١٥‏/٧‏/٢٠٠٥

صلاحيات وزير العدل وفقا لما تنص عليه القوانين المرعية الاجراء

صلاحيات وزير العدل وفقا لما تنص عليه القوانين المرعية الإجراء.


بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
أستاذ محاضر في جامعة روبير شومان وفي معهد القضاة والمحامين- ستراسبورغ
محام عام أسبق- فرنسا
محام بالاستئناف

النهار 14 تموز 2005



لم تؤد مفاوضات المرحلة الأولى التي كانت جارية بين العماد عون ورئيس الحكومة المكلف الأستاذ فؤاد السنيورة إلى تشكيل حكومة اتحاد وطني والى إشراك التيار الوطني الحر في هذه الحكومة مع ما يؤمّنه من تمثيل حقيقي لشريحة واسعة من اللبنانيين ومن غطاء وطني لهذه الحكومة. ويعتقد البعض ان الخلاف الأساسي الظاهر الذي أوصل إلى هذا الطلاق المبكر بين هاتين الجهتين السياسيتين يكمن أولا في إصرار العماد عون على أن تسند حقيبة العدل إلى أحد المقربين منه كشرط مبدئي لقبوله بدخول الحكومة، وذلك لتصور بعضهم أن تولي هذه الوزارة غير السيادية قد يسمح لتياره بوضع مشروعه السياسي المتعلق بفتح ملفات الفساد وهدر الأموال العامة موضع التنفيذ وبتطبيق قواعد المساءلة والمحاسبة بحق كل المشتبه فيهم بارتكاب جرائم مالية أو غيرها. أما ثانيا، وبحسب ما شيّع في وسائل الإعلام، فان إخفاق هذا المسعى يعود إلى عدم تجاوب تيار المستقبل مع مطلب العماد عون على أساس ان هذا التيار الأخير يعتبر وزارة العدل وزارة أساسية يتوجب إسنادها إلى أحد أعضائه أو أحد المحسوبين عليه لما لها من خصوصيات رمزية تتعلق في هذا الوقت بقضية التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وبمجريات هذا التحقيق.

في الحقيقة إن هذين السببين الظاهرين والمعروضين على بساط النقاش في لإعلام لا يشكلان السبب الحقيقي الذي أدى إلى عدم نجاح المفاوضات المذكورة أعلاه لأن العماد عون يصبو أولا وآخرا إلى تدعيم استقلالية القضاء وتنظيمه ومنع التدخلات السياسية في شؤونه وتطبيق قواعد العدالة والمساواة، ولا يهدف من خلال تسلمه حقيبة العدل إلى فتح ملفات قضائية انتقامية أو غيرها إذ أنه يعلم يقين العلم ان طبيعة الصلاحيات الممنوحة قانونا لوزير العدل لا تخوّله فتح ملفات قضائية أو تحريكها بالمطلق أو حتى إقفالها أو تطبيق قواعد المحاسبة والمساءلة الجزائية ( أولا ). هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فان تيار المستقبل يعرف أن لجنة التحقيق الدولية المكلفة رفع اللثام عن تفاصيل جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري هي لجنة مستقلة تمام الاستقلال عن السلطات اللبنانية ولا دالة أو سلطة قانونية لوزارة العدل عليها أو على مجريات التحقيق الذي تقوم به في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه ( ثانيا).

أولا: محدودية صلاحيات وزير العدل بالنسبة للتدخل في شؤون الملفات القضائية

أ‌- صلاحيات وزير العدل صلاحيات تنظيمية وإدارية أكثر مما هي قضائية:

1- السهر على حسن تطبيق القوانين والأنظمة وتنظيم شؤون القضاء

إن صلاحيات وزارة العدل حددت بموجب المادة الأولى من قانون تنظيم وزارة العدل الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 151 تاريخ 16 أيلول سنة 1983 والمعدّل بالمرسوم الاشتراعي رقم 23 تاريخ 23 آذار سنة 1985. ويتبين من خلال نص المادة المذكورة أعلاه ان هذه الوزارة تعنى بتنظيم شؤون القضاء والسهر على حسن تطبيق القوانين والأنظمة المتعلقة به وإعداد مشاريع القوانين والنصوص التنظيمية التي تكلّف بها وإبداء الرأي في المسائل التي تعرض عليها وتمثيل الدولة أمام المحاكم وتنظيم شؤون السجناء والأحداث المنحرفين. وتعنى أيضا بشؤون الكتّاب العدل والخبراء ووكلاء التفليسة ومراقبي الصلح الاحتياطي.

2 – يتم تعيين القضاة بناء على اقتراح وزير العدل وليس بقرار صادر عنه، والكلمة الفصل تعود في هذا الخصوص إلى مجلس الوزراء مجتمعا.

بالاستناد إلى النص المشار إليه أعلاه، يبدو واضحا أن المهمات التي تضطلع بها وزارة العدل فيما خص الشؤون القضائية هي مهمات تنظيمية بحتة تتعلق بوضع الأطر والآليات اللازمة لتأمين حسن سير العدالة كإجراءات تعيين القضاة ونقلهم وترقيتهم وتوزيع الأعمال القضائية على المحاكم. فبموجب المادة الثانية من قانون القضاء العدلي المعدّل بالقانون الرقم 389 تاريخ 21 كانون الأول 2001 ان مجلس الوزراء هو الذي يعيّن بمرسوم، بناء على اقتراح وزير العدل، نصف أعضاء مجلس القضاء الأعلى ( خمس قضاة) لمدة ثلاث سنوات. أضف إلى ذلك ان النائب العام التمييزي الذي يعتبر حكما نائبا لرئيس مجلس القضاء الأعلى يعيّن هو أيضا بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وفق ما تنص عليه المادة 31 من قانون القضاء العدلي. كذلك ان الرئيس الأول لمحكمة التمييز الذي يكون رئيسا لمجلس القضاء الأعلى حكما يعيّن بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل ( م 26 من قانون القضاء العدلي). وهذه هي الحال أيضا بالنسبة إلى رئيس هيئة التفتيش القضائي الذي يؤلّف عضوا حكميا في مجلس القضاء الأعلى والذي يتم تعيينه وتعيين هيئة التفتيش القضائي بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل ( م 100 و 101 من قانون القضاء العدلي). كما يتم تعيين أحد القضاة من رؤساء الغرف في محكمة التمييز وقاضيين من رؤساء الغرف في محاكم الاستئناف وقاض من رؤساء غرف محاكم الدرجة الأولى وقاض عدلي من بين رؤساء المحاكم أو من رؤساء الوحدات في وزارة العدل بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل بعد استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى. وبذلك فان السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) تعيّن ثمانية أعضاء من أصل مجموع الأعضاء الذين يشكّلون مجلس القضاء الأعلى ( 10 أعضاء). أما بالنسبة للعضوين المتبقيين، فيتم انتخابهما من بين رؤساء الغرف في محكمة التمييز من قبل الرئيس الأول لمحكمة التمييز ورؤساء الغرف والمستشارين في محكمة التمييز وتنظم دقائق هذا الانتخاب بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وبعد استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى.

3 - التشكيلات القضائية والمناقلات القضائية تقرر بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وليس بقرار صادر عنه، والكلمة الفصل تعود على هذا الصعيد إلى مجلس القضاء الأعلى.

على صعيد آخر ووفقا لأحكام المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي لا تصبح التشكيلات القضائية التي يقررها مجلس القضاء الأعلى نافذة إلا بعد موافقة وزير العدل. ولكن عند حصول اختلاف في وجهات النظر بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى تنعقد جلسة مشتركة بينهما للنظر في النقاط المختلف عليها. إذا استمر الخلاف ينظر مجلس القضاء الأعلى مجددا في الأمر لبته ويتخذ قراره بأكثرية سبعة أعضاء ويكون قراره في هذا الشأن نهائيا وملزما. وتصدر التشكيلات القضائية وفقا للبنود السابقة بمرسوم بناء على اقتراح وزير العدل.

4 - توزّع الأعمال القضائية على الدوائر والمراكز بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف.

أما في ما خص توزيع الأعمال القضائية فان توزيع هذه الأعمال بين الغرف في المركز الواحد أو في محكمة الاستئناف الواحدة كان يتم بقرار من وزير العدل بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف التابعة لها المحكمة. وكانت تطبق القاعدة نفسها، بموجب المادة 18 من قانون القضاء العدلي قبل تعديلها، في توزيع الأعمال بين الأقسام في المركز الواحد. وبهذا فان مجلس القضاء الأعلى كان يلعب دورا استشاريا لا غير في مسألة توزيع الأعمال القضائية بين الغرف وبين الأقسام، أي أن قراره لم يكن ملزما لهذه الجهة، وكانت الكلمة الفصل تعود إلى وزير العدل الذي كان يضع عملية التوزيع هذه موضع التنفيذ بقرار يتخذه بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى. غير أن القانون الرقم 389 الصادر بتاريخ 21 /12/2001 والذي عدّل قانون القضاء العدلي، استعاض عن عبارة " بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى" الواردة في المادتين 15 و 18 من قانون القضاء العدلي، بالعبارة التالية: " بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى". وعليه فان عملية توزيع الأعمال بين الغرف في المركز الواحد أو في القسم الواحد أو في محكمة الاستئناف لا تتم من تاريخ دخول القانون الرقم 389 حيز التنفيذ ( أي اعتبارا من 7 شباط 2002 ) إلا بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف.
وينتج من كل ذلك أنه حتى فيما يتعلق بأمور تعيين ونقل القضاة التي تعتبر أمورا تنظيمية وإدارية بحتة لا تكون الكلمة الفصل فيها لوزير العدل إنما في غالب الأحيان لمجلس الوزراء. أما فيما خص توزيع الأعمال القضائية على دوائر وأقسام وغرف المحاكم فان القرار الفاعل والنهائي يكون من اختصاص مجلس القضاء الأعلى وذلك لأن هذه المسألة تؤلّف شأنا يمت مباشرة إلى عملية التقاضي وإحقاق الحق وهي بطبيعتها مهمة قضائية صرفة لا يجوز للسلطة السياسية المس بها أو التدخل في تفاصيلها.

ب - العلاقة بين وزير العدل والنيابة العامة التمييزية تقوم على أساس ضرورة ممارسة الرقابة الإدارية على أعمال قضاة النيابة العامة وليس على أساس حق التدخل في شؤون الملاحقات الجزائية.

وإذا كانت صلاحيات وزير العدل قد حددت وفق ضوابط ومبادئ قانونية تحد من سلطان تدخله في عملية إحقاق الحق وفي عمل القضاة القضائي الصرف، فان ذلك تقرر بالاستناد إلى مبدأ فصل السلطات الدستوري ومبدأ استقلالية القاضي المنصوص عليه في المادة 20 من الدستور التي جاء فيها : " القضاة مستقلون في إجراء وظيفتهم وتصدر القرارات والأحكام من قبل كل المحاكم وتنفّذ باسم الشعب اللبناني". وجاء التأكيد على هذا المبدأ الأخير بأحكام المادة 44 من قانون القضاء العدلي التي تنص على أن " القضاة مستقلون في إجراء وظائفهم ولا يمكن نقلهم أو فصلهم عن السلك القضائي إلا وفقا لأحكام هذا القانون".
وانطلاقا من هذه المبادئ ينبغي عدم الخلط بين مبدأ استقلال القاضي في عملية قيامه بمهماته القضائية وبين ضرورة ممارسة الرقابة الإدارية على الجهاز القضائي من قبل السلطة السياسية بهدف ضمان استقلال هذا الجهاز وتأمين حسن سير العدالة وتطبيق القوانين، إذ لا يجوز تحرير المراجع القضائية من أية رقابة سياسية في ظل نظام برلماني يحكمه ليس فقط مبدأ فصل السلطات وإنما أيضا مبدأ تعاون هذه السلطات. ولكن هذا لا يعني من جهة أخرى السماح للسلطة السياسية التدخل في شؤون القضاء الداخلية والمتعلقة خصوصا بتفاصيل عملية إحقاق الحق والتقاضي وتوزيع العدالة.
وعلى هذا الأساس، ولأن النيابة العامة تمثّل المجتمع والسلطة العامة في البلاد ولأنه تلقى على عاتقها مهام حماية المجتمع ضد الجريمة والإجرام وحماية النظام العام، فان طبيعة عملها يوجب إشراف السلطة السياسية عليه منعا لإساءة استعمال سلطانها ومنعا للتنكيل والاستبداد بالمواطنين. ولهذا فان النيابة العامة بخلاف القضاء الجالس تخضع لنظام التبعية التسلسلية الذي يعطي للرئيس على المرؤوس سلطة كافية من الإشراف والرقابة الإداريتين، ما يجعلها، لهذه الجهة، أشبه بالهيئات الإدارية منها بالقضائية. وهذا يدل على ان قضاة النيابة العامة يخضعون لسلطة رؤسائهم التسلسلية التي تنتهي بوزير العدل الذي كان مخولا، في ظل قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، حق الإشراف على دوائر النيابات العامة وحق إعطائها الأوامر بإجراء التعقبات الجزائية في شأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه ( م 16 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم). ويلي وزير العدل في الهرم التسلسلي النائب العام لدى محكمة التمييز الذي يتمتع بسلطة تتناول جميع قضاة النيابات العامة، ثم يأتي النائب العام ألاستئنافي ومعاونوه من قضاة النيابة العامة التي يتولى إدارتها ورئاستها وفق ما ورد في المادة 12 من قانون التنظيم القضائي الصادر بالمرسوم الرقم 7855.
وتجدر الإشارة إلى أن المرسوم الاشتراعي الرقم 8 الصادر بتاريخ 15 كانون الأول سنة 1954 كان قد نص في مادته الثالثة والثلاثين على أنه يحق لوزير العدل أن يوجّه النيابات العامة بتعليمات خطية وعليها أن تتقيد بها. غير أن هذه المادة ألغيت بالقانون المتعلق بنظام القضاة العدليين والصادر بالمرسوم الرقم 7855 المذكور أعلاه واستعيض عنها بالمادة الثالثة التي تنص على أن " يخضع قضاة النيابة العامة لإدارة ومراقبة رؤسائهم ولسلطة وزير العدل". وتؤكّد المادة 45 من المرسوم الاشتراعي الرقم 150 ( قانون القضاء العدلي) على هذه التبعية التسلسلية في نظام النيابة العامة فتنص صراحة على أن " يخضع قضاة النيابات العامة لإدارة ومراقبة رؤسائهم، كما يخضعون لسلطة وزير العدل وتبقى لهم في جلسات المحاكمة حرية الكلام".



1 - لا يمنح قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد لوزير العدل سوى الحق في أن يطلب من النائب العام التمييزي إجراء التعقبات في شأن الجرائم التي وصلت إلى علمه: إن هذا الطلب لا يلزم النائب العام التمييزي بالانصياع لرغبات وزير العدل.

بصدور قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد بتاريخ 2 آب سنة 2001 أُدخلت بعض التعديلات على قاعدة خضوع النيابة العامة التمييزية لسلطة وزير العدل رغم الإبقاء على ارتباط هذه النيابة بوزارة العدل ولو بصورة جزئية. فمنذ دخول هذا القانون حيز التنفيذ أصبح النائب العام لدى محكمة التمييز السلطة المخولة وحدها مهمات مراقبة وإدارة النيابات العامة في لبنان، حالا بذلك مكان وزير العدل الذي يجرّده هذا القانون من معظم الصلاحيات التي كان يتمتع بها في إطار السلطة الممارسة من الحكومة على النيابات العامة والتي كان يستقيها من أحكام الفقرة الأولى من المادة 45 من المرسوم الاشتراعي الرقم 150 تاريخ 16 أيلول 1983 ( قانون القضاء العدلي) والتي أشرنا إليها أعلاه. وعلى هذا النحو يتحوّل النائب العام لدى محكمة التمييز، منذ بدء العمل بقانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، من مدير ومراقب تسلسلي على أعمال قضاة النيابات العامة، خاضع لسلطة وزير العدل، إلى صاحب سلطة مستقلة ( سلطة رقابة وإدارة) أوحد على أعمال الضابطة العدلية وحتى على أعمال قضاة النيابات العامة كلها المتعلقة بتحريك دعوى الحق العام وممارستها. أما وزير العدل، فتبقى له فقط صلاحية الطلب من النائب العام التمييزي إجراء الملاحقات الجزائية بشأن الجرائم التي علم بوقوعها، وذلك تطبيقا للفقرة الأولى من المادة 14 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد التي تنص على أنه " لوزير العدل أن يطلب إلى النائب العام التمييزي إجراء التعقبات بشأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه".
ويظهر من خلال عبارات نص الفقرة المذكورة أن طلب وزير العدل الموجّه إلى النائب العام التمييزي بتحريك الملاحقة الجزائية لا يكون ملزما لهذا الأخير وذلك لسببين رئيسيين:
- لأن الإجراءات والأصول الجزائية المتعلقة بالدعوى العامة تقوم على قاعدة أساسية ألا وهي قاعدة استنسابية الملاحقة الجزائية ( Le principe de l’opportunité de poursuite )، مما يعني ان للنيابة العامة وحدها حق تقدير ملاءمة أو عدم ملاءمة تحريك دعوى الحق العام ولا تكون في ذلك خاضعة لأي وصاية أو سلطة سياسية.
- لأن المشترع اللبناني لم ينص صراحة على إلزامية الطلب الذي يوجهه وزير العدل إلى النائب العام في ما خص تحريك الدعوى العامة. فلو ان المشترع أراد أن يلزم النائب العام التمييزي بطلبات وزير العدل المتعلقة بإجراء التعقبات الجزائية في شأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه لكان نص على ذلك صراحة وعلى الإجراءات والعقوبات التأديبية والإدارية الواجب اتخاذها في حال عدم انصياع النائب العام التمييزي لطلب وزير العدل، إذ لا يجوز تطبيق أية قاعدة أصولية أو إجرائية من دون نص صريح عملا بمبدأ شرعية الإجراءات الجزائية.

2- نتائج الفصل بين صلاحيات وزير العدل وصلاحيات النائب العام لدى محكمة التمييز

وضع قانون أصول المحاكمات الجزائية حدا لأحكام المادة 45 من قانون القضاء العدلي التي كانت تنص على خضوع النائب العام التمييزي لسلطة وزير العدل. ويثبت هذا الاتجاه القانوني بالمادة 428 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد التي نصت صراحة على أنه " يلغى قانون أصول المحاكمات الجزائية الصادر في 18/9/1948 وتعديلاته، كما تلغى جميع الأحكام والنصوص التشريعية المخالفة أو المتعارضة مع هذا القانون"، أي بما فيها نص المادة 45 من قانون القضاء العدلي الصادر بالمرسوم الاشتراعي الرقم 150 تاريخ 16 أيلول سنة 1983. ويؤدي تطبيق قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد على هذا الصعيد الى نتائج عدة أهمها:
- إخضاع قضاة النيابة العامة لإدارة وإشراف رؤسائهم تحت سلطة ورقابة النائب العام التمييزي.
- تشمل سلطة النائب العام التمييزي جميع قضاة النيابة العامة بمن فيهم مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية. وله أن يوجّه إلى كل منهم تعليمات خطية أو شفهية ملزمة في تسيير دعوى الحق العام. إنما تبقى لهم حرية الكلام في جلسات المحاكمة عملا بالقاعدة المأثورة والقائلة أنه " إذا كان القلم مقيدا فاللسان طليق": « La plume est serve, mais la parole est libre ».
- يحيل النائب العام التمييزي على قضاة النيابة العامة كل في حدود اختصاصه التقارير والمحاضر التي ترده بصدد جريمة ما ويطلب إليه تحريك دعوى الحق العام فيها.
- يعتبر طلب النائب العام التمييزي بتحريك دعوى الحق العام ملزما لقضاة النيابة العامة، وهذا ما يستنتج من نص الفقرة الثانية من المادة 13 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي وردت فيها عبارة " إنما يبقى لهم ( أي لقضاة النيابة العامة) حرية الكلام في جلسات المحاكمة".
- بوسع النائب العام التمييزي عند الاقتضاء أن يجري التحقيق مباشرة أو بواسطة معاونيه من قضاة النيابة العامة الملحقين به أو أفراد الضابطة العدلية التابعين له دون أن يكون له حق الادعاء.
- يجوز لوزير العدل توجيه التعليمات الخطية أو حتى الشفهية غير الملزمة إلى النيابة العامة التمييزية بتحريك دعوى الحق العام في قضية ما، ولكن لا يمكنه أن يعطي الأمر للنائب العام بحفظ الدعوى بعد تحريك الملاحقة الجزائية.
- يجوز لوزير العدل أن يوجّه إلى النيابة العامة التمييزية كل التعليمات غير الملزمة والتي تصب في المصلحة العامة وتتعلق بالدعوى العامة بما فيها بكف التعقبات الجزائية أو بمنع المحاكمة إذا كانت المصلحة العليا تقضي بذلك.
- لا يجوز لوزير العدل أن يقف حائلا دون أخذ الملاحقة الجزائية مجراها، أي لا يجوز له أن يأمر بوقف سير دعوى الحق العام في قضية ما. وهذا ما أكّد عليه اجتهاد محكمة النقض الفرنسية منذ زمن بعيد.


ثانيا: محدودية صلاحيات وزير العدل بالنسبة للتدخل في شؤون لجنة التحقيق الدولية المكلفة التحقيق في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.


أ - لجنة التحقيق الدولية لجنة مستقلة تمام الاستقلال عن القضاء اللبناني ولا تخضع سوى للضوابط التي وضعها القرار 1595 الصادر عن مجلس الأمن.

إن القرار 1595 الصادر عن مجلس الأمن بتاريخ 7 نيسان 2005 قضى بتأليف لجنة تحقيق دولية ذات صلاحيات تنفيذية للتحقيق في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. وبما أن هذه اللجنة مكلفة القيام بمهمة التحقيق في جريمة إرهاب خطيرة تخطت نتائجها الحدود الوطنية لتطال السلام والأمن الدوليين، فان المرجعية الدولية الأولى ( مجلس الأمن) التي أنشأتها هي السلطة الوحيدة التي يكون بامكانها التدخل في شؤونها وممارسة الرقابة عليها وعلى أعمالها ومجريات التحقيق الذي تقوم به وذلك تطبيقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وبالتأسيس على القرارين الدوليين الرقم 1373 و 1566 المتعلقين بمكافحة الإرهاب. وتأكيدا على هذا المنحى، منح القرار 1595 لجنة التحقيق الدولية المولجة أمر التحقيق في جناية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه كل الصلاحيات التنفيذية التي تجعل من هذه اللجنة مرجعية تحقيقية دولية مستقلة لا يجوز لأية دولة التدخل في شؤونها أو في مجريات التحقيق الذي تقوم به. وهو في هذا المجال نص على إلزام الحكومة اللبنانية بتقديم التعاون الكامل إلى اللجنة المذكورة بما في ذلك الوصول الكامل إلى كل المعلومات والأدلة من وثائق وإفادات ومعلومات وأدلة حسية متوفرة في حوزتها وتعتبرها اللجنة ذات صلة بالتحقيق ( البند الثالث من القرار المذكور). كما ان القرار ذاته نص على إلزام الحكومة اللبنانية بأن توفر للجنة التسهيلات الضرورية لإتمام وظائفها وعلى أن تحظى بالامتيازات والحصانات المنصوص عليها في الاتفاق المتعلق بامتيازات الأمم المتحدة وحصاناتها. ويدعو القرار كل الدول والأطراف إلى التعاون تعاونا كاملا مع اللجنة ولاسيما تزويدها بأي معلومات قد يمتلكونها وتكون على صلة بالعمل الإرهابي المذكور أعلاه وذلك تحت طائلة العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية المنصوص عليها في الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة( البند السابع).
وإذا كان القرار 1595 يؤكّد على دور لجنة التحقيق الدولية في مساعدة السلطة اللبنانية في التحقيق للكشف عن هوية مخططي الجريمة الإرهابية ومنفذيها، فان القرار ذاته يقضي بأن اللجنة المذكورة تتمتع بصلاحيات واسعة تلزم السلطات اللبنانية بالتعاون وبتقديم كل المعلومات حول التحقيق. ومن هنا فان دور لجنة التحقيق في الواقع أكثر من مساعد أو مكمّل، إذ أنه يقوم على أساس تحقيق مستقل تمام الاستقلال عن التحقيق المحلي وخاص بمرجعية دولية تعلو سلطتها على السلطات الوطنية للدولة المعنية على أساس القرار 1595.
ب - ليس من صلاحيات وزير العدل التدخل في مجريات التحقيق الذي تقوم به لجنة التحقيق الدولية

وانطلاقا من هذه المعطيات القانونية، وبالتأسيس على قرار لجنة تقصي الحقائق الذي رفع إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 25 آذار 2005 والذي خلص إلى أن أجهزة التحقيق اللبنانية مشكك في قدرتها على القيام بالتحقيقات في هذه القضية وفي نزاهتها وحيادها بالإضافة إلى أنها مسؤولة عن إخفاء بعض الأدلة الجرمية وبالنظر إلى أن لجنة التحقيق الدولية أُنشئت من قبل مجلس الأمن بالاستناد إلى هذه الوقائع الخطيرة، وبما ان هذه اللجنة الأخيرة تتمتع بالاستقلالية التامة في ما خص أعمالها ومهماتها، لا نعتقد انه تم التعويل على جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وعلى سير التحقيقات في شأنها للمطالبة بوزارة العدل من قبل تيار المستقبل أو من قبل أشخاص مقربين منه. فوزير العدل الذي ليس بامكانه أن يلزم النيابة العامة بطلب تحريك دعوى الحق العام في شأن جريمة وصل خبرها إلى علمه تطبيقا للقانون اللبناني كما رأينا سابقا، لا يمكنه من باب أولى التدخل في شأن التحقيقات التي تقوم بها لجنة تحقيق دولية مستقلة.
ومن هنا لا يمكن أن نعزو فشل المفاوضات التي كانت جارية في مرحلة أولى بين تيار العماد عون وتيار المستقبل إلى إصرار العماد عون على تسلم وزارة العدل أو إلى أسباب شخصية تتعلق بقضية التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وإنما إلى بواعث سياسية صرفة.

١٢‏/٧‏/٢٠٠٥

ردا على المدعو حنا حبيب " الباحث في القانون الدستوري" !!

ردا على المدعو حنا حبيب " الباحث في القانون الدستوري"!!

بقلم الدكتور دريد بشرّاوي

بتاريخ 8 تموز سنة 2005 نشر موقع التيار الوطني الحر مقالا للمدعو حنا حبيب تحت عنوان " رحمة بالقانون وبرجال القانون اقرأوا قبل أن تكتبوا"، وقد تم نشر هذا المقال " عملا بحق الرد" على مقالي الذي نشر نقلا عن صحيفة النهار على الموقع ذاته بتاريخ 25 حزيران الماضي والمتعلق " بإمكانية الطعن بنتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة أمام مجلس دستوري منتهية مدة عدد من أعضائه".

إن مقال المدعو حنا حبيب يستدعي بعض الملاحظات الأولية قبل أن نرد لناحية الأساس على ما جاء في متنه من مغالطات قانونية ومن تشويه للحقائق وللمواقف القانونية التي أدليت بها في مقالي. وهذه الملاحظات هي التالية:

1- لا يندرج مقال المدعو حبيب ضمن " حق الرد"، وهذا لأن مقالي الذي نشر على موقع التيار الوطني الحر لا يتناول السيد حبيب أو " عبقريته" أو أبحاثه الدستورية المزعومة لا من قريب ولا من بعيد. فأنا لم أسمع قبل اليوم قط باسم السيد حبيب، ما اعتبره خسارة علمية فادحة لأستاذ جامعي مثلي لم يغرف إلا متأخرا من مناهل تعاليم وفقه السيد حبيب في حقل القانون الدستوري.

2- إن السيد حبيب الذي قدّم نفسه على أساس انه " باحث في القانون الدستوري" لم يحدّد وللأسف للقرّاء الكرام الجامعة أو مراكز الأبحاث العالمية أو اللبنانية التي أغناها بفكره النيّر وبدراساته المشهورة ولم يفصح عن مكانته القانونية العالية وعن طبيعة الشهادات العلمية التي يحملها في هذا المجال.
3- إن عبارات التجريح والتهجّم والقدح والذم التي ساقاها السيد حبيب ضد شخصي في مقاله دون أي سبب موجب تدل على أنه صاحب خلفيات مبيّتة وسيئة.
4- يقول السيد حبيب أنه أراد كتابة مقاله " رغبة بالنقاش القانوني العلمي"، لكن عبارات القدح والذم والتحقير التي استعملها تدل بوضوح على أنه خرج على نطاق النقاش العلمي وانحدر إلى هذا الدرك من المستوى الفكري والأخلاقي وخصوصا أنه لم يدلِ بأي حجج قانونية أو دستورية مقنعة، وهذا ما سنظهره لاحقا.
5 - بإزاء عبارات القدح والذم والتحقير التي وجّهها السيد حبيب إلى شخصي احتفظ بحقي الشخصي بإقامة دعوى جزائية بجريمتي القدح والذم أمام القضاء المختص ضده وضد كل من سهّل أو حرّض على كتابة ونشر مقاله وضد كل من يظهره التحقيق فاعلا أو شريكا أو محرّضا.
6 – ان اسم حنا حبيب لا يوجد إلا في مخيّلة صاحب المقال، مما يدل على ان هذا الأخير أراد إخفاء هويته الحقيقية لعدم ثقته بنفسه ولأنه يعلم يقين العلم إن ما كتبه لا يتطابق مع الحقيقة ويهدف إلى الإساءة إلى شخصي.

أما بالنسبة لما قدّمه السيد حبيب من انتقادات غير علمية لما كتبته في مقالي عن المجلس الدستوري، فكنا لا نود الرد عليها والدخول في متاهاتها لأنها لا تستأهل حقيقة الرد ولا حتى النقاش العلمي ولأنها مجرّدة من كل منطق أو حث قانوني وقائمة فقط على هاجس الانتقام والتهجّم المندفع بعامل الحسد. ولكن احتراما منا للقراء الكرام وإظهارا منا لحقائق الأمور سنناقش ما اعتبره السيد حبيب انتقادا علميا.

نفهم من الانتقادات التي وجهها السيد حبيب أنه يعتبر أن السؤالين المطروحين في مقالي عن إمكانية تجديد أو تمديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري وعن إمكانية أن ينظر المجلس الدستوري المنتهية مدة عدد من أعضائه في الطعون النيابية التي ستقدم أمامه لا يستدعيان " هذا البذخ الفكري المجاني". كما أنه يعتبر أني ارتكبت " لأخطاء علمية لا يمكن لأحد أن يجاريني فيها "، وهي أخطاء " من الفئة الثانية" ذكر منها " على سبيل المثال، كما يقول، وليس على سبيل الحصر المغالطات التالية" : مغالطة متعلقة بآلية تعيين قضاة المجلس الدستوري، المغالطة الناتجة عن قولي أن الآلية المعتمدة في اختيار أعضاء المجلس الدستوري الفرنسي لا تؤمّن استقلال هذا المجلس بالشكل الفعّال المطلوب، والمغالطة الناتجة عن إعطائي الإيحاء للمرشحين الخاسرين أن بامكانهم الطعن بدستورية قانون الانتخاب لعام 2000 .

أولا : بالنسبة للانتقاد المتعلق بمعالجتي لمسألتي التجديد أو التمديد لأعضاء المجلس الدستوري المنتهية مدة ولايتهم ولإمكانية أن ينظر المجلس المذكور في الطعون الانتخابية .

يقول السيد حبيب في هذا الخصوص ما حرفيته " من الغرابة بمكان أن يصر صاحب المقال على تقديم الحجج والبراهين المدعومة بمراجع فرنسية من أجل إثبات ما هو ليس بحاجة إلى إثبات ولا يستدعي بالتالي هذا البذخ الفكري المجّاني. فعلى السؤال الأول تجيب المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري الصادر في 14 تموز سنة 1993 بصورة صريحة لا لبس فيها بأن مدة أعضاء المجلس الدستوري ست سنوات، غير قابلة للتجديد. وعلى السؤال الثاني تجيب المادة الرابعة من نظام المجلس الدستوري بشكل ولا أوضح حين تنص: عند انتهاء الولاية، يستمر الأعضاء الذين انتهت ولايتهم في ممارسة أعمالهم إلى حين تعيين بدلاء لهم وحلفهم اليمين".

في الحقيقة، يُظهر هذا القول مدى سطحية التعليل الذي يقدّمه السيد حبيب دعما لفكرته ويُثبت أنه عندما صاغ هذه السطور أراد أن يكتب بكيدية وليس بهدف التحليل العلمي والقانوني البنّاء. فإذا كان الجواب على هذين السؤالين القانونيين لا يستوجب عناء البحث والنقاش، كما يقول، فلماذا عولجت هذه المسائل الدستورية من قبل جهابذة القانون الدستوري في لبنان ابتداء من الدكتور أدمون نعيم مرورا بالدكتور حسن الرفاعي ووصولا إلى الأستاذ مخايل الضاهر؟ ولماذا تهافتت وسائل الإعلام إلى مكاتب هؤلاء الأساتذة الكبار بحثا عن حلول قانونية ودستورية لهذه هذه المسائل؟ ولماذا كتبت ونشرت العديد من المقالات في صحيفة النهار وغيرها بخصوص هاتين المسألتين على يد رجال قانون متخصصين ويشهد لهم بأهليتهم وخبرتهم العالية؟ وهل يعتبر السيد حبيب طرح هاتين القضيتين الدستوريتين على بساط البحث من قبل كبار رجال القانون في فرنسا كجيكال وبوردو وفيدال وغيرهم " بذخا فكريا مجانيا"؟

على السيد حبيب أن يعلم ان النص القانوني أو الدستوري وان كان بظاهره صريحا يقتضي أحيانا تفسيره لأنه قد يحمل في أحكامه معان قانونية عدة مختلفة أو متناقضة وقد يطرح عدة مشاكل قانونية، وهو بذلك قد يتعرّض لكثير من التأويل والشرح والتحليل. ومن هذا المنطلق، فان النص الدستوري وان بدا لبعض غير المتعمّقين في العلوم القانونية كالسيد حبيب غير غامض يقتضي تفسيره وشرحه للتمكن من إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل الدستورية المطروحة، وإلا انتفت الحاجة لفقه رجال القانون وللنظريات والأبحاث القانونية ولاجتهادات المحاكم ووزعت العدالة على الناس بواسطة ماكينات نقّالة.
وبهذا لا يمكن أن تعتبر صراحة النص كافية بحد ذاتها لإيجاد حلول معيّنة، إذ أن النصوص تكون بحاجة إلى تفسير وشرح من قبل رجال القانون وأحيانا من خلال العودة إلى نية المشترع الحقيقية والاستعانة بالأعمال التحضيرية للقوانين وبالمناقشات البرلمانية. وهذا ما يؤكّد عليه علماء القانون الدستوري في فرنسا بقولهم:
« Le travail du juriste est principalement un travail d’interprétation et d’argumentation. La formalisation écrite de la constitution produit inévitablement un problème de détermination du sens du texte… Les juristes ont en effet principalement affaire à des textes, c’est-à-dire à des formulations écrites de normes et la science juridique consiste à montrer ce qui est obligatoire, permis ou interdit (les normes) dans un système donné à partir des textes qui l’énoncent… » (Louis FAVOREU, Patrick GA?A, Richard GHEVONTIAN, Jean-Louis MESTRE, Otto PFERSMANN, André ROUX et Guy SCOFFONI : Droit constitutionnel, Précis Dalloz, 5ème édition, 2002, n° 121-122, p. 85-86).

وضرورة تفسير النص الدستوري رغم صراحته تؤلّف قاعدة أساسية لكبار رجال الفقه الدستوري في فرنسا ومنهم بيردو وآمون وتروبي الذين ثبّتوا هذه القاعدة على النحو التالي:
« Avant d’appliquer un texte juridique, quel qu’il soit, il faut en déterminer la signification. La signification d’un texte juridique, en effet, c’est ce que ce texte ordonne ou permet, c’est la norme qu’il exprime. En d’autres termes, selon le sens qu’on lui attribue, le texte ordonne tel comportement ou tel autre. On a affirmé parfois que l’interprétation n’est nécessaire que lorsque le texte est obscur et que, par contre, elle est superflue lorsque le texte est clair, ce que l’on exprime par l’adage in claris cessat interpretatio. Cette thèse aboutit en réalité à un paradoxe, car pour pouvoir affirmer que le texte est clair et qu’il n’y a pas lieu de l’interpréter, il faut savoir quelle est sa signification, c’est-à-dire qu’il faut l’avoir interprété » ( Francis HAMON, Michel TROPER, Georges BURDEAU : Droit constitutionnel, 27ème édition, L.G.D.J., 2001, p. 55).


وللدلالة على صحة هذا الموقف يكفي أن نشير، على سبيل المثال، إلى المادة 49 من الدستور اللبناني التي تنص على أن مدة رئيس الجمهورية ست سنوات ولا تجوز إعادة انتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته. فنص هذه المادة يعتبر صريحا وواضحا بأحكامه التي لا تجيز مبدئيا تمديد ولا تجديد مدة ولاية رئيس الجمهورية. ولكن، رغم صراحة هذا النص، طَرحت مسألة إمكانية تجديد أو تمديد مدة ولاية رئيس الجمهورية على بساط البحث من قبل العديد من رجال القانون الدستوري في لبنان وقدّمت العشرات من الدراسات القانونية في هذا الخصوص حين بدأ التداول في مسألة بقاء الرئيس لحود في سدة رئاسة الجمهورية. وكان الهدف من المناقشات والتفسيرات والتحليلات القانونية المذكورة هو معرفة ما إذا كان يجوز من الناحية الدستورية تجديد أو تمديد مدة ولاية رئيس الجمهورية بالاستناد إلى ظروف استثنائية أو غير عادية قد توجب هذا الأمر منعا للوقوع في فراغ دستوري أو لمواجهة وضع خطير يهدد الأمة جمعاء والمصالح العليا للوطن، ما لم يوضحه نص المادة 49 من الدستور رغم صراحته المعروفة.
وكذلك الأمر، على سبيل المثال أيضا، بالنسبة للمادة 17 من شرعة حقوق الإنسان لعام 1789 التي تنص على ان " لا يجوز حرمان أحد من حق الملكية أو نزع ملكيته إلا للحاجة العامة وشرط أن يدفع له تعويضا مسبقا وعادلا". تعتبر أحكام هذه المادة صريحة وواضحة للغاية، ولكنها لا تبيّن مقدار ولا مفهوم التعويض العادل. ولهذا فان نصها يكون عرضة للتفسير وللتقدير رغم صراحته.

ولاعتقاد السيد حبيب بعدم جدوى تفسير النصوص وشرحها عندما تكون واضحة، وقع في خطأ فادح بعدم تمكّنه من ثبر غور نص المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري وبرهن على انه لم يدقق بما فيه الكفاية في أحكامها التي يعتبرها جد صريحة وواضحة، وخصوصا عندما أكّد ان هذه المادة " تجيب بصورة صريحة لا لبس فيها عن السؤال الأول أي عن السؤال المتعلق بإمكانية التجديد أو التمديد لأعضاء المجلس الدستوري". وتعود هذه المغالطة إلى الأسباب التالية:

1- إذا كانت المادة الرابعة المذكورة أعلاه تنص على أن مدة أعضاء المجلس الدستوري غير قابلة للتجديد، فهي لا تذكر في المقابل البتة مسألة كيفية مواجهة الظروف الاستثنائية والقاهرة وما إذا كان يجوز التجديد في هذه الحالات لأعضاء المجلس الدستوري المنتهية مدة ولايتهم بهدف مواجهة هذه الأوضاع الاستثنائية. كما أن المادة ذاتها لا تشير إلى مسألة التمديد لأعضاء المجلس الدستوري الذين انتهت مدة ولايتهم. لهذا، ومن جهة أولى، كان يجب تفسير نصها وشرحه لمعرفة ما إذا كان يجوز التجديد لأعضاء المجلس الدستوري بالاستناد إلى الظروف الاستثنائية أو التمديد لهؤلاء الأعضاء. وعليه، كان يقتضي التفريق بين مفهومي التجديد والتمديد وعدم الخلط بينهما. ولكن، وعلى عكس ذلك، وبتحليل بسيط وسطحي، اعتبر السيد حبيب ان هذه المسألة لا تستأهل عناء الدرس والبحث كونه يخلط بين مسألتي التجديد والتمديد لأعضاء المجلس الدستوري وكونه يعتبر ان النص الصريح لا يكون بحاجة إلى تفسير أو نقاش، مما ينم عن جهل كبير لآليات تطبيق القوانين الأساسية.

2- إن السيد حبيب وعلى أساس من النية السيئة والتجريح، وبعد أن اجتزأ مواقفي القانونية وشوّهها، لم يتطرق للمسألة الأساسية التي ناقشتها في مقالي والتي تتعلق بتركيبة المجلس الدستوري الحالية التي تضم خمسة أعضاء لم تنته مدة ولايتهم بعد وخمسة أعضاء آخرين انتهت مدة ولايتهم منذ حوالي السنتين وما زالوا يمارسون وظائفهم، وتم تعيين ثلاثة أعضاء من مجلس النواب منذ أشهر ولم يحلفوا اليمين القانونية ولم يقوموا بأية مهمة قانونية أو دستورية حتى الآن. والمشكلة التي تطرح والحالة هذه والتي عالجتها في مقالي تتعلق بإمكانية النظر في الطعون الانتخابية من قبل مجلس دستوري ينقص تركيبته تعيين عضوين فيه بقرار من مجلس الوزراء مكان العضوين المنتهية مدتهما. وبتعيين مجلس النواب لثلاثة أعضاء في المجلس الدستوري، فان المجلس المذكور أصبح يتألف من ثلاثة عشر عضوا بدل العشرة أعضاء كون الأعضاء الثلاثة المنتهية مدتهم ما زالوا يقومون بوظائفهم ويتقاضون رواتبهم، مما يناقض قانون المجلس الدستوري الذي يحدد مدة العضوية بست سنوات.
وبإزاء هذا الوضع، يكون من الواجب مناقشة وتفسير المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري، فيما يتعلّق بهذه المسائل التي لا تعطي حلولا لها. وعلى هذه الخلفية يطرح السؤال حول مدى شرعية ودستورية العمل الذي يقوم به عضو المجلس الدستوري الذي انتهت مدة ولايته منذ حوالي السنتين. فصحيح ان المادة الرابعة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري الصادر بالقانون الرقم 243 بتاريخ 7 آب سنة 2000 تنص صراحة على أنه " عند انتهاء الولاية، يستمر الأعضاء الذين انتهت ولايتهم في ممارسة أعمالهم إلى حين تعيين بدلاء عنهم وحلفهم اليمين"، لكنها، وعلى رغم صراحة أحكامها لا تحدد الفترة التي يمكن أن يستمر خلالها عمل عضو المجلس الدستوري المنتهية مدته. فهل يمكن ان يستمر هذا العضو في القيام بوظائفه خلال مدة سنتين أو إلى ما شاء الله؟ وهل يجوز اعتبار استمراره في عمله طوال هذه المدة الطويلة كتمديد ضمني لفترة ولايته أو كتجديد لها في حال ناهزت الست سنوات ( أي المدة الأساسية والقانونية لأعضاء المجلس الدستوري)؟
للجواب على هذه الأسئلة كان يقتضي تفسير نص المادة الرابعة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري والوقوف على نية المشترع الذي وضع هذا النص والعودة إلى الأعمال التحضيرية للقانون الذي وردت فيه ( قانون رقم 243 ) وللمناقشات النيابية. وبالتأسيس على كل هذه العناصر وعلى عملية التفسير التي يقوم بها رجل القانون، أمكن القول أن استمرار عضو المجلس الدستوري المنتهية مدة ولايته في القيام بوظائفه طوال فترة سنتين بعد انتهائها يعد أمرا شاذا ومخالفا للقانون وللنظام الداخلي للمجلس الدستوري لأن المشترع قصد من خلال المادة الرابعة من النظام المذكور التي تنص على إمكانية أن يستمر العضو المنتهية مدة ولايته في ممارسة أعماله، أن تكون الفترة المضافة على مدة العضو الذي انتهت ولايته هي الفترة الضرورية التي يمكن خلالها تعيين العضو البديل من قبل السلطة المختصة وحلفه اليمين القانونية، ما يمكن تحقيقه في فترة زمنية جد وجيزة. ولكن، وبما ان الحاجة تقضي بتجنّب أي فراغ دستوري وذلك بهدف تأمين استمرارية العمل في المؤسسات الدستورية، أيدنا فكرة تقديم الطعون الانتخابية أمام المجلس الدستوري وان كانت مدة عدد من أعضائه منتهية. ومن هنا كان السؤال الذي طرحته حول دستورية النظر في الطعون الانتخابية من قبل مجلس دستوري مؤلف خلافا للقانون الذي أنشأه بتاريخ 14 تموز سنة 1993 ( القانون الرقم 250 ).

ثانيا: بالنسبة للانتقاد المتعلق بقولي أن الآلية المعتمدة في تأليف المجلس الدستوري الفرنسي لا تؤمّن استقلال هذا المجلس بالشكل الفعّال المطلوب.
تتمحور انتقادات السيد حبيب لمقالي على هذا الصعيد حول نقطتين أساسيتين، إذ أنه من جهة يعتقد بتحليله البسيط والسطحي أني " أخلط بين النظام العادي لتعيين أعضاء المجلس الدستوري الفرنسي ونظام التعيين الاستثنائي الذي اعتمد لتأليف هيئة لهذا المجلس"، ويدّعي من جهة أخرى أني " أجهل جهلا مطبقا لاجتهاد المجلس الدستوري" لقولي أن آلية تعيين قضاة المجلس الدستوري في فرنسا لا تؤمّن هي أيضا استقلالية هذا المجلس عن السلطة السياسية بالشكل الفعّال والمطلوب.
يبدو من خلال هذا الكلام أن من تنطبق عليه صفة الجهل العلمي بامتياز هو طبعا السيد حبيب بالنظر إلى عدم تمكّنه من القيام بقراءة صحيحة وموضوعية لنص قانوني أو لمقال قانوني وبالنظر إلى أن انتقاداته الموجهة إلى كتاباتي تقوم أساسا وأولا على عامل الحقد والحسد والغرور بالنفس ولا تندرج في أي إطار علمي أو فكري بنّاء.

فالبنسبة إلى النقطة الأولى، يقول المسمي نفسه " بحنا حبيب" أني في معرض شرحي لآلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري في لبنان وفرنسا كتبت ما حرفيته " يعتمد مبدأ التجديد الدوري الجزئي في لبنان وفرنسا حيث يتم التجديد الدوري كل ثلاث سنوات. ففي فرنسا يعيّن ثلاثة قضاة لثلاث سنوات وثلاثة لست سنوات وثلاثة لتسع سنوات"، واعتبر نتيجة لذلك، وبفكره المحدود، أني أخلط بين النظام العادي والنظام الاستثنائي لتعيين أعضاء المجلس الدستوري.
يبدو السيد حبيب الذي يصف نفسه بالباحث الدستوري بعيدا كل البعد عن الأبحاث والتحاليل القانونية والدستورية ويظهر من خلال ادعاءاته أنه متخصص في علم " اجتزاء الأقوال وتحريفها" عن سوء نية. فهو عمل على إخفاء ما كتبت وبكل صراحة في الصفحتين الأولى والرابعة من مقالي حيث أشرت صراحة إلى " أن المجلس الدستوري اللبناني يتألف، بموجب القانون الرقم 250 المذكور آنفا، من عشرة أعضاء يعيّن نصفهم مجلس النواب ويعيّن النصف الآخر مجلس الوزراء لمدة ست سنوات غير قابلة للتجديد". كما أنه تغاضى بسوء نية ظاهرة عن ما جاء في مقالي في الصفحة الثالثة منه حيث ميّزت بكل وضوح بين آلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري وعملية التجديد الدوري الجزئي للمجلس المذكور بما حرفيته : " إن هذه الآلية المعتمدة في تعيين أعضاء المجلس الدستوري في فرنسا قد تحد من استقلال هذا المجلس، ولكن ليس بشكل خطر ومستمر، وهذا لأن مدة العضو في المجلس المذكور هي تسع سنوات ( م 56 من الدستور) حيث يعتمد أسلوب التجديد الدوري الجزئي وذلك حرصا على مبدأ استمرارية العمل إذ لا يجوز انتهاء ولاية الأعضاء دفعة واحدة في الوقت ذاته... ويعتمد مبدأ التجديد الدوري في لبنان وفرنسا حيث يتم التجديد الدوري الجزئي كل ثلاث سنوات. ففي فرنسا يعيّن ثلاثة قضاة لثلاثة سنوات، وثلاثة لست سنوات، وثلاثة لتسع سنوات. وبهذا فان تغيير الغالبية الحاكمة قد يأتي بأعضاء جدد إلى المجلس الدستوري غير معينين من الغالبية السابقة التي أصبحت وقت التعيين الجديد في موقع المعارضة. وهذا يؤدي إلى عدم انتماء كل أعضاء المجلس الدستوري إلى لون سياسي واحد والى استقلالية أكبر في قرارات هذا المجلس...".

ويتأكد من خلال هذه المقاطع التي وردت في مقالي بصورة لا تترك أي مجال للشك أني لم اخلط بين مدة أعضاء المجلس الدستوري العادية وهي ست سنوات في لبنان وتسع سنوات في فرنسا وبين مبدأ التجديد الدوري الجزئي للمجلس الدستوري. والتجديد الدوري الجزئي، الذي يعتمد في لبنان وفي فرنسا، يعني أن أعضاء المجلس الدستوري لا تنتهي مدة ولايتهم في وقت واحد، وهذا يعود إلى انه في فرنسا مثلا تم بداية تعيين ثلاث قضاة لمدة ثلاث سنوات، وثلاثة قضاة لست سنوات، وثلاثة قضاة لتسع سنوات. وبهذا فان المجلس الدستوري يتجدد جزئيا كل ثلاث سنوات، إذ أن الأعضاء الذين عيّنوا لثلاثة سنوات يستبدلون عند انتهاء مدة ولايتهم بأعضاء لمدة تسع سنوات في وقت لم تنته فيه بعد مدة ولاية الذين عينوا لمدة ست سنوات وتسع سنوات وذلك إلى أن تنتهي مدة ولاية القضاة الذين عيّنوا لمدة ست سنوات وتسع سنوات حيث يتم تعيين بدلاء لهم عند انتهاء مدة ولايتهم، مما يؤدّي إلى إدخال أعضاء جدد إلى المجلس الدستوري كل فترة ثلاث سنوات غير محسوبين على الغالبية السياسية نفسها التي عيّنت الأعضاء السابقين والذين لم تنه مدة ولايتهم بعد. والهدف من هذه الآلية هو منع انتهاء مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري دفعة واحدة وتأمين قاعدة استمرارية العمل في المؤسسات الدستورية، وهذا ما حاولنا شرحه في مقالنا الذي هاجمه السيد حبيب بمنطق العنف الفكري والانحطاط العلمي.
ويتأكد من خلال أقوال السيد حبيب لهذه الناحية انه، ونظرا إلى تحليله السطحي، عاجز عن فهم معنى التجديد الدوري الجزئي للمجلس الدستوري ويخلط بينه وبين المدة العادية والقانونية لأعضاء المجلس الدستوري. ولهذا، وبالنظر إلى مقدّراته الفكرية الضعيفة في الحقل الدستوري، لم يستوعب شرح مسألة التمييز بين طريقة تعيين أعضاء المجلس الدستوري ومدة ولايتهم وبين آلية التجديد الدوري الجزئي للمجلس الدستوري وليس لأعضاء هذا المجلس.

على صعيد آخر، وفي ما خص اعتباري أن آلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري لا تؤمّن هي أيضا استقلال هذا المجلس بالشكل الفعّال المطلوب يقول السيد حبيب إن هذا " الاستنتاج يدل عن جهل مطبق لاجتهاد المجلس الدستوري الفرنسي، فأي باحث في القانون الدستوري يجهل أن أشهر قرارات المجلس الدستوري هي تلك التي صدرت أيام كان جميع أعضاء هذا المجلس معيّنين من قبل رجالات اليمين الفرنسي أي قبل وصول الحزب الاشتراكي إلى الحكم سنة 1981...". ثم يضيف " إن مقولة صاحب المقال تشكّل إهانة لأعضاء المجلس الدستوري لكونها تؤكّد خلافا للحقيقة، بأن هؤلاء القضاة ليسوا إلا أداة طيعة في يد السلطة التي عينتهم ولا يمكنهم اتخاذ أي قرار قبل الرجوع إلى هذه السلطة".

إن هذه الافتراءات تستوجب منا الملاحظات التالية:
1- لم أشير في مقالي أبدا إلى أن قضاة المجلس الدستوري الفرنسي هم أداة طيعة في يد السلطة التي تعيّنهم أو أنهم لا يمكنهم اتخاذ أي قرار قبل الرجوع إليها. ما قلته هو الآتي: " إن الآلية المعتمدة في اختيار أعضاء المجلس الدستوري الفرنسي لا تؤمّن هي أيضا استقلال هذا المجلس بالشكل الفعّال المطلوب وذلك لسبب تعيين هؤلاء الأعضاء على يد سلطة سياسية وليس بقرار قضائي عن طريق الانتخاب أو المباراة أو الامتحان..." . وأضفت في هذا الخصوص، ما اجتزأه السيد حبيب لأسباب كيدية تتعلق بشخصيته المميزة، ما حرفيته " إن هذه الآلية المعتمدة في تعيين أعضاء المجلس الدستوري في فرنسا قد تحد من استقلال هذا المجلس، ولكن ليس بشكل خطر ومستمر، وهذا لأن مدة العضو في المجلس المذكور هي تسع سنوات حيث يعتمد أسلوب التجديد الدوري الجزئي....".
2- يعتبر السيد حبيب هذا الكلام إهانة للمجلس الدستوري، وكأنه يريد بعقليته المستبدة أن يمنع المفكرين القانونيين من إبداء آرائهم وذلك تحت طائلة ملاحقتهم بجريمة حرية التعبير، مما يدل على أن اتجاهاته الفكرية والعلمية تناقض فكرة حرية النقاش العلمي وحرية إبداء الآراء القانونية.

3- إن ما وجهّناه من نقد علمي لآلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري الفرنسي لا يضاهي الانتقادات اللاذعة والاتهامات بالانحياز وبعدم الحياد الموجهة إلى أعضاء المجلس الدستوري الفرنسي من قبل مرجعيات فرنسية، ونذكر على سبيل المثال الهجوم العنيف الذي تعرّض له عضو المجلس الدستوري بيار شاتينييه ( Pierre CHATENET) الذي كان معيّنا بقرار من سلطة اليمين وذلك من قبل مجموعة نواب الحزب الاشتراكي في الجمعية الوطنية ( تراجع في هذا الخصوص صحيفة Le Monde الفرنسية، تاريخ 21 كانون الثاني سنة 1976، ويراجع أيضا العلامة الدستوري جان جيكال الذي تطرق إلى هذه المسالة في مؤلفه : Jean GICQUEL : Droit constitutionnel et institutions politiques, 18e édition, Montchrestien, 2002, p. 717-718, note n° 8 ). ويذكر أيضا ان رئيس المجلس الدستوري السيد Roger FREY الذي كان معيّنا من قبل سلطة اليمين تعرّض هو أيضا للانتقاد اللاذع على يد نائب اشتراكي في الجمعية الوطنية في ما خص المناقشات التي كانت دائرة في الجمعية الوطنية حول موضوع التأميم بتاريخ تشرين الأول سنة 1981، ما حدا برئيس الجمهورية إلى التدخل لتذكير أعضاء المجلس الدستوري بواجب الحياد وعدم الانحياز ( يراجع في هذا الخصوص:
Jean GICQUEL : Droit constitutionnel et institutions politiques, 18 éd. Montchrestien, 2002, p. 717-718( .
تضاف إلى ذلك الانتقادات التي تساق ضد آلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري من قبل العديد من علماء القانون الدستوري في فرنسا ومنهم على سبيل المثال فافورو وغايا وجيفونتيان وماستر وبفرسمان ورو وسكوفوني ولافروف وغيرهم. فعلى سبيل المثال فان العالم الدستوري لافروف يوجّه النقد في مؤلفه عن القانون الدستوري إلى طريقة تعيين أعضاء المجلس الدستوري وخصوصا إلى عدم وضع المشترع أي معيار أو شرط يتعلق بالكفاءة العلمية من أجل اختيار أعضاء المجلس الدستوري، ويطرح السؤال لمعرفة ما إذا كان يمكن أن يتمتع المجلس الدستوري، رغم تركيبته السياسية، بصفة القضاء المستقل ويشير إلى أن أحزاب اليسار الفرنسي رفضوا وصف المجلس الدستوري بالقضاء المستقل وغير المتحيز خصوصا بعد إصداره في كانون الثاني سنة 1982 قرارا أعلن بموجبه بعض أحكام قانون التأميم غير متطابقة مع الدستور، كما أن الغالبية من أحزاب اليمين وجهت اتهامات الانحياز للمجلس الدستوري بعد إعلانه بعض أحكام قانون التأهيل مخالفة للدستور في سنة 1986 وبعد أن قضى أيضا بتاريخ 13 آب سنة 1993 بأن بعض أحكام قانون الهجرة مخالفة لنصوص الدستور المذكور:
« L’indépendance et le caractère juridictionnel du Conseil constitutionnel ont souvent été niés du fait de l’absence de compétence technique des membres du conseil constitutionnel, qui mettait en évidence le caractère politique de l’organisme. Il est de fait que, contrairement à beaucoup de cours constitutionnelles en fonction dans les démocraties européennes, la loi française n’impose pas la possession d’une compétence technique pour la nomination en qualité de membre du Conseil constitutionnel. Cette situation expliquait que l’on ait soutenu qu’un organe politique n’était pas digne de confiance… Ainsi, à titre d’exemple, on sait que les partis de gauche, qui avaient vanté l’action positive du Conseil constitutionnel depuis 1971, année de la célèbre décision sur la liberté d’association, lui ont nié tout caractère juridictionnel après la décision rendue au mois de janvier 1982 par laquelle il déclarait inconstitutionnelles certaines dispositions de la loi de nationalisations. Dans le même sens, des membres de la majorité de droite ont accusé le Conseil constitutionnel de partialité lorsqu’il déclara inconstitutionnelles certaines dispositions de la loi d’habilitation votée en 1986 et lorsqu’il a récemment sanctionné, dans sa décision du 13 août 1993, certaines dispositions de la loi relative au contrôle de l’immigration… » (Dmitri Georges LAVROFF : Le droit constitutionnel de la Ve République, 3ème édition, Précis Dalloz, 1999, n° 71, p. 145 et n° 72, p. 148).

وفي السياق عينه يمكننا أن نشير أيضا إلى الانتقادات التي وجهت إلى آلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري من قبل علماء القانون الدستوري فافورو وغايا وجيفونتيان وماستر وبفرسمان ورو وسكوفوني حيث أدلوا في هذا الخصوص بما حرفيته:
« Les trois autorités de nomination choisissent discrétionnairement les personnalités qu’elles souhaitent nommer sans consultation préalable et sans être astreintes à respecter telle ou telle condition. En pratique, et conformément au schéma général exposé plus haut, les autorités de nomination ont le plus souvent désigné des membres proches ou supposés proches de leurs sensibilités politiques … « ( Louis FAVOREU, Patrick GA?A, Richard GHEVONTIAN, Jean-Louis MESTRE, Otto PFERSMANN, André ROUX, Guy SCOFFONI : Droit constitutionnel , 5ème édition, Précis Dalloz, 2002, n° 394, p. 266).

4- بالنسبة إلى قول السيد حبيب اني " أجهل جهلا مطبقا لاجتهاد المجلس الدستوري، فأي باحث في القانون الدستوري يجهل ان اشهر قرارات المجلس الدستوري هي تلك التي صدرت أيام كان جميع أعضاء هذا المجلس معينين من قبل رجالات اليمين الفرنسي مثال ذلك القرار الصادر بتاريخ 16 تموز سنة 1971 المتعلق بحرية الجمعيات والقرار الصادر بتاريخ 12 كانون الثاني سنة 1977 المتعلق بمسالة تفتيش السيارات"، يهمنا أن نلفت نظر هذا الباحث " العبقري " إلى أن عبقريته الفذة أعمت بصيرته والى أن الحقد المصحوب بالحسد أفقده التركيز والتفكير السليم وقدرة الاستيعاب والتحليل فتوصل إلى هذه النتيجة السطحية التي مفادها أنه لا يمكن الشك بمدى نزاهة أو حياد المجلس الدستوري الفرنسي لصدور ثلاثة قرارات عنه تصب في مصلحة اليسار الفرنسي يوم كان مؤلفا بكامله من قبل سلطات اليمين، هذا مع العلم ان السيد حبيب يقع في خطأ فادح حين يقول ان القرار الصادر سنة 1982 عن المجلس الدستوري الفرنسي المؤلف من اليمين قضى بأن قانون التأميم متطابق مع الدستور. في الحقيقة ان المجلس الدستوري اعتبر ان العديد من أحكام هذا القانون الذي طرح من قبل غالبية اشتراكية مخالفة لأحكام الدستور.
إن تحليل السيد حبيب لا يقوم على أساس صحيح ومنطقي، إذ أنه لا يمكن الجزم باستقلالية المجلس الدستوري الذي يعين بكامل أعضائه من قبل السلطة السياسية لمجرد إصداره لثلاثة قرارات مهمة تصب في مصلحة اليسار أو في مصلحة اليمين.
وعلى هذا الصعيد، ينسى السيد حبيب الذي لم يطّلع بعد على آخر اجتهادات وقرارات المجلس الدستوري الفرنسي ان معظم القرارات التي صدرت عن هذا المجلس المعيّن منذ العام 2001 بغالبية أعضائه من قبل سلطات اليمين ( 6/9 ) هي قرارات تصب في مصلحة اليمين الحاكم، مما يعني أنها قرارات تخدم مصلحة السلطة المعيّنة والحاكمة في آن معا. فمنذ العام 2001، بعيد أحداث الحادي عشر من ايلول2001، صدرت في فرنسا في حقل الأصول والإجراءات الجزائية التي تحد، بصورة عامة ومبدئية من حريات الأشخاص، عدة قوانين لم يبطل منها المجلس الدستوري الفرنسي المعيّن بغالبية أعضائه من قبل اليمين إلا بعض الأحكام القليلة واعتبرت كلها متوافقة مع أحكام الدستور رغم تعرّضها للحريات الفردية ورغم تضييقها على حرية التنقل وتوسيعها لسلطات الضابطة العدلية وسماحها بتفتيش السيارات المتوقفة على الطرقات دون أي دليل جرمي ورغم كذلك مخالفتها لبعض القواعد الدستورية الأساسية. ومن هذه القوانين نذكر: القانون رقم 2001 / 1062 الصادر بتاريخ 15 تشرين الثاني سنة 2001 والمتعلق بالأمن اليومي، القانون رقم 2002 / 307 الصادر بتاريخ 4 آذار سنة 2002 والذي عدّل القانون رقم 200/ 516 المتعلق بتدعيم قرينة البراءة ( ويهدف هذا التعديل إلى الحد من هذا المبدأ)، القانون رقم 2002 / 1138 الصادر بتاريخ 9 أيلول سنة 2002 والذي يعدّل العديد من أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية وينشئ بما يسمى " بالقضاء القريب"، القانون رقم 2003 / 239 الصادر بتاريخ 18 آذار سنة 2003 المتعلق بالأمن الداخلي والذي يضيّق على حرية الأفراد، القانون رقم 2004 / 204 الصادر بتاريخ 9 آذار سنة 2004 والمتعلق بتكييف أصول العدالة مع تطور الإجرام والذي يعدّل معظم نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية ويطيل فترة الاحتجاز ويجيز التفتيش في حالات لم يكن مسموح بها من قبل وينشئ الإجراء الذي يجيز للنيابة العامة أن تطبق عقوبة على الشخص الملاحق دون إحالته على قضاء الحكم في حال اعترف بمسؤوليته وقبل أن ينفّذ العقوبة المذكورة بحضور محام، وهذا يؤلّف مخالفة لقاعدة فصل المهمات القضائية ولقاعدة الحياد والنزاهة، إذ لا يجوز للنيابة العامة التي تعتبر طرفا في الدعوى العامة وخصما أن تقضي بعقوبة ضد الشخص الملاحق بجريمة ما. وكانت قد صدرت عدة قرارات عن المجلس الدستوري بخصوص هذه القوانين التي تم الطعن بدستوريتها. لكن المجلس الدستوري لم يبطلها. وقد وجهت في هذا الخصوص العديد من الانتقادات اللاذعة إلى المجلس الدستوري بخصوص القرار الصادر عنه بتاريخ 4 آذار سنة 2004 والمتعلق بالقانون رقم 2004/204 ( Loi Perben II ) وخصوصا لناحية أن المجلس الدستوري أخذ في الاعتبار خطورة الأفعال الجرمية المرتكبة دون أن يعير مبدأ تناسب الإجراء الجزائي المتخذ مع خطورة الجريمة أي اهتمام رغم أنه يحد من حريات الأفراد ( وهو مبدأ دستوري)، كما انه أهمل مسألة تناقض الإجراءات الجزائية التي يقرها قانون Perben II مع المبادئ الأساسية التي تحمي الحريات الفردية. كذلك الأمر بالنسبة لقرار المجلس الدستوري المتعلق بدستورية قانون ضبط الأمن الداخلي والهجرة الأجنبية والحد منها ( قرار رقم 484 DC تاريخ 20 تشرين الثاني سنة 2003 ) حيث لم يبطل المجلس الدستوري الأحكام التي تضيّق على الحريات والتي تحد من إقامة الأجانب في فرنسا خلافا للدستور ولأحكام الاتفاق الأوروبي المعني بحماية حقوق الإنسان. كما ان المجلس الدستوري الفرنسي لم يبطل أحكام القانون رقم 2001 / 1062 الصادر بتاريخ 15 تشرين الثاني سنة 2001 والمتعلق بالأمن اليومي والذي صدر بعد أحداث الحادي عشر من أيلول وهذا رغم أن أحكامه تضيّق جدا على الحريات الفردية وتناقض أحكام الدستور. أضف إلى ذلك قرار المجلس الدستوري الفرنسي الرقم 461 DC الصادر بتاريخ 29 آب سنة 2002 والذي لم يبطل أحكام القانون المتعلق بتوجيه وتنظيم العدالة وذلك رغم تناقض بعض أحكامه مع نصوص الدستور.

وبناء على كل ما تقدّم، نترك للقارئ المتخصص وحده ان يقرر على من تنطبق صفة الجهل المطبق لاجتهاد المجلس الدستوري ولكل قواعد القانون الدستوري.

ثالثا: بالنسبة للقول بأني " أعطيت الإيحاء للمرشحين الخاسرين بأنه يمكنهم الطعن بدستورية قانون الانتخاب لعام 2000 في معرض طعنهم بصحة نيابة منافسهم".

لو أن السيد حبيب يجيد قراءة القانون والدراسات القانونية لكان وفّر على نفسه عناء الكتابة والتفلسف الرخيص. فهو يريد أن يعطي الإيحاء للقراء، ولغاية في نفس يعقوب، بأني لا أتمتع بالكفاءة اللازمة في مادة القانون الدستوري، مما يدل على ان مقاله يقوم على أسس التجريح والقدح والذم.
وفي هذا الخصوص يكفي أن يدقق المسمى " بحنا حبيب" في مقالي ليتحقق أن عنوانه هو التالي: " هل يحق للمجلس الدستوري المنتهية مدة عدد من أعضائه النظر في الطعون التي قد تقدم أمامه بنتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة؟".
ان هذا العنوان يشير بكل وضوح إلى أن موضوع المقال يتعلق بالطعون الانتخابية وليس بامكان النظر في دستورية قانون الانتخاب لعام 2000 . وهذا ما أكّدت عليه في نهاية المقال حيث جاء ما حرفيته : " عملا بقاعدة ضرورة تأمين استمرارية العمل في المؤسسات الدستورية يحق للمجلس الدستوري بتركيبته الحالية أن ينظر في الطعون المقدمة أمامه ببعض المخالفات الانتخابية".
أما في ما خص قانون الانتخاب لعام 2000 فقلت في مقالي أنه بالتأسيس على مخالفة هذا القانون لقاعدة العيش المشترك وعلى مخالفات انتخابية قد يتقدّم بعضهم بطعون أمام المجلس الدستوري. وهذا لا يعني طبعا، كما فسّر السيد حبيب بمنطقه السطحي، أني سلّمت بأمكانية الطعن بدستورية قانون الانتخاب لعام 2000، إذ أن هذا القانون وان كان غير دستوري لا يجوز الطعن بدستوريته بعد مرور مهلة خمسة عشر يوما على نشره في الجريدة الرسمية أو في إحدى وسائل النشر الرسمية الأخرى المعتمدة قانونا وذلك عملا بأحكام المادة 19 من قانون إنشاء المجلس الدستوري.
وينهي السيد حبيب بقوله أنه " يكتفي بهذا القدر من المغالطات راجيا من صاحب المقال أن يقرأ قبل أن يكتب وذلك احتراما لرجال القانون لأن في لبنان العديد من القانونيين الذين يعلمون ان المقالات القانونية تقيّم بمضمونها وليس بتخمة الإطناب ولا بغزارة المراجع الأجنبية".
ردا على هذا القول الذي ينم عن حقد شخصي وعن حسد أعمى، وبالتساؤل عن المغالطات الأخرى المزعومة التي لم يفندها السيد حبيب طبعا لأنها ليست موجودة إلا في مخيلته الواسعة، وبعد أن بيّنا للقارئ العزيز مدى المستوى الفكري الذي يتمتع به المسمي نفسه جبانة « بحنا حبيب"، نقول لهذا الخائف:
إذا أتتني مذمتي من ناقص فهذه دلالة على إنني كامل