المجلس ألعدلي: ضرورة أمنية أم محكمة استثنائية مخالفة لقواعد المحاكمة العادلة والنزيهة ولكل الاتفاقات الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان ؟
النهار 7 آب 2005 ( صفحة آفاق وأبعاد).
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
أستاذ محاضر في القوانين الجزائية والإجراءات الجزائية في جامعة روبير شومان- فرنسا
محام عام أسبق- فرنسا
محام بالاستئناف
بصدور قانون العفو عن الجرائم التي حُكم بها الدكتور سمير جعجع ورفيقه جريس الخوري وبصدور قانون عفو آخر عن الجرائم التي كانت مسندة إلى موقوفي الضنية ومجدل عنجر، بدأت تطرح على بساط البحث مسألة مصداقية التحقيقات العدلية والأحكام الصادرة على أساسها عن المجلس العدلي ومدى تطابقها مع القواعد والأصول التي تحكم التحقيقات والمحاكمات الجزائية العادلة وغير المتحيزة، وخصوصا أن قسما لا يستهان به من اللبنانيين يؤكّد على أن الحكم الذي صدر بحق الدكتور سمير جعجع كان حكما سياسيا جائرا أكثر مما هو حكم قضائي صادر عن محكمة عادلة ونزيهة وفقا للأصول والقواعد المنصوص عليها في الاتفاقات والعهود الدولية المعنية بحماية حقوق الموقوفين والمتهمين.
ولو لم يكن هذا الحكم سياسيا بامتياز وجائرا ومغايرا لأبسط قواعد وأصول المحاكمات الجزائية ولحقوق الدفاع ولقاعدة إجراء المحاكمة الجزائية على درجتين أمام محكمة مستقلة وغير متحيزة، لما كان تدخل المشترع اللبناني لإصدار قانون عفو عن الجرائم التي حكم بها الدكتور سمير جعجع في أول فرصة أصبحت فيها السلطات اللبنانية والمؤسسات الدستورية حرة وغير خاضعة لقبضة الوصاية السورية.
إن التحقيقات العدلية التي يعتقد أنه رُكّبت بعض عناصر الاتهام والإثبات فيها بتدخل سياسي وأمني فاضح في ملفات الدكتور سمير جعجع الجزائية، والأحكام القضائية المغايرة لأبسط قواعد المحاكمة العادلة والنزيهة التي صدرت بحقه عن المجلس العدلي على أساس التحقيقات المذكورة أعلاه، ليست الدليل الوحيد على وجود ثغرات قانونية خطيرة في النصوص التي تحكم آلية إحالة الجرائم على الهيئة القضائية المذكورة وكيفية تنفيذ الإجراءات والتحقيقات الجارية أمامها وصدور الأحكام عنها. فملف العماد عون المالي الذي أحيل على المجلس العدلي وترك مفتوحا بطريقة كيدية وسياسية بحقه على مدى خمس عشرة سنة والذي استعمل أداة للتهويل عليه وعلى تياره في يد سلطة التبعية وسلطة الوصاية والذي لم يبت فيه من قبل محقق عدلي إلا مؤخرا وبعد أن تحرر لبنان من النظام الاستبدادي حيث تقرر كف التعقبات الجزائية في هذه القضية لعدم تأسيس الأفعال المنسوبة إلى العماد عون لأية جريمة جزائية، يؤلّف هو أيضا إثباتا دامغا على مدى تحكّم السلطة السياسية بالمجلس العدلي.
وقضية المحكوم عليه يوسف شعبان الذي لا يزال ينفّذ حكما بالسجن لمدى الحياة كان قد صدر بحقه عن المجلس العدلي منذ إحدى عشرة سنة في ملف اغتيال الدبلوماسي الأردني في بيروت، قد تشكّل هي أيضا دليلا على مدى مخالفة نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي لقواعد المحاكمة العادلة ولاسيما منها حقوق الدفاع وقرينة البراءة وإجراء المحاكمة على درجتين وامكان الطعن بالأحكام الصادرة عن الهيئة القضائية الحاكمة أمام قضاء من درجة أعلى، لاسيما وان السلطات القضائية الأردنية تمكنت من كشف هوية قتلة الدبلوماسي الأردني الحقيقيين وحكمت عليهم بالإعدام ونفّذت هذه العقوبة بحقهم منذ فترة.
إن النائب وليد عيدو، وإدراكا منه لهذا الخلل الذي يصيب نظام وآلية المحاكمات الجزائية أمام المجلس العدلي، تقدّم، بعد طول انتظار، باقتراح قانون يقضي بتعديل نص المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني التي تنص على عدم قبول الأحكام الصادرة عن المجلس العدلي لأي طريق من طرق المراجعة القضائية العادية أو غير العادية بحيث تصبح هذه الأحكام قابلة لطريق واحدة من طرق المراجعة استثنائيا، هي إعادة المحاكمة في حال توافرت شروطها المنصوص عليها في المادة 328 من القانون نفسه.
ولكن، رغم تثميننا لهذا الاقتراح الذي قد يعتبر خطوة خجولة وغير كافية نحو جعل نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي نظاما متطابقا مع قواعد المحاكمة العادلة وغير المتحيزة المنصوص عليها في الاتفاقات والعهود الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان، لا بد أن نشير إلى أن الثغرات التي تعتري نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي والمخالفة للقواعد والمبادئ الأساسية للمحاكمة الجزائية العادلة لا تنحصر فقط بأحكام المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية إنما تتعداها أيضا إلى آلية تأليف المجلس العدلي والى آلية إحالة الملفات الجزائية على هذه المرجعية القضائية والى كيفية إجراء التحقيقات العدلية أمام المحقق العدلي.
أولا: مخالفة آلية تأليف المجلس العدلي لقاعدة إجراء المحاكمة الجزائية أمام محكمة عادلة مستقلة وغير ومتحيزة.
يفترض بالقضاء الجزائي عموما أن يكون مستقلا تمام الاستقلال عن السلطة الإجرائية وعن السلطات السياسية كافة في عملية أدائه للمهمات القضائية الموضوعة على عاتقه، وذلك عملا بمبدأ فصل السلطات وبالمبدأ الدستوري القاضي باستقلال السلطة القضائية والذي يلزم، على حد ما جاء في الفقرة الأخيرة من المادة 20 من الدستور اللبناني، بأن يكون القضاة مستقلين في إجراء وظائفهم. ويقوم مبدأ استقلال القضاء على مقومات النظام الديمقراطي الذي تجسّده دولة القانون والمؤسسات الدستورية، وكل مساس بهذا المبدأ يؤدي إلى الانتقاص من شرعية القضاء ومن ثقة المتقاضين بفعالية العدالة. وتكرّس المادة العاشرة من الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان مبدأ استقلال القضاء وحياده بنصها على ان " لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظرا عادلا علنيا للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه". وجاء العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من مقدمة الدستور اللبناني بموجب القانون الدستوري الرقم 18 تاريخ 21 أيلول 1990، ليضمن هذا الحق في مادته 14 -1 التي تنص على ما يأتي: " جميع الأشخاص متساوون أمام القضاء ولكل فرد الحق، عند النظر في أية تهمة جنائية ضده وفي حقوقه والتزاماته في إحدى القضايا القانونية، في محاكمة عادلة وعلنية بواسطة محكمة مختصة ومستقلة وحيادية قائمة استنادا إلى القانون...".
ويضع هذا العهد لزاما على كل دولة طرف فيه احترام قاعدة استقلال الهيئات القضائية ضمن إقليمها وذلك عن طريق عدم تدخل السلطات السياسية في عملية تشكيل هذه الهيئات ضمانا لمبدأ استقلال القضاء وإجراء المحاكمة أمام محكمة عادلة مستقلة وغير متحيزة. وقد خصص المجتمع الدولي بجميع هيئاته الرسمية والخاصة، خلال النصف الأخير من القرن العشرين، الكثير من الاهتمام بمسألة استقلال القضاء. وتمثل ذلك خصوصا في قيام لجنة الحقوقيين الدوليين في جنيف في العام 1978 بإنشاء مركز لاستقلال القضاء وتطوير مبادئ هذا الاستقلال في جميع أنحاء العالم وفق المعايير الدولية وفي تبني مؤتمر الأمم المتحدة المنعقد في ميلانو- ايطاليا بين 26 آب و 6 أيلول عام 1983 للإعلان العالمي المتعلق باستقلال المحاكم والصادر عن مؤتمر مونتريال-كندا في العام 1983 وأقرته لاحقا الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتاريخ 29 تشرين الثاني من السنة ذاتها.
إن آلية تأليف المجلس العدلي في لبنان تتعارض مع القواعد المشار إليها آنفا ولاسيما مع قاعدة استقلال المحاكم، إذ أن السلطة الإجرائية المتمثلة بمجلس الوزراء هي المرجعية التي يكون لها الكلمة الفصل في عملية تأليف المجلس العدلي. وبالفعل فان هذه الهيئة القضائية تتألف، عملا بأحكام المادة 357 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، من الرئيس الأول لمحكمة التمييز رئيسا ومن أربعة قضاة من محكمة التميز أعضاء يعينون بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى. ويلاحظ، مقارنة مع نص قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، إن المادة 357 المذكورة أعلاه توجب موافقة مجلس القضاء الأعلى بالنسبة لتعيين القضاة الأربعة أعضاء في المجلس العدلي، بينما كان نص المادة 364 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم والمادة 143 من قانون التنظيم القضائي الصادر بالمرسوم رقم 7855 تاريخ 16 تشرين الأول سنة 1961 لا يشير إلا إلى استشارة مجلس القضاء الأعلى في ما خص التعيينات المذكورة أعلاه. ولكن رغم هذا التعديل الذي يقضي بالحصول على موافقة مجلس القضاء الأعلى قبل اتخاذ مجلس الوزراء لقراره بتعيين أعضاء المجلس العدلي، فان هذه الآلية المتبعة في تأليف المجلس المذكور لا تؤمّن احترام قاعدة استقلال المحاكم الجزائية بالكامل إذ أن السلطة السياسية هي التي توافق أو لا توافق على تعيين أعضاء المجلس العدلي الذين سمح مجلس القضاء الأعلى بتسميتهم. وهذا ما يمكن ان يعد تدخلا في شؤون السلطة القضائية من قبل السلطة السياسية وما يؤدي إلى انتهاك قاعدة استقلال القضاء وقاعدة ضرورة إجراء المحاكمة أمام محكمة عادلة وغير متحيزة. فالسلطة السياسية التي يعود لها اختصاص إحالة بعض الجرائم الخطرة على المجلس العدلي، يهمها أن تضمن ملاحقة ومحاكمة من تعتبرهم خطرا على السلامة العامة وعلى الأمن العام أمام هيئة قضائية يمكنها التأثير عليها وذلك عن طريق اختيار أعضائها الذين قد يكونون أعضاء يدينون بالولاء لها. وعليه فان للسلطة السياسية طول الباع في عملية تأليف المجلس العدلي، إذ أن الرئيس الأول لمحكمة التمييز، الذي يعيّن رئيسا للمجلس العدلي بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى، يكون معيّنا مسبقا من قبل السلطة السياسية وحدها بوصفه رئيسا لمجلس القضاء الأعلى وعضوا حكميا في هذا المجلس. أما بالنسبة لأعضاء المجلس العدلي الأربعة فيعيّنون من بين قضاة محكمة التمييز بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى، ما يعني أن التعيين المذكور لا يتم دون اقتراح وزير العدل. والسؤال يطرح هنا عن الحل الواجب اعتماده في حال اختلاف وجهات النظر، حول تعيين هؤلاء القضاة الأعضاء في المجلس العدلي، بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى، وخصوصا ان نص المادة 357 من قانون أصول المحاكمات الجزائية لم يلحظ حلا لهذه المسألة، مما قد يفتح المجال أمام وزير العدل لعرقلة إجراءات تعيين أعضاء المجلس العدلي في حال عدم تأييده للتعيينات الموافق عليها من قبل مجلس القضاء الأعلى وذلك عن طريق عدم تقديم اقتراحه لمجلس الوزراء بتعيين القضاة المذكورين. هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فان المحقق العدلي الذي يتولى التحقيق يعيّن بقرار صادر عن وزير العدل بناء على موافقة مجلس القضاء الأعلى ( م 360 أ.م.)، ما يعد تدخلا في شؤون التحقيقات العدلية من قبل السلطة السياسية وان كان تعيين المحقق العدلي يحتاج إلى موافقة مجلس القضاء الأعلى. فموافقة مجلس القضاء الأعلى التي تسبق عملية تعيين أعضاء المجلس العدلي أو المحقق العدلي، تعتبر خطوة مهمة باتجاه تأمين استقلال المحاكم، ولكنها لا تعتبر كافية بما فيه الكفاية، إذ أن السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) تعيّن ثمانية قضاة من أصل مجموع الأعضاء الذين يشكّلون مجلس القضاء الأعلى ( عشرة أعضاء). أضف إلى ذلك أن المشترع لم يكتف بهذا القدر من تدخل السلطة السياسية في شؤون السلطة القضائية، بل انه اشترط أيضا أن تصادق السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) على صحة عضوية القاضيين اللذين تم انتخابهما ليؤلفا قسما من هيئة مجلس القضاء الأعلى وفقا لما تنص عليه المادة الثانية الجديدة، الفقرة (أ)، من قانون القضاء العدلي. وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن المجلس العدلي لا يتمتع بالاستقلالية التامة عن السلطة السياسية وان اشترط المشترع موافقة مجلس القضاء الأعلى على تعيين أعضائه كون هذا المجلس الأخير، ووفقا لتركيبته الحالية، يخضع لهيمنة السلطة السياسية ويُشكّل وفقا لرغباتها. وينتج من هذا الوضع تدخل واضح للسلطة السياسية في أمور السلطة القضائية لاسيما في الأمور صرف الداخلية للقضاء والمتعلقة بتشكيل المحاكم والهيئات القضائية المختصة. مما يناقض مبدأ فصل السلطات الدستوري ويحد من استقلال السلطة القضائية ويتعارض مع المبادئ الأساسية المعترف بها في مقدمة الدستور اللبناني وفي الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان وأهمها مبادئ فصل السلطات ونزاهة المحاكم واستقلالها وقرينة البراءة. لهذا السبب يقتضي أن تعدّل أصول تعيين القضاة وتشكيل المحاكم ولاسيما تشكيل مجلس القضاء الأعلى بحيث يصار إلى انتخاب رئيسه وأعضائه من بين القضاة ودون أي تدخل أو إشراف من قبل السلطة السياسية وفقا لشروط ومعايير يضع ضوابطها المشترع على أن تعهد لهذا المجلس وحده مهمة تأليف المحاكم ومنها طبعا المجلس العدلي، وذلك تأمينا لحسن سير العدالة واحتراما لقاعدة استقلال السلطة القضائية.
ولأن المجلس العدلي بتركيبته الحالية لا يعتبر هيئة قضائية مستقلة تمام الاستقلال عن السلطة السياسية ولا يشكل تاليا محكمة عادلة ونزيهة وغير متحيزة، لفتت لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان نظر الحكومة اللبنانية إلى الخلل الحاصل على صعيد تعيين القضاة وتأليف المحاكم واستقلال المؤسسات القضائية اللبنانية بتاريخ العاشر من نيسان 1997، إذ ورد في ملاحظات اللجنة المذكورة الموجهة إلى الحكومة المذكورة ما يأتي: " وبشكل أعم، تعرب اللجنة عن القلق إزاء استقلال وحياد القضاء في الدولة الطرف، وتلاحظ أن الوفد نفسه سلّم بأن الإجراءات التي تحكم تعيين القضاة، وبخاصة أعضاء مجلس القضاء الأعلى، غير مرضية أبدا، ويساور اللجنة أيضا القلق لأن الدولة الطرف ( أي الدولة اللبنانية) لا تؤمّن للمواطنين في الكثير من الحالات، وسائل انتصاف وإجراءات استئناف فعّالة بخصوص شكاويهم، وبالتالي، توصي اللجنة بأن تعيد الدولة الطرف النظر على سبيل الاستعجال، في الإجراءات التي تحكم تعيين أعضاء السلك القضائي بهدف ضمان استقلالهم الكامل".
ثانيا: انتهاك آلية إحالة الدعاوى على المجلس العدلي لحق النيابة العامة في تقدير استنسابية الملاحقة الجزائية ولمبدأ استقلال السلطة القضائية.
يؤلّف المجلس العدلي هيئة قضائية استثنائية إن كان لجهة آلية تشكيله وان كان لجهة كيفية إحالة الدعاوى عليه ولجهة إجراءات وأصول المحاكمة المنفذّة أمامه. وتحدد المادة 356 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد اختصاص المجلس العدلي، مستندة إلى ذات المعيار الذي نصت عليه سابقا المادة 363 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، وذلك بالنظر إلى طبيعة الجريمة المرتكبة ودرجة خطورتها. وعلى هذا الأساس، فان الجنايات والجنح التي تمس بالأمن الداخلي أو الخارجي للدولة، ونظرا لما تحمله من اعتداء خطير على أمن المجتمع وعلى النظام العام، تحال على المجلس العدلي لمحاكمتها بناء على مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء ( م 355 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد). وهي، وفقا لما جاء في أحكام المادة 356 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، كل الجرائم المنصوص عليها في المواد 270 وما يليها حتى المادة 336 ضمنا من قانون العقوبات ( الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي والداخلي والجرائم الواقعة على السلامة العامة دون الجرائم المتعلقة بالجمعيات السرية والتظاهرات وتجمعات الشغب وجرائم الاغتصاب والتعدي على حرية العمل)، والجرائم المنصوص عليها في القانون الصادر بتاريخ 11 كانون الثاني 1958 ( إثارة الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي، العصيان المسلح أو اجتياح مدينة أو قرية أو بعض أملاك الدولة، اقتناء أو حيازة المواد المتفجرة بقصد ارتكاب هذه الجرائم، أعمال الإرهاب)، والجرائم الناتجة من صفقات الأسلحة والأعتدة التي تعقدها وزارة الدفاع الوطني والجرائم المرتبطة بها ولاسيما الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة المنصوص عليها في المواد 351 إلى 366 ضمنا من قانون العقوبات ( الرشوة والاختلاس واستثمار الوظيفة)، وجرائم التزوير المنصوص عليها في المواد 453 إلى 472 ضمنا من قانون العقوبات وفي المادتين 138 و 141 من قانون العقوبات العسكرية ( تزوير، غش، وسرقة واختلاس).
وعليه تحال الدعاوى على المجلس العدلي بناء على مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء عملا بأحكام المادة 355 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد. مما يعني أن السلطة السياسية هي التي تقدّر وحدها ضرورة أو عدم ضرورة إحالة القضية على المجلس العدلي وفق معايير محض سياسية أو أمنية. وهذا يعني أيضا أن ليس للمتضرر الشخصي الحق بالادعاء المباشر أمام المجلس العدلي، إنما له أن يقيم دعواه المدنية تبعا للدعوى العامة المحرّكة أمام هذا القضاء الاستثنائي وفقا لأحكام المادة 363، الفقرة الأخيرة، من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد.
من جهة أخرى، ينتج من نص المادة 355 من القانون نفسه أنه لا يحق للمجلس العدلي أن ينظر تلقائيا في الجرائم الواقعة على أمن الدولة، إذ أن هذه القضايا لا تحال عليه إلا بقرار السلطة السياسية. فإذا ارتأت هذه السلطة إحالة الجريمة الواقعة على أمن الدولة على المجلس العدلي، تدّعي عند ذلك النيابة العامة التمييزية باسم المجتمع أمام المحقق العدلي عملا بأحكام المادة 361 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد. وعلى هذا الأساس، فان حق النيابة العامة بالادعاء العام يكون رهنا بإرادة السلطة السياسية وبحقها في التقدير في ما إذا كان يتوجب إحالة الجريمة المرتكبة على المجلس العدلي أم لا. هذا من جهة، أما من جهة ثانية فللسلطة السياسية أن تحدد وحدها طبيعة الجريمة المرتكبة وما إذا كانت تعود صلاحية النظر فيها للمجلس العدلي أم لا. ولها كذلك أن تقضي برفع يد القضاء العادي أو العسكري عن الدعوى التي تكون قيد النظر أمامه وبإحالتها على المجلس العدلي، وذلك تطبيقا لأحكام المادة 356، الفقرة الأخيرة، من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد.
وبهذا فان السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) تقرر وحدها ما إذا كانت الجريمة الواقعة تحمل اعتداء أم لا على امن الدولة، أو إذا كانت تتصف بالجريمة الإرهابية. وتقديرها لهذه الجهة يكون خاضعا بالتأكيد لاعتبارات سياسية وشخصية ولا يكون مستندا إلى معايير موضوعية أو قانونية، ما يؤدي إلى إحالة بعض الجرائم على المجلس العدلي دون الجرائم الأخرى، وان كانت هذه الأخيرة تحمل اعتداء فاضحا على أمن الدولة وعلى سلامة المجتمع. والدليل على ذلك هو أن مجلس الوزراء اللبناني أحال بعض القضايا على المجلس العدلي، ليس فقط بالنظر إلى طبيعة الجريمة وخطورتها وإنما أيضا بالنظر إلى شخص من وجهت إليه تهمة ارتكاب هذه الجرائم أو الاشتراك في ارتكابها، وكذلك خصوصا بالنظر إلى ما يمثّل من اتجاهات سياسية بالنسبة لفئات معيّنة من اللبنانيين ( ونذكر منها على سبيل المثال قضية الدكتور سمير جعجع وقضية العماد عون المالية). فكانت الإحالة في هذه القضايا على المجلس العدلي إحالة سياسية كيدية وانتقامية أكثر مما هي إحالة قضائية تهدف إلى محاربة الجريمة وحماية امن الدولة والمجتمع.
وما يزيد من هذا الوضع خطورة على استقلال السلطة القضائية هو أن النيابة العامة تكون مكبلة اليدين إزاء عملية إحالة الجرائم على المجلس العدلي، إذ لا يعود لها حق تقدير ملاءمة الملاحقة الجزائية أو حق التعديل في طبيعة الجريمة التي أسبغتها السلطة السياسية على الفعل المحال على المجلس المذكور، ما يناقض مبدأ استنسابية الملاحقة الجزائية المنصوص عليه في قانون أصول المحاكمات الجزائية. وهذا ما ينتج صراحة من عبارات المادة 361 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد التي تضع لزاما على النائب العام التمييزي موجب الادعاء دون أن تترك له حق الخيار بين الادعاء وعدم الادعاء: " يدّعي النائب العام التمييزي لدى المحقق العدلي بالجريمة ويحيل إليه ملف التحقيقات". إلى ذلك فان هذا الإجراء غير الطبيعي يؤكّد مدى إخلاله بقاعدة استقلال القضاء، هذا عدا عن انه يحمل اعتداء سافرا على حقوق الإنسان وعلى حقوق الدفاع كونه يؤلّف سلاحا خطيرا في يد السلطة السياسية قد تسلّطه متى تشاء على المواطنين بهدف الانتقام السياسي ضد من يناصب النظام الحاكم العداء أو المعارضة السياسية.
ثالثا: مخافة إجراءات التحقيق العدلي للقواعد وللأصول العامة للمحاكمات الجزائية ولحق المراجعة ضد قرارات قاضي التحقيق.
يتولى المحقق العدلي أعمال التحقيق بعد أن يعيّنه وزير العدل بناء على موافقة مجلس القضاء الأعلى ( م 360 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد). وعملا بنص المادة 363 من القانون ذاته، يطبق المحقق العدلي، في ما خص أعمال وإجراءات التحقيق، الأصول العادية المتبعة أمام قاضي التحقيق العادي. غير أن له، خلافا للأصول العادية، أن يصدر جميع المذكرات التي يقتضيها التحقيق دون طلب من النيابة العامة، على أن قراراته بهذا الخصوص لا تقبل أي طريق من طرق المراجعة. وهذا يعني أن للمحقق العدلي أن يصدر ضد المدعى عليه مذكرة توقيف أو إحضار تلقائيا من دون طلب النيابة العامة وحتى من دون أن يطلعها على هذا الأمر، مما يناقض القواعد العامة للإجراءات والأصول الجزائية التي تقضي بأن يطلع قاضي التحقيق النيابة العامة على كل إجراء جزائي ينوي تنفيذه وأن يتلقى مطالعتها الخطية أو الشفهية في هذا الموضوع.
وما يزيد الأمر خطورة على حقوق المدعى عليهم هو أن قرارات المحقق العدلي لا تقبل لهذه الناحية أي طريق من طرق المراجعة لا من قبل المدعى عليه ولا حتى من قبل النيابة العامة كون التحقيق العدلي يجري على درجة واحدة وكون لا وجود لهيئة قضائية تحقيقية عليا لممارسة الرقابة على أعمال التحقيق والإجراءات التي يقوم بها المحقق العدلي ( كالغرفة الاتهامية).
إن هذا الوضع التشريعي الشاذ يتعارض تماما مع ما كان ينص عليه القانون الفرنسي الذي أنشأ محكمة أمن الدولة ( القانون الصادر بتاريخ 15 كانون الثاني 1963 ) والذي ألغي بالقانون الصادر بتاريخ 4 آب 1981. فبموجب هذا القانون كانت القرارات الصادرة عن المحقق العدلي قابلة للطعن بطريق الاستئناف أمام غرفة الرقابة على صحة التحقيق العدلي ( وهي غرفة استئنافية شبيهة بالهيئة الاتهامية). وكان لغرفة الرقابة هذه أن تعلن بطلان الأعمال التحقيقية المنفذة على يد المحقق العدلي والمخالفة للقانون أو للقواعد والأصول الجوهرية، كما كان لها أن تنظر بطلبات الاستئناف المقدمة ضد كل القرارات القضائية الصادرة عن المحقق العدلي ( يراجع في هذا الخصوص : قرار محكمة النقض الفرنسية الصادر بتاريخ 4 حزيران 1964 ، منشور في مجلة الأسبوع القانوني لعام 1964 ، الجزء الثاني، رقم 13806 ، مع تقرير : COMPTE ).
وبخلاف ما كان ينص عليه قانون إنشاء محكمة أمن الدولة الفرنسية، أتت نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني الجديد، على غرار أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، خالية من أية إشارة إلى هيئة قضائية استئنافية صالحة للنظر في المراجعات ضد القرارات والإجراءات التي يتخذها المحقق العدلي. كما أنها لا تتضمن أي أحكام تقضي بإعادة إجراءات التحقيق العدلي أمام هيئة قضائية تحقيقية من درجة أعلى، ما يدل صراحة على أن التحقيق العدلي يجري على درجة واحدة أمام المحقق العدلي ويحال بعد ذلك الملف على المجلس العدلي في حال أصدر المحقق العدلي قرارا باتهام المدعى عليه بالجرائم المسندة إليه. وهذا ما يؤدي إلى حرمان المدعى عليه من درجة من درجات التحقيق خلافا لما تنص عليه القواعد العامة للإجراءات الجزائية والاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان ولاسيما منها الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان ( المادة التاسعة، الفقرة الرابعة) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ( المادة الرابعة عشر، الفقرة الخامسة). إضافة إلى ذلك، فان إحالة الملف مباشرة، بعد ختم أعمال التحقيق العدلي، إلى المجلس العدلي بموجب قرار اتهامي من دون أن تخضع أعمال التحقيق هذه لرقابة سلطة تحقيقية من درجة أعلى ومن دون أن تكون القرارات الصادرة عن المحقق العدلي قابلة للطعن بطريق الاستئناف أمام الهيئة التحقيقية المذكورة، يسبغ على الإجراءات المنفذة على يد المحقق العدلي المذكور صفة الأعمال التعسفية التي تنتهك ظلامة حقوق الدفاع وذلك على مثال ما هو معمول به في الدول ذات الأنظمة القمعية والديكتاتورية.
رابعا: النص على عدم قبول قرارات المجلس العدلي أي طريق من طرق المراجعة: مخالفة جسيمة لحقوق الدفاع ولمبدأ ثنائية المحاكمة.
تنص المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، تماثلا بنص المادتين 369 و 371 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، على أنه " تجري المحاكمة أمام المجلس العدلي، وجاهية كانت أم غيابية، وفقا لأصول المحاكمة لدى محكمة الجنايات. يصدر المجلس حكمه وفقا للأصول ذاتها.
لا تقبل أحكام المجلس العدلي أي طريق من طرق المراجعة العادية وغير العادية".
إن هذا النص يدل على أن المجلس العدلي يتّبع في المحاكمة أمامه الأصول والقواعد ذاتها المعمول بها في المحاكمات أمام محكمة الجنايات، ولكن مع هذا الفارق الأساسي والخطير وهو أن قرارات المجلس العدلي لا تكون قابلة لأي طريق من طرق المراجعة، مما يناقض القواعد العامة للإجراءات الجزائية والمبادئ الأساسية التي تحكم المحاكمات الجزائية والمنصوص عليها في الشرعات الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان ولاسيما في الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان ( م 9 ) وفي الشرعة الدولية للحقوق المدنية والسياسية الصادرة عن الأمم المتحدة بتاريخ 16 كانون الأول سنة 1966 ( م 14 ) :
« Toute personne déclarée coupable d’une infraction a le droit de faire examiner par une juridiction supérieure la déclaration de culpabilité et la condamnation conformément à la loi » ( art. 14-5).
إن هذا المنحى التشريعي اللبناني يهدف إلى حرمان المحكوم عليه من امكان عرض قضيته على مرجع قضائي أعلى للتأكد من صحة الحكم الذي صدر بحقه ومن صحة التحقيقات وعناصر الإثبات التي بني على أساسها هذا الحكم. ثم ان هذا الانتهاك لحقوق الدفاع يعد أكثر خطورة بالنظر إلى أن قرار الإدانة الذي يصدر عن المجلس العدلي قد يتضمن الحكم بعقوبة جسدية خطيرة كعقوبة الإعدام أو كعقوبة الحبس المؤبد مع الأشغال الشاقة وذلك في الدرجة الأولى والأخيرة دون امكان التقدم ضد هذا الحكم بأي مراجعة حتى مراجعة إعادة المحاكمة التي لا تقرر إلا وفقا لشروط جد قاسية.
لذلك فان هذا الإجراء يعتبر تدبيرا تعسفيا ومنافيا لأبسط قواعد المحاكمة العادلة والنزيهة ولحقوق الإنسان، ولا يجوز تاليا الاستمرار في السكوت على تطبيقه في لبنان الذي طالما تغنّى بنظامه الديمقراطي والذي يلتزم في مقدمة دستوره احترام الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان وطالما أن القضاة الذين يؤلّفون أي هيئة قضائية لا ينحدرون من سليلة الملائكة أو الآلهة ومعرّضون للوقوع في الخطأ كما يخطئ أي إنسان آخر،( وجل من لا يخطئ). وما الحكم الذي انزل بالمدعو يوسف شعبان من أجل جريمة لم يقترفها أو حتى لم يشترك في ارتكابها، إلا دليلا على أن القاضي مهما علت درجته أو رتبته يقع في الخطأ. ولأن القاضي معرّض للخطأ، نصت معظم التشريعات في البلدان الديمقراطية على موجب إعادة النظر في الدعوى ذاتها أمام هيئة قضائية على درجة أعلى من درجة المحكمة التي أصدرت الحكم بداية.
ومن هنا، فان الخلل التشريعي الذي يصيب الأحكام المتعلقة بالمجلس العدلي يحتّم تدخل المشترع اللبناني على هذا الصعيد كي يجعل من هذه المرجعية القضائية محكمة عادلة ومستقلة تمام الاستقلال عن السلطة السياسية، وذلك بالنص على أن يشكّل المجلس العدلي على أساس درجتين من المحاكمة: درجة ابتدائية بحيث يتألف من عدة قضاة ( سبعة قضاة إذا أمكن: رئيس وستة أعضاء) متخصصين من بين رؤساء محاكم البداية أو قضاة محاكم البداية بقرار من مجلس القضاء الأعلى ودون أي تدخل من قبل وزير العدل أو مجلس الوزراء، ودرجة استئنافية بحيث يتألف من عدة قضاة ( تسعة إذا أمكن: رئيس وثمانية أعضاء) متخصصين من بين قضاة محكمة الاستئناف بقرار من مجلس القضاء الأعلى، على أن تخضع قرارات هذه الهيئة الأخيرة لطرق الطعن بالنقض أمام محكمة التمييز.
وكان قد طبق هذا النظام في فرنسا منذ أن ألغيت محكمة أمن الدولة في أول عهد الرئيس ميتران في سنة 1981 بحيث تحال على محكمة جنايات ابتدائية خاصة مؤلفة من سبعة قضاة متخصصين في كل دائرة من دوائر محاكم الاستئناف كل الجنايات ذات الطابع العسكري أو المرتكبة من قبل عسكريين والجنايات التي تحمل اعتداء على المصالح الأساسية للأمة ( والمسماة سابقا بالجنايات الواقعة على أمن الدولة) ( م 698 /6 قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي). وتكون قرارات هذه المحكمة قابلة للاستئناف أمام محكمة جنايات استئنافية مؤلفة من تسعة قضاة ( رئيس وثمانية أعضاء) متخصصين ( م 698/6 )، وتخضع الأحكام الصادرة عن هذه المحكمة الأخيرة لطريق المراجعة بالنقض أمام محكمة التمييز. أما الجنح الموصوفة بالعسكرية أو الواقعة على المصالح العليا والأساسية للأمة فتحاكم أمام غرف متخصصة ومؤلفة من ثلاثة قضاة في دوائر محاكم الدرجة الأولى ( أو المحاكم الابتدائية) ( م 697 /1 قانون إجراءات جزائية فرنسي)، مع الإشارة إلى أن جنايات الإرهاب تحال على محكمة جنايات باريس الخاصة والمؤلفة من سبعة قضاة متخصصين في قضايا الإرهاب وذلك بغض النظر عن مكان وقوعها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى جنح الإرهاب التي تحاكم أمام غرف متخصصة في مادة الإرهاب في دائرة محكمة البداية في باريس ( م 706/17 قانون إجراءات جزائية فرنسي).
ويتبيّن أن المشترع الفرنسي، ورغم تعرّض الدولة الفرنسية لهجمات إرهابية خطيرة ورغم استمرار المخاطر الإرهابية التي تهدد أمن وسلامة الشعب الفرنسي، لم يتخذ من هذا الوضع حجة أو أساسا كي ينشئ قضاء استثنائيا مخالفا لقواعد وأصول المحاكمة الجزائية العادلة ولم تتدخل السلطات السياسية في البلاد كي تساهم في تشكيل قضاء جزائي مماثل للمجلس العدلي اللبناني. فمحكمة أمن الدولة الفرنسية التي أنشئت بالقانونين الصادرين بتاريخ 15 كانون الثاني سنة 1963 اثر حرب الجزائر التي خاضتها قوات الجيش الفرنسي ضد الثورة الجزائرية وما رافقها من أعمال إرهابية وتخريبية ألغيت، منذ بداية عهد الرئيس ميتران، بالقانون الصادر بتاريخ 4 آب سنة 1981 وألغيت كذلك المحاكم العسكرية الدائمة بالقانون الصادر بتاريخ 21 تموز سنة 1982 وذلك حماية للحريات وصونا لحقوق الإنسان وخصوصا لحقوق الدفاع ولقاعدة استقلال المحاكم الجزائية منها التي غالبا ما كانت تنتهك لدى محكمة أمن الدولة نتيجة لآلية تأليفها، إذ كانت هذه المحكمة تتألف من الرئيس الأول لمحكمة النقض رئيسا ومن قاضيين يعيّنين بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى ومن ضابطين عسكريين من أعلى الرتب، وكان النائب العام لدى محكمة النقض يقوم، تحت إشراف وزير العدل، بمهمات النيابة العامة لدى محكمة أمن الدولة والى جانبه محاميين عامين لمساعدته في تنفيذ مهمات الادعاء العام. ولكن خلافا لما هو معمول به في التشريع اللبناني، لم تكن تحال الجرائم على محكمة أمن الدولة بمرسوم من مجلس الوزراء، بل بادعاء النيابة العامة إما تلقائيا وإما بناء على أمر وزير العدل الخطي. وهذا ما كانت تنص عليه المادة 27، الفقرة الرابعة، من القانون الفرنسي الرقم 63/23 الصادر بتاريخ 15 كانون الثاني سنة 1963.وكانت تنفذ أعمال التحقيق الابتدائي على يد ثلاثة قضاة تحقيق في الدرجة الأولى، ولدى غرفة تحقيقية مؤلفة من رئيس ومستشارين في الدرجة الثانية. وكان ينتمي هؤلاء القضاة إلى سلك قضاء الحكم في محكمة الدرجة الأولى ( قضاة التحقيق) وفي محكمة الاستئناف ( غرفة التحقيق).
وبالاستناد إلى كل ما ورد أعلاه، يعتبر مشروع القانون الذي تقدّم به النائب وليد عيدو ناقصا وغير كامل ولا يؤدّي النتيجة القانونية المرجوة على صعيد احترام نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي للقواعد والأصول والمبادئ الأساسية المنصوص عليها في الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان. ويلاحظ أيضا على هذا الصعيد أن الاقتراح ذاته لم يأت على مستوى الأسباب الموجبة التي أدرجها الأستاذ عيدو دعما لاقتراحه، إذ جاء في هذه الأسباب ما حرفيته: " حفظت الشرائع كافة، احترام التقاضي وحقوق المتقاضين بما يؤمّن أكبر قدر من العدالة بين البشر. وحرصت دول العالم على وضع قوانين للمحاكمات تمارس من خلال حقوق الدفاع كاملة، بحيث وضعت درجات عدة للمحاكمة في محاولة لنفي أي امكان لخطأ أو تجاوز قضائي. واتجهت دول عدة في العالم لإلغاء المحاكمات التي تتم على درجة واحدة، أيا كانت طبيعة المحاكمة، وكذلك نوع الجرم الذي تتم بسببه المحاكمة".
وبإزاء هذه الأسباب الموجبة التي تضمنها الاقتراح المشار إليه أعلاه، وطالما أن دول العالم حرصت على وضع قوانين للمحاكمات تمارس من خلال حقوق الدفاع كاملة بحيث وضعت درجات عدة للمحاكمة بقصد تلافي الأخطاء القضائية، وطالما أن دولا عدة في العالم ألغت المحاكمات التي تتم على درجة واحدة، فلا بد لرجل القانون المتخصص إلا أن يتساءل عن السبب الموجب الذي أدى إلى عدم تضمين هذا الاقتراح نصا يقضي بضرورة إجراء المحاكمة أمام المجلس العدلي على درجتين أو بإلغاء المحاكمة على درجة واحدة تلافيا للأخطاء القضائية وصونا لحقوق الدفاع وللمبادئ الأساسية التي تحكم المحاكمة النزيهة والعادلة وغير المتحيزة. فالخلل يكمن هنا في القول من جهة أولى بأن ممارسة حق الدفاع على أكمل وجه وتلافي الأخطاء القضائية يوجب إجراء المحاكمة على درجتين وبأن العديد من دول العالم ألغت نظام المحاكمة على درجة واحدة، وفي الإبقاء من جهة ثانية على نظام المحاكمة الحالي للمجلس العدلي.
أما في ما خص التذرّع بسرعة المحاكمة أو بطبيعة الجريمة وخطورتها كمبررات لعدم قابلية أحكام المجلس العدلي لأي طريق من طرق المراجعة، فان هذا الأمر لا يقوم على أي سند قانوني أو عملي حقيقي، والدليل على ذلك هو أن العديد من القضايا الخطيرة التي أحيلت على المجلس العدلي منذ سنوات طويلة لم يبت فيها حتى الآن، كقضية اغتيال الرئيس بشير الجميل وقضية اغتيال الوزير ايلي حبيقة وغيرها من القضايا الأخرى الخطيرة.
في النهاية، إن متطلبات دولة المؤسسات والقانون والبدء في عملية الإصلاح والتغيير على أساس من العدل واحترام حقوق الإنسان والمبادئ الأساسية المنصوص عليها في الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بصون حقوق المشتبه فيهم والمتهمين، تستدعي التصدي للخلل بشكل فعّال وكامل وليس اتخاذ بعض التدابير الخجولة التي ليست على مستوى ورشة الإصلاح والتغيير التي وعد بها الشعب اللبناني. وبناء على ذلك، يقع على عاتق المشترع موجب إعادة النظر في آلية تأليف المجلس العدلي وإحالة الدعاوى عليه وفي كل الإجراءات والأصول التي تحكم المحاكمة الجارية أمامه بحيث تصبح هذه الهيئة القضائية محكومة بقواعد المحاكمة العادلة والنزيهة وغير خاضعة لأساليب الضغوط السياسية التي مورست سابقا على خلفية التنكيل بالمعارضين السياسيين.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق