صحيفة النهار ،الأحد 14كانون الأول - 2008 السنة 76 - العدد 23555
ستون عاماً على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
شارل مالك استاذ الفلسفة والمفّكر من أبرز عرّابيه
وشارل مالك الدبلوماسي من أبرز المساهمين في اعتماده بالإجماع
جان- بيار قطريب (*)
شارل مالك استاذ الفلسفة والمفّكر من أبرز عرّابيه
وشارل مالك الدبلوماسي من أبرز المساهمين في اعتماده بالإجماع
جان- بيار قطريب (*)
صدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بعيد ويلات الحرب العالمية الثانية التي أودت بحياة الملايين وتسببت بدمار لا يحصى، وقبيل الحرب الباردة التي نتج منها تباطؤ عدد من التطورات البنّاءة. وقد برز هذا الإعلان من بين عمليات الأمم المتحدة المتشعبة والمحفوفة بالمخاطر السياسية في العاشر من كانون الأول/دسمبر 1948 ليتحول إلى الوثيقة الأم في مجال حقوق الإنسان بالنسبة للمنظمة الدولية والعالم على حد سواء. وابتداءً من العام 1950، يحتفل العالم في ذكرى اعتماد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، باليوم العالمي لحقوق الإنسان.
ويعتبر الدكتور شارل مالك من بين عرّابي هذا الإعلان، وهو أول سفير للبنان في الولايات المتحدة والأمم المتحدة.
ولد مالك في بلدة بطرام (قضاء الكورة) الشمالية في 1906. حاولت الحكومة اللبنانية الأولى عشية الاستقلال الاستفادة من خدماته في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين بتعيينه ممثلاً لها في الخارج، في إطار سعيها لتحسين مكانة لبنان الدولية. إلاّ أنه رفض هذا العرض في مرحلة أولى، لكنه عاد عن قراره لاحقًا، فأوكلت إليه مهمة ترؤس البعثة اللبنانية إلى واشنطن والأمم المتحدة حيث وقع ميثاق الأمم المتحدة بإسم لبنان.
كان مالك قبل تلك المرحلة أستاذًا محاضرًا في الجامعة الأميركية في بيروت حيث كان يدرس الفلسفة، علمًا أنه كان خريج جامعة هارفارد الأميركية. وقد كان سعيدًا في ممارسة مهنة حياته كما كان يعتقد، وهي التعليم والتأمل سعيًا وراء الحقيقة.
شكلت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بالنسبة إلى مالك فرصة استثنائية للمشاركة في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كأستاذ في الفلسفة، ومن ثم كديبلوماسي. وقد بقي هذا الإعلان إنجازه الأهم والأكثر ثباتًا.
تظهر إسهامات شارك مالك، اهتماماته الفلسفية بالحرية والدين وعلاقة الفرد بالدولة. ويبدو أنّ تتلمذه على أيدي ألفرد نورث وايتهيد في هارفارد (1932) ومارتن هايدغر في ألمانيا (1936)، وكلاهما من أبرز الفلاسفة في ذلك الحين، كان له أثره في مداولات لجنة حقوق الإنسان. وقد أظهرت "المبادئ الأساسية الأربعة" التي اقترحها مالك في 4 شباط/فبراير 1947 لإرشاد عمل اللجنة، ميله الفلسفي الذي وظفه في خدمة الشخص في صراعه مع ضغط المجموعات المستمر.
وتنص هذه المبادئ على:
أولا، ًإن شخص الإنسان بأصله يتقدم على أي مجموعة ينتمي اليها، اكانت الطبقة أو العرق أو الوطن أو الأمّة؛
ثانيًا، إن عقل الإنسان وضميره هما أكثر ما في الإنسان قداسة ولا يجوز التعرض إليهما؛
ثالثًا، إن أي ضغط اجتماعي من أي مصدر، أكان الدولة، أو الدين أو الطبقة، يتحكم في قرار الشخص ميكانيكيًّا هو خطأ؛
رابعًا، إن المجموعات معرضة للخطأ شأنها شأن الأشخاص، وأن الشخص بواسطة عقله وضميره، هو الحكم الصالح على صحة الأمور أو بطلانها.
أمّا في ما يتعلق بجوهر الحرية، وبخاصة حرية التفكير والضمير، فقد كان مالك يعتبرها مفهومًا غير جامد، بل ديناميّ. لذا، فالغاية الأساس للحرية لا تختصر بالحق في الوجود، بل تتعداه لتشمل الحق في التطور.
يظهر التأثير الفلسفي الذي اضطلع به مالك في الفقرة الأولى من ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة الثامنة عشرة منه اللتين تتعلقان ﺑ"الكرامة الأصيلة" في الأسرة البشرية ووحدة هذه الأسرة إلى جانب حرية التفكير والمعتقد.
لم يقتصر دور شارل مالك في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على مساهماته كأستاذ في مادة الفلسفة. بل تُظهر الوثائق التاريخية أن شارل مالك "الديبلوماسي" ساهم أكثر من أي مندوب آخر في الدفع باتجاه اعتماد هذا الإعلان بالإجماع على الرغم من التوتر الذي كان سائداً في 1948 في خضم الحرب الباردة ، ما أضفى طابعًا عالميًّا على الحقوق والحريات التي تضمنتها وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فالأجابات المقنعة التي قدمها لزملائه المندوبين والوظائف المختلفة التي اضطلع بها في المنظمة الدولية وإصراره على "التركيب الشامل" لكافة الحقوق والتقاليد الموجودة يسلط الضوء على المهارات الديبلوماسية الرفيعة التي اكتسبها في غضون السنوات الثلاث التي أمضاها في الأمم المتحدة.
انتُخب مالك بالتصفيق مقررًا لمفوضية حقوق الإنسان في كانون الثاني/يناير 1947. ثم انتُخب بالاقتراع السري في شباط/فبراير 1948 رئيسًا للمجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي انبثقت عنه هذه المفوضية. كما انتُخب مالك بالاقتراع السري رئيسًا للجنة الثالثة التابعة للجمعية العامة والتي كانت قد أوكلت إليها مهمة التدقيق في المسودة الأخيرة للإعلان واعتمادها قبل عرضها للتصويت في الجمعية العامة. في هذا الإطار، تقول ماري آن غليندون، وهي أستاذة في كلية الحقوق في جامعة هارفارد: "كان مندوب لبنان، هذا البلد الصغير، يترأس ثلاث لجان كبرى فيما كان الإعلان يدخل مراحله النهائية المصيرية في خريف العام 1948."
توفي شارل حبيب مالك في 28 كانون الأول/دسمبر 1987 قبل ستة أسابيع من عيد ميلاده الثاني والثمانين. وقد لخص مهمته خير تلخيص في الكلمة التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 كانون الأول/دسمبر 1948، حيث قال إن "الإعلان سيكون بمثابة ناقد فعّال للممارسات الحالية ويساعد على تغيير الواقع، لا بل يقوم بما هو أهم من ذلك. سنعمل على إصدار اتفاقات أخرى، لكن سيكون هذا النص ركيزة لها. وسنعمل على صياغة إجراءات تطبيقية، لكن هذه الإجراءات يجب أن تساهم في تطبّق هذه الحقوق".
اليوم، وبعد مرور ستين عامًا، يبدو أن رؤية مالك كانت صائبة.
(*) عضو في "مؤسسة حقوق الإنسان والحق الإنساني - لبنان"
ويعتبر الدكتور شارل مالك من بين عرّابي هذا الإعلان، وهو أول سفير للبنان في الولايات المتحدة والأمم المتحدة.
ولد مالك في بلدة بطرام (قضاء الكورة) الشمالية في 1906. حاولت الحكومة اللبنانية الأولى عشية الاستقلال الاستفادة من خدماته في منتصف الأربعينيات من القرن العشرين بتعيينه ممثلاً لها في الخارج، في إطار سعيها لتحسين مكانة لبنان الدولية. إلاّ أنه رفض هذا العرض في مرحلة أولى، لكنه عاد عن قراره لاحقًا، فأوكلت إليه مهمة ترؤس البعثة اللبنانية إلى واشنطن والأمم المتحدة حيث وقع ميثاق الأمم المتحدة بإسم لبنان.
كان مالك قبل تلك المرحلة أستاذًا محاضرًا في الجامعة الأميركية في بيروت حيث كان يدرس الفلسفة، علمًا أنه كان خريج جامعة هارفارد الأميركية. وقد كان سعيدًا في ممارسة مهنة حياته كما كان يعتقد، وهي التعليم والتأمل سعيًا وراء الحقيقة.
شكلت لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بالنسبة إلى مالك فرصة استثنائية للمشاركة في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان كأستاذ في الفلسفة، ومن ثم كديبلوماسي. وقد بقي هذا الإعلان إنجازه الأهم والأكثر ثباتًا.
تظهر إسهامات شارك مالك، اهتماماته الفلسفية بالحرية والدين وعلاقة الفرد بالدولة. ويبدو أنّ تتلمذه على أيدي ألفرد نورث وايتهيد في هارفارد (1932) ومارتن هايدغر في ألمانيا (1936)، وكلاهما من أبرز الفلاسفة في ذلك الحين، كان له أثره في مداولات لجنة حقوق الإنسان. وقد أظهرت "المبادئ الأساسية الأربعة" التي اقترحها مالك في 4 شباط/فبراير 1947 لإرشاد عمل اللجنة، ميله الفلسفي الذي وظفه في خدمة الشخص في صراعه مع ضغط المجموعات المستمر.
وتنص هذه المبادئ على:
أولا، ًإن شخص الإنسان بأصله يتقدم على أي مجموعة ينتمي اليها، اكانت الطبقة أو العرق أو الوطن أو الأمّة؛
ثانيًا، إن عقل الإنسان وضميره هما أكثر ما في الإنسان قداسة ولا يجوز التعرض إليهما؛
ثالثًا، إن أي ضغط اجتماعي من أي مصدر، أكان الدولة، أو الدين أو الطبقة، يتحكم في قرار الشخص ميكانيكيًّا هو خطأ؛
رابعًا، إن المجموعات معرضة للخطأ شأنها شأن الأشخاص، وأن الشخص بواسطة عقله وضميره، هو الحكم الصالح على صحة الأمور أو بطلانها.
أمّا في ما يتعلق بجوهر الحرية، وبخاصة حرية التفكير والضمير، فقد كان مالك يعتبرها مفهومًا غير جامد، بل ديناميّ. لذا، فالغاية الأساس للحرية لا تختصر بالحق في الوجود، بل تتعداه لتشمل الحق في التطور.
يظهر التأثير الفلسفي الذي اضطلع به مالك في الفقرة الأولى من ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمادة الثامنة عشرة منه اللتين تتعلقان ﺑ"الكرامة الأصيلة" في الأسرة البشرية ووحدة هذه الأسرة إلى جانب حرية التفكير والمعتقد.
لم يقتصر دور شارل مالك في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على مساهماته كأستاذ في مادة الفلسفة. بل تُظهر الوثائق التاريخية أن شارل مالك "الديبلوماسي" ساهم أكثر من أي مندوب آخر في الدفع باتجاه اعتماد هذا الإعلان بالإجماع على الرغم من التوتر الذي كان سائداً في 1948 في خضم الحرب الباردة ، ما أضفى طابعًا عالميًّا على الحقوق والحريات التي تضمنتها وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. فالأجابات المقنعة التي قدمها لزملائه المندوبين والوظائف المختلفة التي اضطلع بها في المنظمة الدولية وإصراره على "التركيب الشامل" لكافة الحقوق والتقاليد الموجودة يسلط الضوء على المهارات الديبلوماسية الرفيعة التي اكتسبها في غضون السنوات الثلاث التي أمضاها في الأمم المتحدة.
انتُخب مالك بالتصفيق مقررًا لمفوضية حقوق الإنسان في كانون الثاني/يناير 1947. ثم انتُخب بالاقتراع السري في شباط/فبراير 1948 رئيسًا للمجلس الاقتصادي والاجتماعي الذي انبثقت عنه هذه المفوضية. كما انتُخب مالك بالاقتراع السري رئيسًا للجنة الثالثة التابعة للجمعية العامة والتي كانت قد أوكلت إليها مهمة التدقيق في المسودة الأخيرة للإعلان واعتمادها قبل عرضها للتصويت في الجمعية العامة. في هذا الإطار، تقول ماري آن غليندون، وهي أستاذة في كلية الحقوق في جامعة هارفارد: "كان مندوب لبنان، هذا البلد الصغير، يترأس ثلاث لجان كبرى فيما كان الإعلان يدخل مراحله النهائية المصيرية في خريف العام 1948."
توفي شارل حبيب مالك في 28 كانون الأول/دسمبر 1987 قبل ستة أسابيع من عيد ميلاده الثاني والثمانين. وقد لخص مهمته خير تلخيص في الكلمة التي ألقاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 كانون الأول/دسمبر 1948، حيث قال إن "الإعلان سيكون بمثابة ناقد فعّال للممارسات الحالية ويساعد على تغيير الواقع، لا بل يقوم بما هو أهم من ذلك. سنعمل على إصدار اتفاقات أخرى، لكن سيكون هذا النص ركيزة لها. وسنعمل على صياغة إجراءات تطبيقية، لكن هذه الإجراءات يجب أن تساهم في تطبّق هذه الحقوق".
اليوم، وبعد مرور ستين عامًا، يبدو أن رؤية مالك كانت صائبة.
(*) عضو في "مؤسسة حقوق الإنسان والحق الإنساني - لبنان"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق