١٥‏/٧‏/٢٠٠٥

صلاحيات وزير العدل وفقا لما تنص عليه القوانين المرعية الاجراء

صلاحيات وزير العدل وفقا لما تنص عليه القوانين المرعية الإجراء.


بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
أستاذ محاضر في جامعة روبير شومان وفي معهد القضاة والمحامين- ستراسبورغ
محام عام أسبق- فرنسا
محام بالاستئناف

النهار 14 تموز 2005



لم تؤد مفاوضات المرحلة الأولى التي كانت جارية بين العماد عون ورئيس الحكومة المكلف الأستاذ فؤاد السنيورة إلى تشكيل حكومة اتحاد وطني والى إشراك التيار الوطني الحر في هذه الحكومة مع ما يؤمّنه من تمثيل حقيقي لشريحة واسعة من اللبنانيين ومن غطاء وطني لهذه الحكومة. ويعتقد البعض ان الخلاف الأساسي الظاهر الذي أوصل إلى هذا الطلاق المبكر بين هاتين الجهتين السياسيتين يكمن أولا في إصرار العماد عون على أن تسند حقيبة العدل إلى أحد المقربين منه كشرط مبدئي لقبوله بدخول الحكومة، وذلك لتصور بعضهم أن تولي هذه الوزارة غير السيادية قد يسمح لتياره بوضع مشروعه السياسي المتعلق بفتح ملفات الفساد وهدر الأموال العامة موضع التنفيذ وبتطبيق قواعد المساءلة والمحاسبة بحق كل المشتبه فيهم بارتكاب جرائم مالية أو غيرها. أما ثانيا، وبحسب ما شيّع في وسائل الإعلام، فان إخفاق هذا المسعى يعود إلى عدم تجاوب تيار المستقبل مع مطلب العماد عون على أساس ان هذا التيار الأخير يعتبر وزارة العدل وزارة أساسية يتوجب إسنادها إلى أحد أعضائه أو أحد المحسوبين عليه لما لها من خصوصيات رمزية تتعلق في هذا الوقت بقضية التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وبمجريات هذا التحقيق.

في الحقيقة إن هذين السببين الظاهرين والمعروضين على بساط النقاش في لإعلام لا يشكلان السبب الحقيقي الذي أدى إلى عدم نجاح المفاوضات المذكورة أعلاه لأن العماد عون يصبو أولا وآخرا إلى تدعيم استقلالية القضاء وتنظيمه ومنع التدخلات السياسية في شؤونه وتطبيق قواعد العدالة والمساواة، ولا يهدف من خلال تسلمه حقيبة العدل إلى فتح ملفات قضائية انتقامية أو غيرها إذ أنه يعلم يقين العلم ان طبيعة الصلاحيات الممنوحة قانونا لوزير العدل لا تخوّله فتح ملفات قضائية أو تحريكها بالمطلق أو حتى إقفالها أو تطبيق قواعد المحاسبة والمساءلة الجزائية ( أولا ). هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فان تيار المستقبل يعرف أن لجنة التحقيق الدولية المكلفة رفع اللثام عن تفاصيل جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري هي لجنة مستقلة تمام الاستقلال عن السلطات اللبنانية ولا دالة أو سلطة قانونية لوزارة العدل عليها أو على مجريات التحقيق الذي تقوم به في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه ( ثانيا).

أولا: محدودية صلاحيات وزير العدل بالنسبة للتدخل في شؤون الملفات القضائية

أ‌- صلاحيات وزير العدل صلاحيات تنظيمية وإدارية أكثر مما هي قضائية:

1- السهر على حسن تطبيق القوانين والأنظمة وتنظيم شؤون القضاء

إن صلاحيات وزارة العدل حددت بموجب المادة الأولى من قانون تنظيم وزارة العدل الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 151 تاريخ 16 أيلول سنة 1983 والمعدّل بالمرسوم الاشتراعي رقم 23 تاريخ 23 آذار سنة 1985. ويتبين من خلال نص المادة المذكورة أعلاه ان هذه الوزارة تعنى بتنظيم شؤون القضاء والسهر على حسن تطبيق القوانين والأنظمة المتعلقة به وإعداد مشاريع القوانين والنصوص التنظيمية التي تكلّف بها وإبداء الرأي في المسائل التي تعرض عليها وتمثيل الدولة أمام المحاكم وتنظيم شؤون السجناء والأحداث المنحرفين. وتعنى أيضا بشؤون الكتّاب العدل والخبراء ووكلاء التفليسة ومراقبي الصلح الاحتياطي.

2 – يتم تعيين القضاة بناء على اقتراح وزير العدل وليس بقرار صادر عنه، والكلمة الفصل تعود في هذا الخصوص إلى مجلس الوزراء مجتمعا.

بالاستناد إلى النص المشار إليه أعلاه، يبدو واضحا أن المهمات التي تضطلع بها وزارة العدل فيما خص الشؤون القضائية هي مهمات تنظيمية بحتة تتعلق بوضع الأطر والآليات اللازمة لتأمين حسن سير العدالة كإجراءات تعيين القضاة ونقلهم وترقيتهم وتوزيع الأعمال القضائية على المحاكم. فبموجب المادة الثانية من قانون القضاء العدلي المعدّل بالقانون الرقم 389 تاريخ 21 كانون الأول 2001 ان مجلس الوزراء هو الذي يعيّن بمرسوم، بناء على اقتراح وزير العدل، نصف أعضاء مجلس القضاء الأعلى ( خمس قضاة) لمدة ثلاث سنوات. أضف إلى ذلك ان النائب العام التمييزي الذي يعتبر حكما نائبا لرئيس مجلس القضاء الأعلى يعيّن هو أيضا بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وفق ما تنص عليه المادة 31 من قانون القضاء العدلي. كذلك ان الرئيس الأول لمحكمة التمييز الذي يكون رئيسا لمجلس القضاء الأعلى حكما يعيّن بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل ( م 26 من قانون القضاء العدلي). وهذه هي الحال أيضا بالنسبة إلى رئيس هيئة التفتيش القضائي الذي يؤلّف عضوا حكميا في مجلس القضاء الأعلى والذي يتم تعيينه وتعيين هيئة التفتيش القضائي بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل ( م 100 و 101 من قانون القضاء العدلي). كما يتم تعيين أحد القضاة من رؤساء الغرف في محكمة التمييز وقاضيين من رؤساء الغرف في محاكم الاستئناف وقاض من رؤساء غرف محاكم الدرجة الأولى وقاض عدلي من بين رؤساء المحاكم أو من رؤساء الوحدات في وزارة العدل بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل بعد استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى. وبذلك فان السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) تعيّن ثمانية أعضاء من أصل مجموع الأعضاء الذين يشكّلون مجلس القضاء الأعلى ( 10 أعضاء). أما بالنسبة للعضوين المتبقيين، فيتم انتخابهما من بين رؤساء الغرف في محكمة التمييز من قبل الرئيس الأول لمحكمة التمييز ورؤساء الغرف والمستشارين في محكمة التمييز وتنظم دقائق هذا الانتخاب بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وبعد استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى.

3 - التشكيلات القضائية والمناقلات القضائية تقرر بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وليس بقرار صادر عنه، والكلمة الفصل تعود على هذا الصعيد إلى مجلس القضاء الأعلى.

على صعيد آخر ووفقا لأحكام المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي لا تصبح التشكيلات القضائية التي يقررها مجلس القضاء الأعلى نافذة إلا بعد موافقة وزير العدل. ولكن عند حصول اختلاف في وجهات النظر بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى تنعقد جلسة مشتركة بينهما للنظر في النقاط المختلف عليها. إذا استمر الخلاف ينظر مجلس القضاء الأعلى مجددا في الأمر لبته ويتخذ قراره بأكثرية سبعة أعضاء ويكون قراره في هذا الشأن نهائيا وملزما. وتصدر التشكيلات القضائية وفقا للبنود السابقة بمرسوم بناء على اقتراح وزير العدل.

4 - توزّع الأعمال القضائية على الدوائر والمراكز بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف.

أما في ما خص توزيع الأعمال القضائية فان توزيع هذه الأعمال بين الغرف في المركز الواحد أو في محكمة الاستئناف الواحدة كان يتم بقرار من وزير العدل بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف التابعة لها المحكمة. وكانت تطبق القاعدة نفسها، بموجب المادة 18 من قانون القضاء العدلي قبل تعديلها، في توزيع الأعمال بين الأقسام في المركز الواحد. وبهذا فان مجلس القضاء الأعلى كان يلعب دورا استشاريا لا غير في مسألة توزيع الأعمال القضائية بين الغرف وبين الأقسام، أي أن قراره لم يكن ملزما لهذه الجهة، وكانت الكلمة الفصل تعود إلى وزير العدل الذي كان يضع عملية التوزيع هذه موضع التنفيذ بقرار يتخذه بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى. غير أن القانون الرقم 389 الصادر بتاريخ 21 /12/2001 والذي عدّل قانون القضاء العدلي، استعاض عن عبارة " بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى" الواردة في المادتين 15 و 18 من قانون القضاء العدلي، بالعبارة التالية: " بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى". وعليه فان عملية توزيع الأعمال بين الغرف في المركز الواحد أو في القسم الواحد أو في محكمة الاستئناف لا تتم من تاريخ دخول القانون الرقم 389 حيز التنفيذ ( أي اعتبارا من 7 شباط 2002 ) إلا بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف.
وينتج من كل ذلك أنه حتى فيما يتعلق بأمور تعيين ونقل القضاة التي تعتبر أمورا تنظيمية وإدارية بحتة لا تكون الكلمة الفصل فيها لوزير العدل إنما في غالب الأحيان لمجلس الوزراء. أما فيما خص توزيع الأعمال القضائية على دوائر وأقسام وغرف المحاكم فان القرار الفاعل والنهائي يكون من اختصاص مجلس القضاء الأعلى وذلك لأن هذه المسألة تؤلّف شأنا يمت مباشرة إلى عملية التقاضي وإحقاق الحق وهي بطبيعتها مهمة قضائية صرفة لا يجوز للسلطة السياسية المس بها أو التدخل في تفاصيلها.

ب - العلاقة بين وزير العدل والنيابة العامة التمييزية تقوم على أساس ضرورة ممارسة الرقابة الإدارية على أعمال قضاة النيابة العامة وليس على أساس حق التدخل في شؤون الملاحقات الجزائية.

وإذا كانت صلاحيات وزير العدل قد حددت وفق ضوابط ومبادئ قانونية تحد من سلطان تدخله في عملية إحقاق الحق وفي عمل القضاة القضائي الصرف، فان ذلك تقرر بالاستناد إلى مبدأ فصل السلطات الدستوري ومبدأ استقلالية القاضي المنصوص عليه في المادة 20 من الدستور التي جاء فيها : " القضاة مستقلون في إجراء وظيفتهم وتصدر القرارات والأحكام من قبل كل المحاكم وتنفّذ باسم الشعب اللبناني". وجاء التأكيد على هذا المبدأ الأخير بأحكام المادة 44 من قانون القضاء العدلي التي تنص على أن " القضاة مستقلون في إجراء وظائفهم ولا يمكن نقلهم أو فصلهم عن السلك القضائي إلا وفقا لأحكام هذا القانون".
وانطلاقا من هذه المبادئ ينبغي عدم الخلط بين مبدأ استقلال القاضي في عملية قيامه بمهماته القضائية وبين ضرورة ممارسة الرقابة الإدارية على الجهاز القضائي من قبل السلطة السياسية بهدف ضمان استقلال هذا الجهاز وتأمين حسن سير العدالة وتطبيق القوانين، إذ لا يجوز تحرير المراجع القضائية من أية رقابة سياسية في ظل نظام برلماني يحكمه ليس فقط مبدأ فصل السلطات وإنما أيضا مبدأ تعاون هذه السلطات. ولكن هذا لا يعني من جهة أخرى السماح للسلطة السياسية التدخل في شؤون القضاء الداخلية والمتعلقة خصوصا بتفاصيل عملية إحقاق الحق والتقاضي وتوزيع العدالة.
وعلى هذا الأساس، ولأن النيابة العامة تمثّل المجتمع والسلطة العامة في البلاد ولأنه تلقى على عاتقها مهام حماية المجتمع ضد الجريمة والإجرام وحماية النظام العام، فان طبيعة عملها يوجب إشراف السلطة السياسية عليه منعا لإساءة استعمال سلطانها ومنعا للتنكيل والاستبداد بالمواطنين. ولهذا فان النيابة العامة بخلاف القضاء الجالس تخضع لنظام التبعية التسلسلية الذي يعطي للرئيس على المرؤوس سلطة كافية من الإشراف والرقابة الإداريتين، ما يجعلها، لهذه الجهة، أشبه بالهيئات الإدارية منها بالقضائية. وهذا يدل على ان قضاة النيابة العامة يخضعون لسلطة رؤسائهم التسلسلية التي تنتهي بوزير العدل الذي كان مخولا، في ظل قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، حق الإشراف على دوائر النيابات العامة وحق إعطائها الأوامر بإجراء التعقبات الجزائية في شأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه ( م 16 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم). ويلي وزير العدل في الهرم التسلسلي النائب العام لدى محكمة التمييز الذي يتمتع بسلطة تتناول جميع قضاة النيابات العامة، ثم يأتي النائب العام ألاستئنافي ومعاونوه من قضاة النيابة العامة التي يتولى إدارتها ورئاستها وفق ما ورد في المادة 12 من قانون التنظيم القضائي الصادر بالمرسوم الرقم 7855.
وتجدر الإشارة إلى أن المرسوم الاشتراعي الرقم 8 الصادر بتاريخ 15 كانون الأول سنة 1954 كان قد نص في مادته الثالثة والثلاثين على أنه يحق لوزير العدل أن يوجّه النيابات العامة بتعليمات خطية وعليها أن تتقيد بها. غير أن هذه المادة ألغيت بالقانون المتعلق بنظام القضاة العدليين والصادر بالمرسوم الرقم 7855 المذكور أعلاه واستعيض عنها بالمادة الثالثة التي تنص على أن " يخضع قضاة النيابة العامة لإدارة ومراقبة رؤسائهم ولسلطة وزير العدل". وتؤكّد المادة 45 من المرسوم الاشتراعي الرقم 150 ( قانون القضاء العدلي) على هذه التبعية التسلسلية في نظام النيابة العامة فتنص صراحة على أن " يخضع قضاة النيابات العامة لإدارة ومراقبة رؤسائهم، كما يخضعون لسلطة وزير العدل وتبقى لهم في جلسات المحاكمة حرية الكلام".



1 - لا يمنح قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد لوزير العدل سوى الحق في أن يطلب من النائب العام التمييزي إجراء التعقبات في شأن الجرائم التي وصلت إلى علمه: إن هذا الطلب لا يلزم النائب العام التمييزي بالانصياع لرغبات وزير العدل.

بصدور قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد بتاريخ 2 آب سنة 2001 أُدخلت بعض التعديلات على قاعدة خضوع النيابة العامة التمييزية لسلطة وزير العدل رغم الإبقاء على ارتباط هذه النيابة بوزارة العدل ولو بصورة جزئية. فمنذ دخول هذا القانون حيز التنفيذ أصبح النائب العام لدى محكمة التمييز السلطة المخولة وحدها مهمات مراقبة وإدارة النيابات العامة في لبنان، حالا بذلك مكان وزير العدل الذي يجرّده هذا القانون من معظم الصلاحيات التي كان يتمتع بها في إطار السلطة الممارسة من الحكومة على النيابات العامة والتي كان يستقيها من أحكام الفقرة الأولى من المادة 45 من المرسوم الاشتراعي الرقم 150 تاريخ 16 أيلول 1983 ( قانون القضاء العدلي) والتي أشرنا إليها أعلاه. وعلى هذا النحو يتحوّل النائب العام لدى محكمة التمييز، منذ بدء العمل بقانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، من مدير ومراقب تسلسلي على أعمال قضاة النيابات العامة، خاضع لسلطة وزير العدل، إلى صاحب سلطة مستقلة ( سلطة رقابة وإدارة) أوحد على أعمال الضابطة العدلية وحتى على أعمال قضاة النيابات العامة كلها المتعلقة بتحريك دعوى الحق العام وممارستها. أما وزير العدل، فتبقى له فقط صلاحية الطلب من النائب العام التمييزي إجراء الملاحقات الجزائية بشأن الجرائم التي علم بوقوعها، وذلك تطبيقا للفقرة الأولى من المادة 14 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد التي تنص على أنه " لوزير العدل أن يطلب إلى النائب العام التمييزي إجراء التعقبات بشأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه".
ويظهر من خلال عبارات نص الفقرة المذكورة أن طلب وزير العدل الموجّه إلى النائب العام التمييزي بتحريك الملاحقة الجزائية لا يكون ملزما لهذا الأخير وذلك لسببين رئيسيين:
- لأن الإجراءات والأصول الجزائية المتعلقة بالدعوى العامة تقوم على قاعدة أساسية ألا وهي قاعدة استنسابية الملاحقة الجزائية ( Le principe de l’opportunité de poursuite )، مما يعني ان للنيابة العامة وحدها حق تقدير ملاءمة أو عدم ملاءمة تحريك دعوى الحق العام ولا تكون في ذلك خاضعة لأي وصاية أو سلطة سياسية.
- لأن المشترع اللبناني لم ينص صراحة على إلزامية الطلب الذي يوجهه وزير العدل إلى النائب العام في ما خص تحريك الدعوى العامة. فلو ان المشترع أراد أن يلزم النائب العام التمييزي بطلبات وزير العدل المتعلقة بإجراء التعقبات الجزائية في شأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه لكان نص على ذلك صراحة وعلى الإجراءات والعقوبات التأديبية والإدارية الواجب اتخاذها في حال عدم انصياع النائب العام التمييزي لطلب وزير العدل، إذ لا يجوز تطبيق أية قاعدة أصولية أو إجرائية من دون نص صريح عملا بمبدأ شرعية الإجراءات الجزائية.

2- نتائج الفصل بين صلاحيات وزير العدل وصلاحيات النائب العام لدى محكمة التمييز

وضع قانون أصول المحاكمات الجزائية حدا لأحكام المادة 45 من قانون القضاء العدلي التي كانت تنص على خضوع النائب العام التمييزي لسلطة وزير العدل. ويثبت هذا الاتجاه القانوني بالمادة 428 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد التي نصت صراحة على أنه " يلغى قانون أصول المحاكمات الجزائية الصادر في 18/9/1948 وتعديلاته، كما تلغى جميع الأحكام والنصوص التشريعية المخالفة أو المتعارضة مع هذا القانون"، أي بما فيها نص المادة 45 من قانون القضاء العدلي الصادر بالمرسوم الاشتراعي الرقم 150 تاريخ 16 أيلول سنة 1983. ويؤدي تطبيق قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد على هذا الصعيد الى نتائج عدة أهمها:
- إخضاع قضاة النيابة العامة لإدارة وإشراف رؤسائهم تحت سلطة ورقابة النائب العام التمييزي.
- تشمل سلطة النائب العام التمييزي جميع قضاة النيابة العامة بمن فيهم مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية. وله أن يوجّه إلى كل منهم تعليمات خطية أو شفهية ملزمة في تسيير دعوى الحق العام. إنما تبقى لهم حرية الكلام في جلسات المحاكمة عملا بالقاعدة المأثورة والقائلة أنه " إذا كان القلم مقيدا فاللسان طليق": « La plume est serve, mais la parole est libre ».
- يحيل النائب العام التمييزي على قضاة النيابة العامة كل في حدود اختصاصه التقارير والمحاضر التي ترده بصدد جريمة ما ويطلب إليه تحريك دعوى الحق العام فيها.
- يعتبر طلب النائب العام التمييزي بتحريك دعوى الحق العام ملزما لقضاة النيابة العامة، وهذا ما يستنتج من نص الفقرة الثانية من المادة 13 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي وردت فيها عبارة " إنما يبقى لهم ( أي لقضاة النيابة العامة) حرية الكلام في جلسات المحاكمة".
- بوسع النائب العام التمييزي عند الاقتضاء أن يجري التحقيق مباشرة أو بواسطة معاونيه من قضاة النيابة العامة الملحقين به أو أفراد الضابطة العدلية التابعين له دون أن يكون له حق الادعاء.
- يجوز لوزير العدل توجيه التعليمات الخطية أو حتى الشفهية غير الملزمة إلى النيابة العامة التمييزية بتحريك دعوى الحق العام في قضية ما، ولكن لا يمكنه أن يعطي الأمر للنائب العام بحفظ الدعوى بعد تحريك الملاحقة الجزائية.
- يجوز لوزير العدل أن يوجّه إلى النيابة العامة التمييزية كل التعليمات غير الملزمة والتي تصب في المصلحة العامة وتتعلق بالدعوى العامة بما فيها بكف التعقبات الجزائية أو بمنع المحاكمة إذا كانت المصلحة العليا تقضي بذلك.
- لا يجوز لوزير العدل أن يقف حائلا دون أخذ الملاحقة الجزائية مجراها، أي لا يجوز له أن يأمر بوقف سير دعوى الحق العام في قضية ما. وهذا ما أكّد عليه اجتهاد محكمة النقض الفرنسية منذ زمن بعيد.


ثانيا: محدودية صلاحيات وزير العدل بالنسبة للتدخل في شؤون لجنة التحقيق الدولية المكلفة التحقيق في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.


أ - لجنة التحقيق الدولية لجنة مستقلة تمام الاستقلال عن القضاء اللبناني ولا تخضع سوى للضوابط التي وضعها القرار 1595 الصادر عن مجلس الأمن.

إن القرار 1595 الصادر عن مجلس الأمن بتاريخ 7 نيسان 2005 قضى بتأليف لجنة تحقيق دولية ذات صلاحيات تنفيذية للتحقيق في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. وبما أن هذه اللجنة مكلفة القيام بمهمة التحقيق في جريمة إرهاب خطيرة تخطت نتائجها الحدود الوطنية لتطال السلام والأمن الدوليين، فان المرجعية الدولية الأولى ( مجلس الأمن) التي أنشأتها هي السلطة الوحيدة التي يكون بامكانها التدخل في شؤونها وممارسة الرقابة عليها وعلى أعمالها ومجريات التحقيق الذي تقوم به وذلك تطبيقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وبالتأسيس على القرارين الدوليين الرقم 1373 و 1566 المتعلقين بمكافحة الإرهاب. وتأكيدا على هذا المنحى، منح القرار 1595 لجنة التحقيق الدولية المولجة أمر التحقيق في جناية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه كل الصلاحيات التنفيذية التي تجعل من هذه اللجنة مرجعية تحقيقية دولية مستقلة لا يجوز لأية دولة التدخل في شؤونها أو في مجريات التحقيق الذي تقوم به. وهو في هذا المجال نص على إلزام الحكومة اللبنانية بتقديم التعاون الكامل إلى اللجنة المذكورة بما في ذلك الوصول الكامل إلى كل المعلومات والأدلة من وثائق وإفادات ومعلومات وأدلة حسية متوفرة في حوزتها وتعتبرها اللجنة ذات صلة بالتحقيق ( البند الثالث من القرار المذكور). كما ان القرار ذاته نص على إلزام الحكومة اللبنانية بأن توفر للجنة التسهيلات الضرورية لإتمام وظائفها وعلى أن تحظى بالامتيازات والحصانات المنصوص عليها في الاتفاق المتعلق بامتيازات الأمم المتحدة وحصاناتها. ويدعو القرار كل الدول والأطراف إلى التعاون تعاونا كاملا مع اللجنة ولاسيما تزويدها بأي معلومات قد يمتلكونها وتكون على صلة بالعمل الإرهابي المذكور أعلاه وذلك تحت طائلة العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية المنصوص عليها في الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة( البند السابع).
وإذا كان القرار 1595 يؤكّد على دور لجنة التحقيق الدولية في مساعدة السلطة اللبنانية في التحقيق للكشف عن هوية مخططي الجريمة الإرهابية ومنفذيها، فان القرار ذاته يقضي بأن اللجنة المذكورة تتمتع بصلاحيات واسعة تلزم السلطات اللبنانية بالتعاون وبتقديم كل المعلومات حول التحقيق. ومن هنا فان دور لجنة التحقيق في الواقع أكثر من مساعد أو مكمّل، إذ أنه يقوم على أساس تحقيق مستقل تمام الاستقلال عن التحقيق المحلي وخاص بمرجعية دولية تعلو سلطتها على السلطات الوطنية للدولة المعنية على أساس القرار 1595.
ب - ليس من صلاحيات وزير العدل التدخل في مجريات التحقيق الذي تقوم به لجنة التحقيق الدولية

وانطلاقا من هذه المعطيات القانونية، وبالتأسيس على قرار لجنة تقصي الحقائق الذي رفع إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 25 آذار 2005 والذي خلص إلى أن أجهزة التحقيق اللبنانية مشكك في قدرتها على القيام بالتحقيقات في هذه القضية وفي نزاهتها وحيادها بالإضافة إلى أنها مسؤولة عن إخفاء بعض الأدلة الجرمية وبالنظر إلى أن لجنة التحقيق الدولية أُنشئت من قبل مجلس الأمن بالاستناد إلى هذه الوقائع الخطيرة، وبما ان هذه اللجنة الأخيرة تتمتع بالاستقلالية التامة في ما خص أعمالها ومهماتها، لا نعتقد انه تم التعويل على جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وعلى سير التحقيقات في شأنها للمطالبة بوزارة العدل من قبل تيار المستقبل أو من قبل أشخاص مقربين منه. فوزير العدل الذي ليس بامكانه أن يلزم النيابة العامة بطلب تحريك دعوى الحق العام في شأن جريمة وصل خبرها إلى علمه تطبيقا للقانون اللبناني كما رأينا سابقا، لا يمكنه من باب أولى التدخل في شأن التحقيقات التي تقوم بها لجنة تحقيق دولية مستقلة.
ومن هنا لا يمكن أن نعزو فشل المفاوضات التي كانت جارية في مرحلة أولى بين تيار العماد عون وتيار المستقبل إلى إصرار العماد عون على تسلم وزارة العدل أو إلى أسباب شخصية تتعلق بقضية التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وإنما إلى بواعث سياسية صرفة.

ليست هناك تعليقات: