونها أو في مجريات التحقيق الذي تقوم به. وهو في هذا المجال نص على إلزام الحكومة اللبنانية بتقديم التعاون الكامل إلى اللجنة المذكورة بما في ذلك الوصول الكامل إلى كل المعلومات والأدلة من وثائق وإفادات ومعلومات وأدلة حسية متوفرة في حوزتها وتعتبرها اللجنة ذات صلة بالتحقيق ( البند الثالث من القرار المذكور). كما ان القرار ذاته نص على إلزام الحكومة اللبنانية بأن توفر للجنة التسهيلات الضرورية لإتمام وظائفها وعلى أن تحظى بالامتيازات والحصانات المنصوص عليها في الاتفاق المتعلق بامتيازات الأمم المتحدة وحصاناتها. ويدعو القرار كل الدول والأطراف إلى التعاون تعاونا كاملا مع اللجنة ولاسيما تزويدها بأي معلومات قد يمتلكونها وتكون على صلة بالعمل الإرهابي المذكور أعلاه وذلك تحت طائلة العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية المنصوص عليها في الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة( البند السابع).
وإذا كان القرار 1595 يؤكّد على دور لجنة التحقيق الدولية في مساعدة السلطة اللبنانية في التحقيق للكشف عن هوية مخططي الجريمة الإرهابية ومنفذيها، فان القرار ذاته يقضي بأن اللجنة المذكورة تتمتع بصلاحيات واسعة تلزم السلطات اللبنانية بالتعاون وبتقديم كل المعلومات حول التحقيق. ومن هنا فان دور لجنة التحقيق في الواقع أكثر من مساعد أو مكمّل، إذ أنه يقوم على أساس تحقيق مستقل تمام الاستقلال عن التحقيق المحلي وخاص بمرجعية دولية تعلو سلطتها على السلطات الوطنية للدولة المعنية على أساس القرار 1595.
ب - ليس من صلاحيات وزير العدل التدخل في مجريات التحقيق الذي تقوم به لجنة التحقيق الدولية
وانطلاقا من هذه المعطيات القانونية، وبالتأسيس على قرار لجنة تقصي الحقائق الذي رفع إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 25 آذار 2005 والذي خلص إلى أن أجهزة التحقيق اللبنانية مشكك في قدرتها على القيام بالتحقيقات في هذه القضية وفي نزاهتها وحيادها بالإضافة إلى أنها مسؤولة عن إخفاء بعض الأدلة الجرمية وبالنظر إلى أن لجنة التحقيق الدولية أُنشئت من قبل مجلس الأمن بالاستناد إلى هذه الوقائع الخطيرة، وبما ان هذه اللجنة الأخيرة تتمتع بالاستقلالية التامة في ما خص أعمالها ومهماتها، لا نعتقد انه تم التعويل على جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وعلى سير التحقيقات في شأنها للمطالبة بوزارة العدل من قبل تيار المستقبل أو من قبل أشخاص مقربين منه. فوزير العدل الذي ليس بامكانه أن يلزم النيابة العامة بطلب تحريك دعوى الحق العام في شأن جريمة وصل خبرها إلى علمه تطبيقا للقانون اللبناني كما رأينا سابقا، لا يمكنه من باب أولى التدخل في شأن التحقيقات التي تقوم بها لجنة تحقيق دولية مستقلة.
ومن هنا لا يمكن أن نعزو فشل المفاوضات التي كانت جارية في مرحلة أولى بين تيار العماد عون وتيار المستقبل إلى إصرار العماد عون على تسلم وزارة العدل أو إلى أسباب شخصية تتعلق بقضية التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وإنما إلى بواعث سياسية صرفة.
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
أستاذ محاضر في جامعة روبير شومان وفي معهد القضاة والمحامين- ستراسبورغ
محام عام أسبق- فرنسا
محام بالاستئناف
النهار 14 تموز 2005
لم تؤد مفاوضات المرحلة الأولى التي كانت جارية بين العماد عون ورئيس الحكومة المكلف الأستاذ فؤاد السنيورة إلى تشكيل حكومة اتحاد وطني والى إشراك التيار الوطني الحر في هذه الحكومة مع ما يؤمّنه من تمثيل حقيقي لشريحة واسعة من اللبنانيين ومن غطاء وطني لهذه الحكومة. ويعتقد البعض ان الخلاف الأساسي الظاهر الذي أوصل إلى هذا الطلاق المبكر بين هاتين الجهتين السياسيتين يكمن أولا في إصرار العماد عون على أن تسند حقيبة العدل إلى أحد المقربين منه كشرط مبدئي لقبوله بدخول الحكومة، وذلك لتصور بعضهم أن تولي هذه الوزارة غير السيادية قد يسمح لتياره بوضع مشروعه السياسي المتعلق بفتح ملفات الفساد وهدر الأموال العامة موضع التنفيذ وبتطبيق قواعد المساءلة والمحاسبة بحق كل المشتبه فيهم بارتكاب جرائم مالية أو غيرها. أما ثانيا، وبحسب ما شيّع في وسائل الإعلام، فان إخفاق هذا المسعى يعود إلى عدم تجاوب تيار المستقبل مع مطلب العماد عون على أساس ان هذا التيار الأخير يعتبر وزارة العدل وزارة أساسية يتوجب إسنادها إلى أحد أعضائه أو أحد المحسوبين عليه لما لها من خصوصيات رمزية تتعلق في هذا الوقت بقضية التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وبمجريات هذا التحقيق.
في الحقيقة إن هذين السببين الظاهرين والمعروضين على بساط النقاش في لإعلام لا يشكلان السبب الحقيقي الذي أدى إلى عدم نجاح المفاوضات المذكورة أعلاه لأن العماد عون يصبو أولا وآخرا إلى تدعيم استقلالية القضاء وتنظيمه ومنع التدخلات السياسية في شؤونه وتطبيق قواعد العدالة والمساواة، ولا يهدف من خلال تسلمه حقيبة العدل إلى فتح ملفات قضائية انتقامية أو غيرها إذ أنه يعلم يقين العلم ان طبيعة الصلاحيات الممنوحة قانونا لوزير العدل لا تخوّله فتح ملفات قضائية أو تحريكها بالمطلق أو حتى إقفالها أو تطبيق قواعد المحاسبة والمساءلة الجزائية ( أولا ). هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فان تيار المستقبل يعرف أن لجنة التحقيق الدولية المكلفة رفع اللثام عن تفاصيل جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري هي لجنة مستقلة تمام الاستقلال عن السلطات اللبنانية ولا دالة أو سلطة قانونية لوزارة العدل عليها أو على مجريات التحقيق الذي تقوم به في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه ( ثانيا).
أولا: محدودية صلاحيات وزير العدل بالنسبة للتدخل في شؤون الملفات القضائية
أ- صلاحيات وزير العدل صلاحيات تنظيمية وإدارية أكثر مما هي قضائية:
1- السهر على حسن تطبيق القوانين والأنظمة وتنظيم شؤون القضاء
إن صلاحيات وزارة العدل حددت بموجب المادة الأولى من قانون تنظيم وزارة العدل الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 151 تاريخ 16 أيلول سنة 1983 والمعدّل بالمرسوم الاشتراعي رقم 23 تاريخ 23 آذار سنة 1985. ويتبين من خلال نص المادة المذكورة أعلاه ان هذه الوزارة تعنى بتنظيم شؤون القضاء والسهر على حسن تطبيق القوانين والأنظمة المتعلقة به وإعداد مشاريع القوانين والنصوص التنظيمية التي تكلّف بها وإبداء الرأي في المسائل التي تعرض عليها وتمثيل الدولة أمام المحاكم وتنظيم شؤون السجناء والأحداث المنحرفين. وتعنى أيضا بشؤون الكتّاب العدل والخبراء ووكلاء التفليسة ومراقبي الصلح الاحتياطي.
2 – يتم تعيين القضاة بناء على اقتراح وزير العدل وليس بقرار صادر عنه، والكلمة الفصل تعود في هذا الخصوص إلى مجلس الوزراء مجتمعا.
بالاستناد إلى النص المشار إليه أعلاه، يبدو واضحا أن المهمات التي تضطلع بها وزارة العدل فيما خص الشؤون القضائية هي مهمات تنظيمية بحتة تتعلق بوضع الأطر والآليات اللازمة لتأمين حسن سير العدالة كإجراءات تعيين القضاة ونقلهم وترقيتهم وتوزيع الأعمال القضائية على المحاكم. فبموجب المادة الثانية من قانون القضاء العدلي المعدّل بالقانون الرقم 389 تاريخ 21 كانون الأول 2001 ان مجلس الوزراء هو الذي يعيّن بمرسوم، بناء على اقتراح وزير العدل، نصف أعضاء مجلس القضاء الأعلى ( خمس قضاة) لمدة ثلاث سنوات. أضف إلى ذلك ان النائب العام التمييزي الذي يعتبر حكما نائبا لرئيس مجلس القضاء الأعلى يعيّن هو أيضا بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وفق ما تنص عليه المادة 31 من قانون القضاء العدلي. كذلك ان الرئيس الأول لمحكمة التمييز الذي يكون رئيسا لمجلس القضاء الأعلى حكما يعيّن بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل ( م 26 من قانون القضاء العدلي). وهذه هي الحال أيضا بالنسبة إلى رئيس هيئة التفتيش القضائي الذي يؤلّف عضوا حكميا في مجلس القضاء الأعلى والذي يتم تعيينه وتعيين هيئة التفتيش القضائي بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل ( م 100 و 101 من قانون القضاء العدلي). كما يتم تعيين أحد القضاة من رؤساء الغرف في محكمة التمييز وقاضيين من رؤساء الغرف في محاكم الاستئناف وقاض من رؤساء غرف محاكم الدرجة الأولى وقاض عدلي من بين رؤساء المحاكم أو من رؤساء الوحدات في وزارة العدل بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل بعد استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى. وبذلك فان السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) تعيّن ثمانية أعضاء من أصل مجموع الأعضاء الذين يشكّلون مجلس القضاء الأعلى ( 10 أعضاء). أما بالنسبة للعضوين المتبقيين، فيتم انتخابهما من بين رؤساء الغرف في محكمة التمييز من قبل الرئيس الأول لمحكمة التمييز ورؤساء الغرف والمستشارين في محكمة التمييز وتنظم دقائق هذا الانتخاب بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وبعد استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى.
3 - التشكيلات القضائية والمناقلات القضائية تقرر بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وليس بقرار صادر عنه، والكلمة الفصل تعود على هذا الصعيد إلى مجلس القضاء الأعلى.
على صعيد آخر ووفقا لأحكام المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي لا تصبح التشكيلات القضائية التي يقررها مجلس القضاء الأعلى نافذة إلا بعد موافقة وزير العدل. ولكن عند حصول اختلاف في وجهات النظر بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى تنعقد جلسة مشتركة بينهما للنظر في النقاط المختلف عليها. إذا استمر الخلاف ينظر مجلس القضاء الأعلى مجددا في الأمر لبته ويتخذ قراره بأكثرية سبعة أعضاء ويكون قراره في هذا الشأن نهائيا وملزما. وتصدر التشكيلات القضائية وفقا للبنود السابقة بمرسوم بناء على اقتراح وزير العدل.
4 - توزّع الأعمال القضائية على الدوائر والمراكز بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف.
أما في ما خص توزيع الأعمال القضائية فان توزيع هذه الأعمال بين الغرف في المركز الواحد أو في محكمة الاستئناف الواحدة كان يتم بقرار من وزير العدل بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف التابعة لها المحكمة. وكانت تطبق القاعدة نفسها، بموجب المادة 18 من قانون القضاء العدلي قبل تعديلها، في توزيع الأعمال بين الأقسام في المركز الواحد. وبهذا فان مجلس القضاء الأعلى كان يلعب دورا استشاريا لا غير في مسألة توزيع الأعمال القضائية بين الغرف وبين الأقسام، أي أن قراره لم يكن ملزما لهذه الجهة، وكانت الكلمة الفصل تعود إلى وزير العدل الذي كان يضع عملية التوزيع هذه موضع التنفيذ بقرار يتخذه بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى. غير أن القانون الرقم 389 الصادر بتاريخ 21 /12/2001 والذي عدّل قانون القضاء العدلي، استعاض عن عبارة " بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى" الواردة في المادتين 15 و 18 من قانون القضاء العدلي، بالعبارة التالية: " بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى". وعليه فان عملية توزيع الأعمال بين الغرف في المركز الواحد أو في القسم الواحد أو في محكمة الاستئناف لا تتم من تاريخ دخول القانون الرقم 389 حيز التنفيذ ( أي اعتبارا من 7 شباط 2002 ) إلا بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف.
وينتج من كل ذلك أنه حتى فيما يتعلق بأمور تعيين ونقل القضاة التي تعتبر أمورا تنظيمية وإدارية بحتة لا تكون الكلمة الفصل فيها لوزير العدل إنما في غالب الأحيان لمجلس الوزراء. أما فيما خص توزيع الأعمال القضائية على دوائر وأقسام وغرف المحاكم فان القرار الفاعل والنهائي يكون من اختصاص مجلس القضاء الأعلى وذلك لأن هذه المسألة تؤلّف شأنا يمت مباشرة إلى عملية التقاضي وإحقاق الحق وهي بطبيعتها مهمة قضائية صرفة لا يجوز للسلطة السياسية المس بها أو التدخل في تفاصيلها.
ب - العلاقة بين وزير العدل والنيابة العامة التمييزية تقوم على أساس ضرورة ممارسة الرقابة الإدارية على أعمال قضاة النيابة العامة وليس على أساس حق التدخل في شؤون الملاحقات الجزائية.
وإذا كانت صلاحيات وزير العدل قد حددت وفق ضوابط ومبادئ قانونية تحد من سلطان تدخله في عملية إحقاق الحق وفي عمل القضاة القضائي الصرف، فان ذلك تقرر بالاستناد إلى مبدأ فصل السلطات الدستوري ومبدأ استقلالية القاضي المنصوص عليه في المادة 20 من الدستور التي جاء فيها : " القضاة مستقلون في إجراء وظيفتهم وتصدر القرارات والأحكام من قبل كل المحاكم وتنفّذ باسم الشعب اللبناني". وجاء التأكيد على هذا المبدأ الأخير بأحكام المادة 44 من قانون القضاء العدلي التي تنص على أن " القضاة مستقلون في إجراء وظائفهم ولا يمكن نقلهم أو فصلهم عن السلك القضائي إلا وفقا لأحكام هذا القانون".
وانطلاقا من هذه المبادئ ينبغي عدم الخلط بين مبدأ استقلال القاضي في عملية قيامه بمهماته القضائية وبين ضرورة ممارسة الرقابة الإدارية على الجهاز القضائي من قبل السلطة السياسية بهدف ضمان استقلال هذا الجهاز وتأمين حسن سير العدالة وتطبيق القوانين، إذ لا يجوز تحرير المراجع القضائية من أية رقابة سياسية في ظل نظام برلماني يحكمه ليس فقط مبدأ فصل السلطات وإنما أيضا مبدأ تعاون هذه السلطات. ولكن هذا لا يعني من جهة أخرى السماح للسلطة السياسية التدخل في شؤون القضاء الداخلية والمتعلقة خصوصا بتفاصيل عملية إحقاق الحق والتقاضي وتوزيع العدالة.
وعلى هذا الأساس، ولأن النيابة العامة تمثّل المجتمع والسلطة العامة في البلاد ولأنه تلقى على عاتقها مهام حماية المجتمع ضد الجريمة والإجرام وحماية النظام العام، فان طبيعة عملها يوجب إشراف السلطة السياسية عليه منعا لإساءة استعمال سلطانها ومنعا للتنكيل والاستبداد بالمواطنين. ولهذا فان النيابة العامة بخلاف القضاء الجالس تخضع لنظام التبعية التسلسلية الذي يعطي للرئيس على المرؤوس سلطة كافية من الإشراف والرقابة الإداريتين، ما يجعلها، لهذه الجهة، أشبه بالهيئات الإدارية منها بالقضائية. وهذا يدل على ان قضاة النيابة العامة يخضعون لسلطة رؤسائهم التسلسلية التي تنتهي بوزير العدل الذي كان مخولا، في ظل قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، حق الإشراف على دوائر النيابات العامة وحق إعطائها الأوامر بإجراء التعقبات الجزائية في شأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه ( م 16 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم). ويلي وزير العدل في الهرم التسلسلي النائب العام لدى محكمة التمييز الذي يتمتع بسلطة تتناول جميع قضاة النيابات العامة، ثم يأتي النائب العام ألاستئنافي ومعاونوه من قضاة النيابة العامة التي يتولى إدارتها ورئاستها وفق ما ورد في المادة 12 من قانون التنظيم القضائي الصادر بالمرسوم الرقم 7855.
وتجدر الإشارة إلى أن المرسوم الاشتراعي الرقم 8 الصادر بتاريخ 15 كانون الأول سنة 1954 كان قد نص في مادته الثالثة والثلاثين على أنه يحق لوزير العدل أن يوجّه النيابات العامة بتعليمات خطية وعليها أن تتقيد بها. غير أن هذه المادة ألغيت بالقانون المتعلق بنظام القضاة العدليين والصادر بالمرسوم الرقم 7855 المذكور أعلاه واستعيض عنها بالمادة الثالثة التي تنص على أن " يخضع قضاة النيابة العامة لإدارة ومراقبة رؤسائهم ولسلطة وزير العدل". وتؤكّد المادة 45 من المرسوم الاشتراعي الرقم 150 ( قانون القضاء العدلي) على هذه التبعية التسلسلية في نظام النيابة العامة فتنص صراحة على أن " يخضع قضاة النيابات العامة لإدارة ومراقبة رؤسائهم، كما يخضعون لسلطة وزير العدل وتبقى لهم في جلسات المحاكمة حرية الكلام".
1 - لا يمنح قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد لوزير العدل سوى الحق في أن يطلب من النائب العام التمييزي إجراء التعقبات في شأن الجرائم التي وصلت إلى علمه: إن هذا الطلب لا يلزم النائب العام التمييزي بالانصياع لرغبات وزير العدل.
بصدور قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد بتاريخ 2 آب سنة 2001 أُدخلت بعض التعديلات على قاعدة خضوع النيابة العامة التمييزية لسلطة وزير العدل رغم الإبقاء على ارتباط هذه النيابة بوزارة العدل ولو بصورة جزئية. فمنذ دخول هذا القانون حيز التنفيذ أصبح النائب العام لدى محكمة التمييز السلطة المخولة وحدها مهمات مراقبة وإدارة النيابات العامة في لبنان، حالا بذلك مكان وزير العدل الذي يجرّده هذا القانون من معظم الصلاحيات التي كان يتمتع بها في إطار السلطة الممارسة من الحكومة على النيابات العامة والتي كان يستقيها من أحكام الفقرة الأولى من المادة 45 من المرسوم الاشتراعي الرقم 150 تاريخ 16 أيلول 1983 ( قانون القضاء العدلي) والتي أشرنا إليها أعلاه. وعلى هذا النحو يتحوّل النائب العام لدى محكمة التمييز، منذ بدء العمل بقانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، من مدير ومراقب تسلسلي على أعمال قضاة النيابات العامة، خاضع لسلطة وزير العدل، إلى صاحب سلطة مستقلة ( سلطة رقابة وإدارة) أوحد على أعمال الضابطة العدلية وحتى على أعمال قضاة النيابات العامة كلها المتعلقة بتحريك دعوى الحق العام وممارستها. أما وزير العدل، فتبقى له فقط صلاحية الطلب من النائب العام التمييزي إجراء الملاحقات الجزائية بشأن الجرائم التي علم بوقوعها، وذلك تطبيقا للفقرة الأولى من المادة 14 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد التي تنص على أنه " لوزير العدل أن يطلب إلى النائب العام التمييزي إجراء التعقبات بشأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه".
ويظهر من خلال عبارات نص الفقرة المذكورة أن طلب وزير العدل الموجّه إلى النائب العام التمييزي بتحريك الملاحقة الجزائية لا يكون ملزما لهذا الأخير وذلك لسببين رئيسيين:
- لأن الإجراءات والأصول الجزائية المتعلقة بالدعوى العامة تقوم على قاعدة أساسية ألا وهي قاعدة استنسابية الملاحقة الجزائية ( Le principe de l’opportunité de poursuite )، مما يعني ان للنيابة العامة وحدها حق تقدير ملاءمة أو عدم ملاءمة تحريك دعوى الحق العام ولا تكون في ذلك خاضعة لأي وصاية أو سلطة سياسية.
- لأن المشترع اللبناني لم ينص صراحة على إلزامية الطلب الذي يوجهه وزير العدل إلى النائب العام في ما خص تحريك الدعوى العامة. فلو ان المشترع أراد أن يلزم النائب العام التمييزي بطلبات وزير العدل المتعلقة بإجراء التعقبات الجزائية في شأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه لكان نص على ذلك صراحة وعلى الإجراءات والعقوبات التأديبية والإدارية الواجب اتخاذها في حال عدم انصياع النائب العام التمييزي لطلب وزير العدل، إذ لا يجوز تطبيق أية قاعدة أصولية أو إجرائية من دون نص صريح عملا بمبدأ شرعية الإجراءات الجزائية.
2- نتائج الفصل بين صلاحيات وزير العدل وصلاحيات النائب العام لدى محكمة التمييز
وضع قانون أصول المحاكمات الجزائية حدا لأحكام المادة 45 من قانون القضاء العدلي التي كانت تنص على خضوع النائب العام التمييزي لسلطة وزير العدل. ويثبت هذا الاتجاه القانوني بالمادة 428 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد التي نصت صراحة على أنه " يلغى قانون أصول المحاكمات الجزائية الصادر في 18/9/1948 وتعديلاته، كما تلغى جميع الأحكام والنصوص التشريعية المخالفة أو المتعارضة مع هذا القانون"، أي بما فيها نص المادة 45 من قانون القضاء العدلي الصادر بالمرسوم الاشتراعي الرقم 150 تاريخ 16 أيلول سنة 1983. ويؤدي تطبيق قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد على هذا الصعيد الى نتائج عدة أهمها:
- إخضاع قضاة النيابة العامة لإدارة وإشراف رؤسائهم تحت سلطة ورقابة النائب العام التمييزي.
- تشمل سلطة النائب العام التمييزي جميع قضاة النيابة العامة بمن فيهم مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية. وله أن يوجّه إلى كل منهم تعليمات خطية أو شفهية ملزمة في تسيير دعوى الحق العام. إنما تبقى لهم حرية الكلام في جلسات المحاكمة عملا بالقاعدة المأثورة والقائلة أنه " إذا كان القلم مقيدا فاللسان طليق": « La plume est serve, mais la parole est libre ».
- يحيل النائب العام التمييزي على قضاة النيابة العامة كل في حدود اختصاصه التقارير والمحاضر التي ترده بصدد جريمة ما ويطلب إليه تحريك دعوى الحق العام فيها.
- يعتبر طلب النائب العام التمييزي بتحريك دعوى الحق العام ملزما لقضاة النيابة العامة، وهذا ما يستنتج من نص الفقرة الثانية من المادة 13 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي وردت فيها عبارة " إنما يبقى لهم ( أي لقضاة النيابة العامة) حرية الكلام في جلسات المحاكمة".
- بوسع النائب العام التمييزي عند الاقتضاء أن يجري التحقيق مباشرة أو بواسطة معاونيه من قضاة النيابة العامة الملحقين به أو أفراد الضابطة العدلية التابعين له دون أن يكون له حق الادعاء.
- يجوز لوزير العدل توجيه التعليمات الخطية أو حتى الشفهية غير الملزمة إلى النيابة العامة التمييزية بتحريك دعوى الحق العام في قضية ما، ولكن لا يمكنه أن يعطي الأمر للنائب العام بحفظ الدعوى بعد تحريك الملاحقة الجزائية.
- يجوز لوزير العدل أن يوجّه إلى النيابة العامة التمييزية كل التعليمات غير الملزمة والتي تصب في المصلحة العامة وتتعلق بالدعوى العامة بما فيها بكف التعقبات الجزائية أو بمنع المحاكمة إذا كانت المصلحة العليا تقضي بذلك.
- لا يجوز لوزير العدل أن يقف حائلا دون أخذ الملاحقة الجزائية مجراها، أي لا يجوز له أن يأمر بوقف سير دعوى الحق العام في قضية ما. وهذا ما أكّد عليه اجتهاد محكمة النقض الفرنسية منذ زمن بعيد.
ثانيا: محدودية صلاحيات وزير العدل بالنسبة للتدخل في شؤون لجنة التحقيق الدولية المكلفة التحقيق في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
أ - لجنة التحقيق الدولية لجنة مستقلة تمام الاستقلال عن القضاء اللبناني ولا تخضع سوى للضوابط التي وضعها القرار 1595 الصادر عن مجلس الأمن.
إن القرار 1595 الصادر عن مجلس الأمن بتاريخ 7 نيسان 2005 قضى بتأليف لجنة تحقيق دولية ذات صلاحيات تنفيذية للتحقيق في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. وبما أن هذه اللجنة مكلفة القيام بمهمة التحقيق في جريمة إرهاب خطيرة تخطت نتائجها الحدود الوطنية لتطال السلام والأمن الدوليين، فان المرجعية الدولية الأولى ( مجلس الأمن) التي أنشأتها هي السلطة الوحيدة التي يكون بامكانها التدخل في شؤونها وممارسة الرقابة عليها وعلى أعمالها ومجريات التحقيق الذي تقوم به وذلك تطبيقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وبالتأسيس على القرارين الدوليين الرقم 1373 و 1566 المتعلقين بمكافحة الإرهاب. وتأكيدا على هذا المنحى، منح القرار 1595 لجنة التحقيق الدولية المولجة أمر التحقيق في جناية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه كل الصلاحيات التنفيذية التي تجعل من هذه اللجنة مرجعية تحقيقية دولية مستقلة لا يجوز لأية دولة التدخل في شؤونها أو في مجريات التحقيق الذي تقوم به. وهو في هذا المجال نص على إلزام الحكومة اللبنانية بتقديم التعاون الكامل إلى اللجنة المذكورة بما في ذلك الوصول الكامل إلى كل المعلومات والأدلة من وثائق وإفادات ومعلومات وأدلة حسية متوفرة في حوزتها وتعتبرها اللجنة ذات صلة بالتحقيق ( البند الثالث من القرار المذكور). كما ان القرار ذاته نص على إلزام الحكومة اللبنانية بأن توفر للجنة التسهيلات الضرورية لإتمام وظائفها وعلى أن تحظى بالامتيازات والحصانات المنصوص عليها في الاتفاق المتعلق بامتيازات الأمم المتحدة وحصاناتها. ويدعو القرار كل الدول والأطراف إلى التعاون تعاونا كاملا مع اللجنة ولاسيما تزويدها بأي معلومات قد يمتلكونها وتكون على صلة بالعمل الإرهابي المذكور أعلاه وذلك تحت طائلة العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية المنصوص عليها في الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة( البند السابع).
وإذا كان القرار 1595 يؤكّد على دور لجنة التحقيق الدولية في مساعدة السلطة اللبنانية في التحقيق للكشف عن هوية مخططي الجريمة الإرهابية ومنفذيها، فان القرار ذاته يقضي بأن اللجنة المذكورة تتمتع بصلاحيات واسعة تلزم السلطات اللبنانية بالتعاون وبتقديم كل المعلومات حول التحقيق. ومن هنا فان دور لجنة التحقيق في الواقع أكثر من مساعد أو مكمّل، إذ أنه يقوم على أساس تحقيق مستقل تمام الاستقلال عن التحقيق المحلي وخاص بمرجعية دولية تعلو سلطتها على السلطات الوطنية للدولة المعنية على أساس القرار 1595.
ب - ليس من صلاحيات وزير العدل التدخل في مجريات التحقيق الذي تقوم به لجنة التحقيق الدولية
وانطلاقا من هذه المعطيات القانونية، وبالتأسيس على قرار لجنة تقصي الحقائق الذي رفع إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 25 آذار 2005 والذي خلص إلى أن أجهزة التحقيق اللبنانية مشكك في قدرتها على القيام بالتحقيقات في هذه القضية وفي نزاهتها وحيادها بالإضافة إلى أنها مسؤولة عن إخفاء بعض الأدلة الجرمية وبالنظر إلى أن لجنة التحقيق الدولية أُنشئت من قبل مجلس الأمن بالاستناد إلى هذه الوقائع الخطيرة، وبما ان هذه اللجنة الأخيرة تتمتع بالاستقلالية التامة في ما خص أعمالها ومهماتها، لا نعتقد انه تم التعويل على جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وعلى سير التحقيقات في شأنها للمطالبة بوزارة العدل من قبل تيار المستقبل أو من قبل أشخاص مقربين منه. فوزير العدل الذي ليس بامكانه أن يلزم النيابة العامة بطلب تحريك دعوى الحق العام في شأن جريمة وصل خبرها إلى علمه تطبيقا للقانون اللبناني كما رأينا سابقا، لا يمكنه من باب أولى التدخل في شأن التحقيقات التي تقوم بها لجنة تحقيق دولية مستقلة.
ومن هنا لا يمكن أن نعزو فشل المفاوضات التي كانت جارية في مرحلة أولى بين تيار العماد عون وتيار المستقبل إلى إصرار العماد عون على تسلم وزارة العدل أو إلى أسباب شخصية تتعلق بقضية التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وإنما إلى بواعث سياسية صرفة.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)