جبران لم يمت
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
رحل جبران حاملا قلمه على كفنه المضرّج بدماء العنفوان والكرامة والعزة التي لا تقهر.
رحل جبران مع إشراق شمس الحرية ومع نسمات شرقية لامست محياه ورشفت من جسده كالفراشات عطر الاستشهاد لتنشره على مساحة الوطن وفي كل أرجائه ذخيرة وطنية لا تنضب.
رحل شهيد الكلمة الحرة ورائدها مرفوع الجبين، منصور اليمين، رحل في غفلة الحلم ليحلّق كطير الفنيق في سماء لبنان الصافية كصفاء ذهنه النيّر وفكره الخالد.
سقط جبران عن جواده سقوط الفارس المقدام الذي لا يحسب للموت أي حساب، هوى دفاعا عن لبنان الذي سكر بحبه حتى الثمالة وعن الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية وكرامة اللبنانيين.
إن يد الغدر والإثم التي امتدت إلى جبران ورفاقه استطاعت أن تقتل جسده، لكنها لم ولن تستطيع أن تصرع وجوده لأنه بروحه وبأفكاره وبشجاعته اللامتناهية سيبقى حيا فينا، في كل لبناني شريف مناضل ومحب للحرية.
سيبقى فكر جبران ينبض وينضح بالعطاء وبالوفاء في كل كلمة تكتب في صحيفة النهار، صحيفة الأحرار والشرفاء، صحيفة الدفاع عن الحريات والديمقراطية والتعددية الفكرية، الصحيفة التي لم تبخل بأن تقدّم الغالي والنفيس فداء عن لبنان وعن سيادته واستقلاله.
" النهار" لن تتحول إلى ليل حالك كما خطط القاتل الجبان، بل ستبقى الضوء المنير في دروب الحق والحقيقة، وستبقى تعمل في وضح النهار دفاعا عن حرية الكلمة وعن حقوق اللبنانيين الأساسية وعن كرامة الإنسان. ستكمل " النهار" المسيرة على خطى جبران وستنشر نور الحرية وفكره في كل مكان وزمان وسيتحول هذا النور إلى شعلة أبدية لا تنطفئ. هم وحدهم قتلة جبران الجبناء من يتستّر بظلمة الليل المدلهم كالخفافيش وبعتمة الإرهاب الحاقد والجبان. هم وحدهم من يختبئ في جحور الخوف من الحقيقة، ذلك أنهم أعداء الحق والكلمة الحرة التي ترعبهم.
أخافهم قلم جبران الحر، خافوا من كلمات الحق المدوية التي كان يكتبها وينطق بها بكل شجاعة وإقدام، خافوا من طلته البهية الشامخة كأرز لبنان الأبي ومن تصميمه وإيمانه اللامحدود بوطن واحد وموحّد، فقتلوا جسده بطريقة جبانة ووحشية تدل على مدى بربر يتهم ومعاداتهم للإنسانية.
جبران لم يمت وستبقى روحه الطاهرة ترفرف فوق ربى لبنان تعانق الياسمين والرياحين والأقحوان إلى الأبد. ستحيا نفسه في جنة الخلد لأنه أصبح قديسا من قديسي لبنان، لأنه مات فداء عن كل لبناني يحب وطنه ويعشق الحرية ولأنه قدّم نفسه قربانا على مذبح الوحدة الوطنية والقرار اللبناني الحر.
نم يا شهيد الكلمة الحرة قرير العين، فنحن نعاهدك يا أخي أننا على العهد باقون، لن نخاف ولن يتزعزع إيماننا بالمسيرة التي قدت، مسيرة الحرية وتوحيد اللبنانيين والعيش المشترك والدفاع عن سيادة واستقلال لبنان. سنبقى نقاوم حتى الرمق الأخير كل أساليب الترهيب والديكتاتورية ومحاولات تحويل النظام اللبناني إلى نظام " توتاليتاري". لن نخشى الموت، وليعلم القتلة الجبناء أننا على خطى جبران سنكمل المسيرة، وعلى هدى روح هذا المعلّم العظيم سندافع عن الحرية التي استشهد من أجلها.
لن أقول لك وداعا يا أخي جبران لأنك باق في مخيلتي، في كياني، في أفكاري وفي كل كلمة سيخطها قلمي دفاعا عن الحرية والديمقراطية.
أنت معنا طالما حلمنا بلبنان قوي موحد سيد حر ومستقل وكلما تنشّقنا نسيم لبنان الذي تبلل بعطر شهادتك.
أنت معنا في كل صبيحة تتمايل فيها نسمات شرقية آتية من وطن الأرز والعنبر والبخور. نرى محيّاك مع بزوغ كل فجر في عرف ديك النهار، ونحس بوجودك في كل كلمة نقرأها في صحيفة النهار، صحيفة الحرية والعنفوان.
ستبقى الشعاع الذي يحمل معه الحرية وبصيص الأمل بغد حالم وأفضل لبلدي لبنان.
لن أقول رحم الله جبران وإنما ليرحم ألعلي القدير قتلة جبران الجبناء وليرأف بعقولهم وبنفوسهم الميتة وبضمائرهم الخالية من الإنسانية علهم يتعظون ويرتدون.
هي نفس جبران الأبية والخالدة التي توزّع رحمة وشفقة على القاتلين الغاشمين، على الحاقدين الرعاديد الذين لا يعرفون من الإنسانية سوى اسمها الذي يلقي الرعب في نفوسهم الخاسئة. هو جبران المنتصر باسم الحق والكلمة، باسم قلمه الحر الذي ستبقى كلماته خالدة مدوية ومحفورة في عقولنا وضمائرنا وفي سجل أمجاد لبنان، حيث لا تضمحل.
فلنفرح ونهلل لأن جبران لم يمت. ولنردد:
نقسم بالله العظيم
مسحيين ومسلمين
أن نبقى موحدين
أن نلاحق المجرمين
أن نقاوم المحتلين
إلى أبد الآبدين
دفاعا عن لبنان العظيم
١٦/١٢/٢٠٠٥
٧/٨/٢٠٠٥
المجلس العدلي: ضرورة أمنية أم محكمة استثنائية مخالفة لقواعد المحاكمة العادلة والنزيهة ولكل الاتفاقات الدولية المعنية بحماية حقوق الانسان؟
المجلس ألعدلي: ضرورة أمنية أم محكمة استثنائية مخالفة لقواعد المحاكمة العادلة والنزيهة ولكل الاتفاقات الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان ؟
النهار 7 آب 2005 ( صفحة آفاق وأبعاد).
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
أستاذ محاضر في القوانين الجزائية والإجراءات الجزائية في جامعة روبير شومان- فرنسا
محام عام أسبق- فرنسا
محام بالاستئناف
بصدور قانون العفو عن الجرائم التي حُكم بها الدكتور سمير جعجع ورفيقه جريس الخوري وبصدور قانون عفو آخر عن الجرائم التي كانت مسندة إلى موقوفي الضنية ومجدل عنجر، بدأت تطرح على بساط البحث مسألة مصداقية التحقيقات العدلية والأحكام الصادرة على أساسها عن المجلس العدلي ومدى تطابقها مع القواعد والأصول التي تحكم التحقيقات والمحاكمات الجزائية العادلة وغير المتحيزة، وخصوصا أن قسما لا يستهان به من اللبنانيين يؤكّد على أن الحكم الذي صدر بحق الدكتور سمير جعجع كان حكما سياسيا جائرا أكثر مما هو حكم قضائي صادر عن محكمة عادلة ونزيهة وفقا للأصول والقواعد المنصوص عليها في الاتفاقات والعهود الدولية المعنية بحماية حقوق الموقوفين والمتهمين.
ولو لم يكن هذا الحكم سياسيا بامتياز وجائرا ومغايرا لأبسط قواعد وأصول المحاكمات الجزائية ولحقوق الدفاع ولقاعدة إجراء المحاكمة الجزائية على درجتين أمام محكمة مستقلة وغير متحيزة، لما كان تدخل المشترع اللبناني لإصدار قانون عفو عن الجرائم التي حكم بها الدكتور سمير جعجع في أول فرصة أصبحت فيها السلطات اللبنانية والمؤسسات الدستورية حرة وغير خاضعة لقبضة الوصاية السورية.
إن التحقيقات العدلية التي يعتقد أنه رُكّبت بعض عناصر الاتهام والإثبات فيها بتدخل سياسي وأمني فاضح في ملفات الدكتور سمير جعجع الجزائية، والأحكام القضائية المغايرة لأبسط قواعد المحاكمة العادلة والنزيهة التي صدرت بحقه عن المجلس العدلي على أساس التحقيقات المذكورة أعلاه، ليست الدليل الوحيد على وجود ثغرات قانونية خطيرة في النصوص التي تحكم آلية إحالة الجرائم على الهيئة القضائية المذكورة وكيفية تنفيذ الإجراءات والتحقيقات الجارية أمامها وصدور الأحكام عنها. فملف العماد عون المالي الذي أحيل على المجلس العدلي وترك مفتوحا بطريقة كيدية وسياسية بحقه على مدى خمس عشرة سنة والذي استعمل أداة للتهويل عليه وعلى تياره في يد سلطة التبعية وسلطة الوصاية والذي لم يبت فيه من قبل محقق عدلي إلا مؤخرا وبعد أن تحرر لبنان من النظام الاستبدادي حيث تقرر كف التعقبات الجزائية في هذه القضية لعدم تأسيس الأفعال المنسوبة إلى العماد عون لأية جريمة جزائية، يؤلّف هو أيضا إثباتا دامغا على مدى تحكّم السلطة السياسية بالمجلس العدلي.
وقضية المحكوم عليه يوسف شعبان الذي لا يزال ينفّذ حكما بالسجن لمدى الحياة كان قد صدر بحقه عن المجلس العدلي منذ إحدى عشرة سنة في ملف اغتيال الدبلوماسي الأردني في بيروت، قد تشكّل هي أيضا دليلا على مدى مخالفة نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي لقواعد المحاكمة العادلة ولاسيما منها حقوق الدفاع وقرينة البراءة وإجراء المحاكمة على درجتين وامكان الطعن بالأحكام الصادرة عن الهيئة القضائية الحاكمة أمام قضاء من درجة أعلى، لاسيما وان السلطات القضائية الأردنية تمكنت من كشف هوية قتلة الدبلوماسي الأردني الحقيقيين وحكمت عليهم بالإعدام ونفّذت هذه العقوبة بحقهم منذ فترة.
إن النائب وليد عيدو، وإدراكا منه لهذا الخلل الذي يصيب نظام وآلية المحاكمات الجزائية أمام المجلس العدلي، تقدّم، بعد طول انتظار، باقتراح قانون يقضي بتعديل نص المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني التي تنص على عدم قبول الأحكام الصادرة عن المجلس العدلي لأي طريق من طرق المراجعة القضائية العادية أو غير العادية بحيث تصبح هذه الأحكام قابلة لطريق واحدة من طرق المراجعة استثنائيا، هي إعادة المحاكمة في حال توافرت شروطها المنصوص عليها في المادة 328 من القانون نفسه.
ولكن، رغم تثميننا لهذا الاقتراح الذي قد يعتبر خطوة خجولة وغير كافية نحو جعل نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي نظاما متطابقا مع قواعد المحاكمة العادلة وغير المتحيزة المنصوص عليها في الاتفاقات والعهود الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان، لا بد أن نشير إلى أن الثغرات التي تعتري نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي والمخالفة للقواعد والمبادئ الأساسية للمحاكمة الجزائية العادلة لا تنحصر فقط بأحكام المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية إنما تتعداها أيضا إلى آلية تأليف المجلس العدلي والى آلية إحالة الملفات الجزائية على هذه المرجعية القضائية والى كيفية إجراء التحقيقات العدلية أمام المحقق العدلي.
أولا: مخالفة آلية تأليف المجلس العدلي لقاعدة إجراء المحاكمة الجزائية أمام محكمة عادلة مستقلة وغير ومتحيزة.
يفترض بالقضاء الجزائي عموما أن يكون مستقلا تمام الاستقلال عن السلطة الإجرائية وعن السلطات السياسية كافة في عملية أدائه للمهمات القضائية الموضوعة على عاتقه، وذلك عملا بمبدأ فصل السلطات وبالمبدأ الدستوري القاضي باستقلال السلطة القضائية والذي يلزم، على حد ما جاء في الفقرة الأخيرة من المادة 20 من الدستور اللبناني، بأن يكون القضاة مستقلين في إجراء وظائفهم. ويقوم مبدأ استقلال القضاء على مقومات النظام الديمقراطي الذي تجسّده دولة القانون والمؤسسات الدستورية، وكل مساس بهذا المبدأ يؤدي إلى الانتقاص من شرعية القضاء ومن ثقة المتقاضين بفعالية العدالة. وتكرّس المادة العاشرة من الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان مبدأ استقلال القضاء وحياده بنصها على ان " لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظرا عادلا علنيا للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه". وجاء العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من مقدمة الدستور اللبناني بموجب القانون الدستوري الرقم 18 تاريخ 21 أيلول 1990، ليضمن هذا الحق في مادته 14 -1 التي تنص على ما يأتي: " جميع الأشخاص متساوون أمام القضاء ولكل فرد الحق، عند النظر في أية تهمة جنائية ضده وفي حقوقه والتزاماته في إحدى القضايا القانونية، في محاكمة عادلة وعلنية بواسطة محكمة مختصة ومستقلة وحيادية قائمة استنادا إلى القانون...".
ويضع هذا العهد لزاما على كل دولة طرف فيه احترام قاعدة استقلال الهيئات القضائية ضمن إقليمها وذلك عن طريق عدم تدخل السلطات السياسية في عملية تشكيل هذه الهيئات ضمانا لمبدأ استقلال القضاء وإجراء المحاكمة أمام محكمة عادلة مستقلة وغير متحيزة. وقد خصص المجتمع الدولي بجميع هيئاته الرسمية والخاصة، خلال النصف الأخير من القرن العشرين، الكثير من الاهتمام بمسألة استقلال القضاء. وتمثل ذلك خصوصا في قيام لجنة الحقوقيين الدوليين في جنيف في العام 1978 بإنشاء مركز لاستقلال القضاء وتطوير مبادئ هذا الاستقلال في جميع أنحاء العالم وفق المعايير الدولية وفي تبني مؤتمر الأمم المتحدة المنعقد في ميلانو- ايطاليا بين 26 آب و 6 أيلول عام 1983 للإعلان العالمي المتعلق باستقلال المحاكم والصادر عن مؤتمر مونتريال-كندا في العام 1983 وأقرته لاحقا الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتاريخ 29 تشرين الثاني من السنة ذاتها.
إن آلية تأليف المجلس العدلي في لبنان تتعارض مع القواعد المشار إليها آنفا ولاسيما مع قاعدة استقلال المحاكم، إذ أن السلطة الإجرائية المتمثلة بمجلس الوزراء هي المرجعية التي يكون لها الكلمة الفصل في عملية تأليف المجلس العدلي. وبالفعل فان هذه الهيئة القضائية تتألف، عملا بأحكام المادة 357 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، من الرئيس الأول لمحكمة التمييز رئيسا ومن أربعة قضاة من محكمة التميز أعضاء يعينون بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى. ويلاحظ، مقارنة مع نص قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، إن المادة 357 المذكورة أعلاه توجب موافقة مجلس القضاء الأعلى بالنسبة لتعيين القضاة الأربعة أعضاء في المجلس العدلي، بينما كان نص المادة 364 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم والمادة 143 من قانون التنظيم القضائي الصادر بالمرسوم رقم 7855 تاريخ 16 تشرين الأول سنة 1961 لا يشير إلا إلى استشارة مجلس القضاء الأعلى في ما خص التعيينات المذكورة أعلاه. ولكن رغم هذا التعديل الذي يقضي بالحصول على موافقة مجلس القضاء الأعلى قبل اتخاذ مجلس الوزراء لقراره بتعيين أعضاء المجلس العدلي، فان هذه الآلية المتبعة في تأليف المجلس المذكور لا تؤمّن احترام قاعدة استقلال المحاكم الجزائية بالكامل إذ أن السلطة السياسية هي التي توافق أو لا توافق على تعيين أعضاء المجلس العدلي الذين سمح مجلس القضاء الأعلى بتسميتهم. وهذا ما يمكن ان يعد تدخلا في شؤون السلطة القضائية من قبل السلطة السياسية وما يؤدي إلى انتهاك قاعدة استقلال القضاء وقاعدة ضرورة إجراء المحاكمة أمام محكمة عادلة وغير متحيزة. فالسلطة السياسية التي يعود لها اختصاص إحالة بعض الجرائم الخطرة على المجلس العدلي، يهمها أن تضمن ملاحقة ومحاكمة من تعتبرهم خطرا على السلامة العامة وعلى الأمن العام أمام هيئة قضائية يمكنها التأثير عليها وذلك عن طريق اختيار أعضائها الذين قد يكونون أعضاء يدينون بالولاء لها. وعليه فان للسلطة السياسية طول الباع في عملية تأليف المجلس العدلي، إذ أن الرئيس الأول لمحكمة التمييز، الذي يعيّن رئيسا للمجلس العدلي بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى، يكون معيّنا مسبقا من قبل السلطة السياسية وحدها بوصفه رئيسا لمجلس القضاء الأعلى وعضوا حكميا في هذا المجلس. أما بالنسبة لأعضاء المجلس العدلي الأربعة فيعيّنون من بين قضاة محكمة التمييز بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى، ما يعني أن التعيين المذكور لا يتم دون اقتراح وزير العدل. والسؤال يطرح هنا عن الحل الواجب اعتماده في حال اختلاف وجهات النظر، حول تعيين هؤلاء القضاة الأعضاء في المجلس العدلي، بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى، وخصوصا ان نص المادة 357 من قانون أصول المحاكمات الجزائية لم يلحظ حلا لهذه المسألة، مما قد يفتح المجال أمام وزير العدل لعرقلة إجراءات تعيين أعضاء المجلس العدلي في حال عدم تأييده للتعيينات الموافق عليها من قبل مجلس القضاء الأعلى وذلك عن طريق عدم تقديم اقتراحه لمجلس الوزراء بتعيين القضاة المذكورين. هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فان المحقق العدلي الذي يتولى التحقيق يعيّن بقرار صادر عن وزير العدل بناء على موافقة مجلس القضاء الأعلى ( م 360 أ.م.)، ما يعد تدخلا في شؤون التحقيقات العدلية من قبل السلطة السياسية وان كان تعيين المحقق العدلي يحتاج إلى موافقة مجلس القضاء الأعلى. فموافقة مجلس القضاء الأعلى التي تسبق عملية تعيين أعضاء المجلس العدلي أو المحقق العدلي، تعتبر خطوة مهمة باتجاه تأمين استقلال المحاكم، ولكنها لا تعتبر كافية بما فيه الكفاية، إذ أن السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) تعيّن ثمانية قضاة من أصل مجموع الأعضاء الذين يشكّلون مجلس القضاء الأعلى ( عشرة أعضاء). أضف إلى ذلك أن المشترع لم يكتف بهذا القدر من تدخل السلطة السياسية في شؤون السلطة القضائية، بل انه اشترط أيضا أن تصادق السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) على صحة عضوية القاضيين اللذين تم انتخابهما ليؤلفا قسما من هيئة مجلس القضاء الأعلى وفقا لما تنص عليه المادة الثانية الجديدة، الفقرة (أ)، من قانون القضاء العدلي. وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن المجلس العدلي لا يتمتع بالاستقلالية التامة عن السلطة السياسية وان اشترط المشترع موافقة مجلس القضاء الأعلى على تعيين أعضائه كون هذا المجلس الأخير، ووفقا لتركيبته الحالية، يخضع لهيمنة السلطة السياسية ويُشكّل وفقا لرغباتها. وينتج من هذا الوضع تدخل واضح للسلطة السياسية في أمور السلطة القضائية لاسيما في الأمور صرف الداخلية للقضاء والمتعلقة بتشكيل المحاكم والهيئات القضائية المختصة. مما يناقض مبدأ فصل السلطات الدستوري ويحد من استقلال السلطة القضائية ويتعارض مع المبادئ الأساسية المعترف بها في مقدمة الدستور اللبناني وفي الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان وأهمها مبادئ فصل السلطات ونزاهة المحاكم واستقلالها وقرينة البراءة. لهذا السبب يقتضي أن تعدّل أصول تعيين القضاة وتشكيل المحاكم ولاسيما تشكيل مجلس القضاء الأعلى بحيث يصار إلى انتخاب رئيسه وأعضائه من بين القضاة ودون أي تدخل أو إشراف من قبل السلطة السياسية وفقا لشروط ومعايير يضع ضوابطها المشترع على أن تعهد لهذا المجلس وحده مهمة تأليف المحاكم ومنها طبعا المجلس العدلي، وذلك تأمينا لحسن سير العدالة واحتراما لقاعدة استقلال السلطة القضائية.
ولأن المجلس العدلي بتركيبته الحالية لا يعتبر هيئة قضائية مستقلة تمام الاستقلال عن السلطة السياسية ولا يشكل تاليا محكمة عادلة ونزيهة وغير متحيزة، لفتت لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان نظر الحكومة اللبنانية إلى الخلل الحاصل على صعيد تعيين القضاة وتأليف المحاكم واستقلال المؤسسات القضائية اللبنانية بتاريخ العاشر من نيسان 1997، إذ ورد في ملاحظات اللجنة المذكورة الموجهة إلى الحكومة المذكورة ما يأتي: " وبشكل أعم، تعرب اللجنة عن القلق إزاء استقلال وحياد القضاء في الدولة الطرف، وتلاحظ أن الوفد نفسه سلّم بأن الإجراءات التي تحكم تعيين القضاة، وبخاصة أعضاء مجلس القضاء الأعلى، غير مرضية أبدا، ويساور اللجنة أيضا القلق لأن الدولة الطرف ( أي الدولة اللبنانية) لا تؤمّن للمواطنين في الكثير من الحالات، وسائل انتصاف وإجراءات استئناف فعّالة بخصوص شكاويهم، وبالتالي، توصي اللجنة بأن تعيد الدولة الطرف النظر على سبيل الاستعجال، في الإجراءات التي تحكم تعيين أعضاء السلك القضائي بهدف ضمان استقلالهم الكامل".
ثانيا: انتهاك آلية إحالة الدعاوى على المجلس العدلي لحق النيابة العامة في تقدير استنسابية الملاحقة الجزائية ولمبدأ استقلال السلطة القضائية.
يؤلّف المجلس العدلي هيئة قضائية استثنائية إن كان لجهة آلية تشكيله وان كان لجهة كيفية إحالة الدعاوى عليه ولجهة إجراءات وأصول المحاكمة المنفذّة أمامه. وتحدد المادة 356 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد اختصاص المجلس العدلي، مستندة إلى ذات المعيار الذي نصت عليه سابقا المادة 363 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، وذلك بالنظر إلى طبيعة الجريمة المرتكبة ودرجة خطورتها. وعلى هذا الأساس، فان الجنايات والجنح التي تمس بالأمن الداخلي أو الخارجي للدولة، ونظرا لما تحمله من اعتداء خطير على أمن المجتمع وعلى النظام العام، تحال على المجلس العدلي لمحاكمتها بناء على مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء ( م 355 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد). وهي، وفقا لما جاء في أحكام المادة 356 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، كل الجرائم المنصوص عليها في المواد 270 وما يليها حتى المادة 336 ضمنا من قانون العقوبات ( الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي والداخلي والجرائم الواقعة على السلامة العامة دون الجرائم المتعلقة بالجمعيات السرية والتظاهرات وتجمعات الشغب وجرائم الاغتصاب والتعدي على حرية العمل)، والجرائم المنصوص عليها في القانون الصادر بتاريخ 11 كانون الثاني 1958 ( إثارة الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي، العصيان المسلح أو اجتياح مدينة أو قرية أو بعض أملاك الدولة، اقتناء أو حيازة المواد المتفجرة بقصد ارتكاب هذه الجرائم، أعمال الإرهاب)، والجرائم الناتجة من صفقات الأسلحة والأعتدة التي تعقدها وزارة الدفاع الوطني والجرائم المرتبطة بها ولاسيما الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة المنصوص عليها في المواد 351 إلى 366 ضمنا من قانون العقوبات ( الرشوة والاختلاس واستثمار الوظيفة)، وجرائم التزوير المنصوص عليها في المواد 453 إلى 472 ضمنا من قانون العقوبات وفي المادتين 138 و 141 من قانون العقوبات العسكرية ( تزوير، غش، وسرقة واختلاس).
وعليه تحال الدعاوى على المجلس العدلي بناء على مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء عملا بأحكام المادة 355 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد. مما يعني أن السلطة السياسية هي التي تقدّر وحدها ضرورة أو عدم ضرورة إحالة القضية على المجلس العدلي وفق معايير محض سياسية أو أمنية. وهذا يعني أيضا أن ليس للمتضرر الشخصي الحق بالادعاء المباشر أمام المجلس العدلي، إنما له أن يقيم دعواه المدنية تبعا للدعوى العامة المحرّكة أمام هذا القضاء الاستثنائي وفقا لأحكام المادة 363، الفقرة الأخيرة، من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد.
من جهة أخرى، ينتج من نص المادة 355 من القانون نفسه أنه لا يحق للمجلس العدلي أن ينظر تلقائيا في الجرائم الواقعة على أمن الدولة، إذ أن هذه القضايا لا تحال عليه إلا بقرار السلطة السياسية. فإذا ارتأت هذه السلطة إحالة الجريمة الواقعة على أمن الدولة على المجلس العدلي، تدّعي عند ذلك النيابة العامة التمييزية باسم المجتمع أمام المحقق العدلي عملا بأحكام المادة 361 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد. وعلى هذا الأساس، فان حق النيابة العامة بالادعاء العام يكون رهنا بإرادة السلطة السياسية وبحقها في التقدير في ما إذا كان يتوجب إحالة الجريمة المرتكبة على المجلس العدلي أم لا. هذا من جهة، أما من جهة ثانية فللسلطة السياسية أن تحدد وحدها طبيعة الجريمة المرتكبة وما إذا كانت تعود صلاحية النظر فيها للمجلس العدلي أم لا. ولها كذلك أن تقضي برفع يد القضاء العادي أو العسكري عن الدعوى التي تكون قيد النظر أمامه وبإحالتها على المجلس العدلي، وذلك تطبيقا لأحكام المادة 356، الفقرة الأخيرة، من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد.
وبهذا فان السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) تقرر وحدها ما إذا كانت الجريمة الواقعة تحمل اعتداء أم لا على امن الدولة، أو إذا كانت تتصف بالجريمة الإرهابية. وتقديرها لهذه الجهة يكون خاضعا بالتأكيد لاعتبارات سياسية وشخصية ولا يكون مستندا إلى معايير موضوعية أو قانونية، ما يؤدي إلى إحالة بعض الجرائم على المجلس العدلي دون الجرائم الأخرى، وان كانت هذه الأخيرة تحمل اعتداء فاضحا على أمن الدولة وعلى سلامة المجتمع. والدليل على ذلك هو أن مجلس الوزراء اللبناني أحال بعض القضايا على المجلس العدلي، ليس فقط بالنظر إلى طبيعة الجريمة وخطورتها وإنما أيضا بالنظر إلى شخص من وجهت إليه تهمة ارتكاب هذه الجرائم أو الاشتراك في ارتكابها، وكذلك خصوصا بالنظر إلى ما يمثّل من اتجاهات سياسية بالنسبة لفئات معيّنة من اللبنانيين ( ونذكر منها على سبيل المثال قضية الدكتور سمير جعجع وقضية العماد عون المالية). فكانت الإحالة في هذه القضايا على المجلس العدلي إحالة سياسية كيدية وانتقامية أكثر مما هي إحالة قضائية تهدف إلى محاربة الجريمة وحماية امن الدولة والمجتمع.
وما يزيد من هذا الوضع خطورة على استقلال السلطة القضائية هو أن النيابة العامة تكون مكبلة اليدين إزاء عملية إحالة الجرائم على المجلس العدلي، إذ لا يعود لها حق تقدير ملاءمة الملاحقة الجزائية أو حق التعديل في طبيعة الجريمة التي أسبغتها السلطة السياسية على الفعل المحال على المجلس المذكور، ما يناقض مبدأ استنسابية الملاحقة الجزائية المنصوص عليه في قانون أصول المحاكمات الجزائية. وهذا ما ينتج صراحة من عبارات المادة 361 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد التي تضع لزاما على النائب العام التمييزي موجب الادعاء دون أن تترك له حق الخيار بين الادعاء وعدم الادعاء: " يدّعي النائب العام التمييزي لدى المحقق العدلي بالجريمة ويحيل إليه ملف التحقيقات". إلى ذلك فان هذا الإجراء غير الطبيعي يؤكّد مدى إخلاله بقاعدة استقلال القضاء، هذا عدا عن انه يحمل اعتداء سافرا على حقوق الإنسان وعلى حقوق الدفاع كونه يؤلّف سلاحا خطيرا في يد السلطة السياسية قد تسلّطه متى تشاء على المواطنين بهدف الانتقام السياسي ضد من يناصب النظام الحاكم العداء أو المعارضة السياسية.
ثالثا: مخافة إجراءات التحقيق العدلي للقواعد وللأصول العامة للمحاكمات الجزائية ولحق المراجعة ضد قرارات قاضي التحقيق.
يتولى المحقق العدلي أعمال التحقيق بعد أن يعيّنه وزير العدل بناء على موافقة مجلس القضاء الأعلى ( م 360 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد). وعملا بنص المادة 363 من القانون ذاته، يطبق المحقق العدلي، في ما خص أعمال وإجراءات التحقيق، الأصول العادية المتبعة أمام قاضي التحقيق العادي. غير أن له، خلافا للأصول العادية، أن يصدر جميع المذكرات التي يقتضيها التحقيق دون طلب من النيابة العامة، على أن قراراته بهذا الخصوص لا تقبل أي طريق من طرق المراجعة. وهذا يعني أن للمحقق العدلي أن يصدر ضد المدعى عليه مذكرة توقيف أو إحضار تلقائيا من دون طلب النيابة العامة وحتى من دون أن يطلعها على هذا الأمر، مما يناقض القواعد العامة للإجراءات والأصول الجزائية التي تقضي بأن يطلع قاضي التحقيق النيابة العامة على كل إجراء جزائي ينوي تنفيذه وأن يتلقى مطالعتها الخطية أو الشفهية في هذا الموضوع.
وما يزيد الأمر خطورة على حقوق المدعى عليهم هو أن قرارات المحقق العدلي لا تقبل لهذه الناحية أي طريق من طرق المراجعة لا من قبل المدعى عليه ولا حتى من قبل النيابة العامة كون التحقيق العدلي يجري على درجة واحدة وكون لا وجود لهيئة قضائية تحقيقية عليا لممارسة الرقابة على أعمال التحقيق والإجراءات التي يقوم بها المحقق العدلي ( كالغرفة الاتهامية).
إن هذا الوضع التشريعي الشاذ يتعارض تماما مع ما كان ينص عليه القانون الفرنسي الذي أنشأ محكمة أمن الدولة ( القانون الصادر بتاريخ 15 كانون الثاني 1963 ) والذي ألغي بالقانون الصادر بتاريخ 4 آب 1981. فبموجب هذا القانون كانت القرارات الصادرة عن المحقق العدلي قابلة للطعن بطريق الاستئناف أمام غرفة الرقابة على صحة التحقيق العدلي ( وهي غرفة استئنافية شبيهة بالهيئة الاتهامية). وكان لغرفة الرقابة هذه أن تعلن بطلان الأعمال التحقيقية المنفذة على يد المحقق العدلي والمخالفة للقانون أو للقواعد والأصول الجوهرية، كما كان لها أن تنظر بطلبات الاستئناف المقدمة ضد كل القرارات القضائية الصادرة عن المحقق العدلي ( يراجع في هذا الخصوص : قرار محكمة النقض الفرنسية الصادر بتاريخ 4 حزيران 1964 ، منشور في مجلة الأسبوع القانوني لعام 1964 ، الجزء الثاني، رقم 13806 ، مع تقرير : COMPTE ).
وبخلاف ما كان ينص عليه قانون إنشاء محكمة أمن الدولة الفرنسية، أتت نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني الجديد، على غرار أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، خالية من أية إشارة إلى هيئة قضائية استئنافية صالحة للنظر في المراجعات ضد القرارات والإجراءات التي يتخذها المحقق العدلي. كما أنها لا تتضمن أي أحكام تقضي بإعادة إجراءات التحقيق العدلي أمام هيئة قضائية تحقيقية من درجة أعلى، ما يدل صراحة على أن التحقيق العدلي يجري على درجة واحدة أمام المحقق العدلي ويحال بعد ذلك الملف على المجلس العدلي في حال أصدر المحقق العدلي قرارا باتهام المدعى عليه بالجرائم المسندة إليه. وهذا ما يؤدي إلى حرمان المدعى عليه من درجة من درجات التحقيق خلافا لما تنص عليه القواعد العامة للإجراءات الجزائية والاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان ولاسيما منها الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان ( المادة التاسعة، الفقرة الرابعة) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ( المادة الرابعة عشر، الفقرة الخامسة). إضافة إلى ذلك، فان إحالة الملف مباشرة، بعد ختم أعمال التحقيق العدلي، إلى المجلس العدلي بموجب قرار اتهامي من دون أن تخضع أعمال التحقيق هذه لرقابة سلطة تحقيقية من درجة أعلى ومن دون أن تكون القرارات الصادرة عن المحقق العدلي قابلة للطعن بطريق الاستئناف أمام الهيئة التحقيقية المذكورة، يسبغ على الإجراءات المنفذة على يد المحقق العدلي المذكور صفة الأعمال التعسفية التي تنتهك ظلامة حقوق الدفاع وذلك على مثال ما هو معمول به في الدول ذات الأنظمة القمعية والديكتاتورية.
رابعا: النص على عدم قبول قرارات المجلس العدلي أي طريق من طرق المراجعة: مخالفة جسيمة لحقوق الدفاع ولمبدأ ثنائية المحاكمة.
تنص المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، تماثلا بنص المادتين 369 و 371 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، على أنه " تجري المحاكمة أمام المجلس العدلي، وجاهية كانت أم غيابية، وفقا لأصول المحاكمة لدى محكمة الجنايات. يصدر المجلس حكمه وفقا للأصول ذاتها.
لا تقبل أحكام المجلس العدلي أي طريق من طرق المراجعة العادية وغير العادية".
إن هذا النص يدل على أن المجلس العدلي يتّبع في المحاكمة أمامه الأصول والقواعد ذاتها المعمول بها في المحاكمات أمام محكمة الجنايات، ولكن مع هذا الفارق الأساسي والخطير وهو أن قرارات المجلس العدلي لا تكون قابلة لأي طريق من طرق المراجعة، مما يناقض القواعد العامة للإجراءات الجزائية والمبادئ الأساسية التي تحكم المحاكمات الجزائية والمنصوص عليها في الشرعات الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان ولاسيما في الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان ( م 9 ) وفي الشرعة الدولية للحقوق المدنية والسياسية الصادرة عن الأمم المتحدة بتاريخ 16 كانون الأول سنة 1966 ( م 14 ) :
« Toute personne déclarée coupable d’une infraction a le droit de faire examiner par une juridiction supérieure la déclaration de culpabilité et la condamnation conformément à la loi » ( art. 14-5).
إن هذا المنحى التشريعي اللبناني يهدف إلى حرمان المحكوم عليه من امكان عرض قضيته على مرجع قضائي أعلى للتأكد من صحة الحكم الذي صدر بحقه ومن صحة التحقيقات وعناصر الإثبات التي بني على أساسها هذا الحكم. ثم ان هذا الانتهاك لحقوق الدفاع يعد أكثر خطورة بالنظر إلى أن قرار الإدانة الذي يصدر عن المجلس العدلي قد يتضمن الحكم بعقوبة جسدية خطيرة كعقوبة الإعدام أو كعقوبة الحبس المؤبد مع الأشغال الشاقة وذلك في الدرجة الأولى والأخيرة دون امكان التقدم ضد هذا الحكم بأي مراجعة حتى مراجعة إعادة المحاكمة التي لا تقرر إلا وفقا لشروط جد قاسية.
لذلك فان هذا الإجراء يعتبر تدبيرا تعسفيا ومنافيا لأبسط قواعد المحاكمة العادلة والنزيهة ولحقوق الإنسان، ولا يجوز تاليا الاستمرار في السكوت على تطبيقه في لبنان الذي طالما تغنّى بنظامه الديمقراطي والذي يلتزم في مقدمة دستوره احترام الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان وطالما أن القضاة الذين يؤلّفون أي هيئة قضائية لا ينحدرون من سليلة الملائكة أو الآلهة ومعرّضون للوقوع في الخطأ كما يخطئ أي إنسان آخر،( وجل من لا يخطئ). وما الحكم الذي انزل بالمدعو يوسف شعبان من أجل جريمة لم يقترفها أو حتى لم يشترك في ارتكابها، إلا دليلا على أن القاضي مهما علت درجته أو رتبته يقع في الخطأ. ولأن القاضي معرّض للخطأ، نصت معظم التشريعات في البلدان الديمقراطية على موجب إعادة النظر في الدعوى ذاتها أمام هيئة قضائية على درجة أعلى من درجة المحكمة التي أصدرت الحكم بداية.
ومن هنا، فان الخلل التشريعي الذي يصيب الأحكام المتعلقة بالمجلس العدلي يحتّم تدخل المشترع اللبناني على هذا الصعيد كي يجعل من هذه المرجعية القضائية محكمة عادلة ومستقلة تمام الاستقلال عن السلطة السياسية، وذلك بالنص على أن يشكّل المجلس العدلي على أساس درجتين من المحاكمة: درجة ابتدائية بحيث يتألف من عدة قضاة ( سبعة قضاة إذا أمكن: رئيس وستة أعضاء) متخصصين من بين رؤساء محاكم البداية أو قضاة محاكم البداية بقرار من مجلس القضاء الأعلى ودون أي تدخل من قبل وزير العدل أو مجلس الوزراء، ودرجة استئنافية بحيث يتألف من عدة قضاة ( تسعة إذا أمكن: رئيس وثمانية أعضاء) متخصصين من بين قضاة محكمة الاستئناف بقرار من مجلس القضاء الأعلى، على أن تخضع قرارات هذه الهيئة الأخيرة لطرق الطعن بالنقض أمام محكمة التمييز.
وكان قد طبق هذا النظام في فرنسا منذ أن ألغيت محكمة أمن الدولة في أول عهد الرئيس ميتران في سنة 1981 بحيث تحال على محكمة جنايات ابتدائية خاصة مؤلفة من سبعة قضاة متخصصين في كل دائرة من دوائر محاكم الاستئناف كل الجنايات ذات الطابع العسكري أو المرتكبة من قبل عسكريين والجنايات التي تحمل اعتداء على المصالح الأساسية للأمة ( والمسماة سابقا بالجنايات الواقعة على أمن الدولة) ( م 698 /6 قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي). وتكون قرارات هذه المحكمة قابلة للاستئناف أمام محكمة جنايات استئنافية مؤلفة من تسعة قضاة ( رئيس وثمانية أعضاء) متخصصين ( م 698/6 )، وتخضع الأحكام الصادرة عن هذه المحكمة الأخيرة لطريق المراجعة بالنقض أمام محكمة التمييز. أما الجنح الموصوفة بالعسكرية أو الواقعة على المصالح العليا والأساسية للأمة فتحاكم أمام غرف متخصصة ومؤلفة من ثلاثة قضاة في دوائر محاكم الدرجة الأولى ( أو المحاكم الابتدائية) ( م 697 /1 قانون إجراءات جزائية فرنسي)، مع الإشارة إلى أن جنايات الإرهاب تحال على محكمة جنايات باريس الخاصة والمؤلفة من سبعة قضاة متخصصين في قضايا الإرهاب وذلك بغض النظر عن مكان وقوعها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى جنح الإرهاب التي تحاكم أمام غرف متخصصة في مادة الإرهاب في دائرة محكمة البداية في باريس ( م 706/17 قانون إجراءات جزائية فرنسي).
ويتبيّن أن المشترع الفرنسي، ورغم تعرّض الدولة الفرنسية لهجمات إرهابية خطيرة ورغم استمرار المخاطر الإرهابية التي تهدد أمن وسلامة الشعب الفرنسي، لم يتخذ من هذا الوضع حجة أو أساسا كي ينشئ قضاء استثنائيا مخالفا لقواعد وأصول المحاكمة الجزائية العادلة ولم تتدخل السلطات السياسية في البلاد كي تساهم في تشكيل قضاء جزائي مماثل للمجلس العدلي اللبناني. فمحكمة أمن الدولة الفرنسية التي أنشئت بالقانونين الصادرين بتاريخ 15 كانون الثاني سنة 1963 اثر حرب الجزائر التي خاضتها قوات الجيش الفرنسي ضد الثورة الجزائرية وما رافقها من أعمال إرهابية وتخريبية ألغيت، منذ بداية عهد الرئيس ميتران، بالقانون الصادر بتاريخ 4 آب سنة 1981 وألغيت كذلك المحاكم العسكرية الدائمة بالقانون الصادر بتاريخ 21 تموز سنة 1982 وذلك حماية للحريات وصونا لحقوق الإنسان وخصوصا لحقوق الدفاع ولقاعدة استقلال المحاكم الجزائية منها التي غالبا ما كانت تنتهك لدى محكمة أمن الدولة نتيجة لآلية تأليفها، إذ كانت هذه المحكمة تتألف من الرئيس الأول لمحكمة النقض رئيسا ومن قاضيين يعيّنين بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى ومن ضابطين عسكريين من أعلى الرتب، وكان النائب العام لدى محكمة النقض يقوم، تحت إشراف وزير العدل، بمهمات النيابة العامة لدى محكمة أمن الدولة والى جانبه محاميين عامين لمساعدته في تنفيذ مهمات الادعاء العام. ولكن خلافا لما هو معمول به في التشريع اللبناني، لم تكن تحال الجرائم على محكمة أمن الدولة بمرسوم من مجلس الوزراء، بل بادعاء النيابة العامة إما تلقائيا وإما بناء على أمر وزير العدل الخطي. وهذا ما كانت تنص عليه المادة 27، الفقرة الرابعة، من القانون الفرنسي الرقم 63/23 الصادر بتاريخ 15 كانون الثاني سنة 1963.وكانت تنفذ أعمال التحقيق الابتدائي على يد ثلاثة قضاة تحقيق في الدرجة الأولى، ولدى غرفة تحقيقية مؤلفة من رئيس ومستشارين في الدرجة الثانية. وكان ينتمي هؤلاء القضاة إلى سلك قضاء الحكم في محكمة الدرجة الأولى ( قضاة التحقيق) وفي محكمة الاستئناف ( غرفة التحقيق).
وبالاستناد إلى كل ما ورد أعلاه، يعتبر مشروع القانون الذي تقدّم به النائب وليد عيدو ناقصا وغير كامل ولا يؤدّي النتيجة القانونية المرجوة على صعيد احترام نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي للقواعد والأصول والمبادئ الأساسية المنصوص عليها في الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان. ويلاحظ أيضا على هذا الصعيد أن الاقتراح ذاته لم يأت على مستوى الأسباب الموجبة التي أدرجها الأستاذ عيدو دعما لاقتراحه، إذ جاء في هذه الأسباب ما حرفيته: " حفظت الشرائع كافة، احترام التقاضي وحقوق المتقاضين بما يؤمّن أكبر قدر من العدالة بين البشر. وحرصت دول العالم على وضع قوانين للمحاكمات تمارس من خلال حقوق الدفاع كاملة، بحيث وضعت درجات عدة للمحاكمة في محاولة لنفي أي امكان لخطأ أو تجاوز قضائي. واتجهت دول عدة في العالم لإلغاء المحاكمات التي تتم على درجة واحدة، أيا كانت طبيعة المحاكمة، وكذلك نوع الجرم الذي تتم بسببه المحاكمة".
وبإزاء هذه الأسباب الموجبة التي تضمنها الاقتراح المشار إليه أعلاه، وطالما أن دول العالم حرصت على وضع قوانين للمحاكمات تمارس من خلال حقوق الدفاع كاملة بحيث وضعت درجات عدة للمحاكمة بقصد تلافي الأخطاء القضائية، وطالما أن دولا عدة في العالم ألغت المحاكمات التي تتم على درجة واحدة، فلا بد لرجل القانون المتخصص إلا أن يتساءل عن السبب الموجب الذي أدى إلى عدم تضمين هذا الاقتراح نصا يقضي بضرورة إجراء المحاكمة أمام المجلس العدلي على درجتين أو بإلغاء المحاكمة على درجة واحدة تلافيا للأخطاء القضائية وصونا لحقوق الدفاع وللمبادئ الأساسية التي تحكم المحاكمة النزيهة والعادلة وغير المتحيزة. فالخلل يكمن هنا في القول من جهة أولى بأن ممارسة حق الدفاع على أكمل وجه وتلافي الأخطاء القضائية يوجب إجراء المحاكمة على درجتين وبأن العديد من دول العالم ألغت نظام المحاكمة على درجة واحدة، وفي الإبقاء من جهة ثانية على نظام المحاكمة الحالي للمجلس العدلي.
أما في ما خص التذرّع بسرعة المحاكمة أو بطبيعة الجريمة وخطورتها كمبررات لعدم قابلية أحكام المجلس العدلي لأي طريق من طرق المراجعة، فان هذا الأمر لا يقوم على أي سند قانوني أو عملي حقيقي، والدليل على ذلك هو أن العديد من القضايا الخطيرة التي أحيلت على المجلس العدلي منذ سنوات طويلة لم يبت فيها حتى الآن، كقضية اغتيال الرئيس بشير الجميل وقضية اغتيال الوزير ايلي حبيقة وغيرها من القضايا الأخرى الخطيرة.
في النهاية، إن متطلبات دولة المؤسسات والقانون والبدء في عملية الإصلاح والتغيير على أساس من العدل واحترام حقوق الإنسان والمبادئ الأساسية المنصوص عليها في الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بصون حقوق المشتبه فيهم والمتهمين، تستدعي التصدي للخلل بشكل فعّال وكامل وليس اتخاذ بعض التدابير الخجولة التي ليست على مستوى ورشة الإصلاح والتغيير التي وعد بها الشعب اللبناني. وبناء على ذلك، يقع على عاتق المشترع موجب إعادة النظر في آلية تأليف المجلس العدلي وإحالة الدعاوى عليه وفي كل الإجراءات والأصول التي تحكم المحاكمة الجارية أمامه بحيث تصبح هذه الهيئة القضائية محكومة بقواعد المحاكمة العادلة والنزيهة وغير خاضعة لأساليب الضغوط السياسية التي مورست سابقا على خلفية التنكيل بالمعارضين السياسيين.
النهار 7 آب 2005 ( صفحة آفاق وأبعاد).
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
أستاذ محاضر في القوانين الجزائية والإجراءات الجزائية في جامعة روبير شومان- فرنسا
محام عام أسبق- فرنسا
محام بالاستئناف
بصدور قانون العفو عن الجرائم التي حُكم بها الدكتور سمير جعجع ورفيقه جريس الخوري وبصدور قانون عفو آخر عن الجرائم التي كانت مسندة إلى موقوفي الضنية ومجدل عنجر، بدأت تطرح على بساط البحث مسألة مصداقية التحقيقات العدلية والأحكام الصادرة على أساسها عن المجلس العدلي ومدى تطابقها مع القواعد والأصول التي تحكم التحقيقات والمحاكمات الجزائية العادلة وغير المتحيزة، وخصوصا أن قسما لا يستهان به من اللبنانيين يؤكّد على أن الحكم الذي صدر بحق الدكتور سمير جعجع كان حكما سياسيا جائرا أكثر مما هو حكم قضائي صادر عن محكمة عادلة ونزيهة وفقا للأصول والقواعد المنصوص عليها في الاتفاقات والعهود الدولية المعنية بحماية حقوق الموقوفين والمتهمين.
ولو لم يكن هذا الحكم سياسيا بامتياز وجائرا ومغايرا لأبسط قواعد وأصول المحاكمات الجزائية ولحقوق الدفاع ولقاعدة إجراء المحاكمة الجزائية على درجتين أمام محكمة مستقلة وغير متحيزة، لما كان تدخل المشترع اللبناني لإصدار قانون عفو عن الجرائم التي حكم بها الدكتور سمير جعجع في أول فرصة أصبحت فيها السلطات اللبنانية والمؤسسات الدستورية حرة وغير خاضعة لقبضة الوصاية السورية.
إن التحقيقات العدلية التي يعتقد أنه رُكّبت بعض عناصر الاتهام والإثبات فيها بتدخل سياسي وأمني فاضح في ملفات الدكتور سمير جعجع الجزائية، والأحكام القضائية المغايرة لأبسط قواعد المحاكمة العادلة والنزيهة التي صدرت بحقه عن المجلس العدلي على أساس التحقيقات المذكورة أعلاه، ليست الدليل الوحيد على وجود ثغرات قانونية خطيرة في النصوص التي تحكم آلية إحالة الجرائم على الهيئة القضائية المذكورة وكيفية تنفيذ الإجراءات والتحقيقات الجارية أمامها وصدور الأحكام عنها. فملف العماد عون المالي الذي أحيل على المجلس العدلي وترك مفتوحا بطريقة كيدية وسياسية بحقه على مدى خمس عشرة سنة والذي استعمل أداة للتهويل عليه وعلى تياره في يد سلطة التبعية وسلطة الوصاية والذي لم يبت فيه من قبل محقق عدلي إلا مؤخرا وبعد أن تحرر لبنان من النظام الاستبدادي حيث تقرر كف التعقبات الجزائية في هذه القضية لعدم تأسيس الأفعال المنسوبة إلى العماد عون لأية جريمة جزائية، يؤلّف هو أيضا إثباتا دامغا على مدى تحكّم السلطة السياسية بالمجلس العدلي.
وقضية المحكوم عليه يوسف شعبان الذي لا يزال ينفّذ حكما بالسجن لمدى الحياة كان قد صدر بحقه عن المجلس العدلي منذ إحدى عشرة سنة في ملف اغتيال الدبلوماسي الأردني في بيروت، قد تشكّل هي أيضا دليلا على مدى مخالفة نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي لقواعد المحاكمة العادلة ولاسيما منها حقوق الدفاع وقرينة البراءة وإجراء المحاكمة على درجتين وامكان الطعن بالأحكام الصادرة عن الهيئة القضائية الحاكمة أمام قضاء من درجة أعلى، لاسيما وان السلطات القضائية الأردنية تمكنت من كشف هوية قتلة الدبلوماسي الأردني الحقيقيين وحكمت عليهم بالإعدام ونفّذت هذه العقوبة بحقهم منذ فترة.
إن النائب وليد عيدو، وإدراكا منه لهذا الخلل الذي يصيب نظام وآلية المحاكمات الجزائية أمام المجلس العدلي، تقدّم، بعد طول انتظار، باقتراح قانون يقضي بتعديل نص المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني التي تنص على عدم قبول الأحكام الصادرة عن المجلس العدلي لأي طريق من طرق المراجعة القضائية العادية أو غير العادية بحيث تصبح هذه الأحكام قابلة لطريق واحدة من طرق المراجعة استثنائيا، هي إعادة المحاكمة في حال توافرت شروطها المنصوص عليها في المادة 328 من القانون نفسه.
ولكن، رغم تثميننا لهذا الاقتراح الذي قد يعتبر خطوة خجولة وغير كافية نحو جعل نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي نظاما متطابقا مع قواعد المحاكمة العادلة وغير المتحيزة المنصوص عليها في الاتفاقات والعهود الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان، لا بد أن نشير إلى أن الثغرات التي تعتري نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي والمخالفة للقواعد والمبادئ الأساسية للمحاكمة الجزائية العادلة لا تنحصر فقط بأحكام المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية إنما تتعداها أيضا إلى آلية تأليف المجلس العدلي والى آلية إحالة الملفات الجزائية على هذه المرجعية القضائية والى كيفية إجراء التحقيقات العدلية أمام المحقق العدلي.
أولا: مخالفة آلية تأليف المجلس العدلي لقاعدة إجراء المحاكمة الجزائية أمام محكمة عادلة مستقلة وغير ومتحيزة.
يفترض بالقضاء الجزائي عموما أن يكون مستقلا تمام الاستقلال عن السلطة الإجرائية وعن السلطات السياسية كافة في عملية أدائه للمهمات القضائية الموضوعة على عاتقه، وذلك عملا بمبدأ فصل السلطات وبالمبدأ الدستوري القاضي باستقلال السلطة القضائية والذي يلزم، على حد ما جاء في الفقرة الأخيرة من المادة 20 من الدستور اللبناني، بأن يكون القضاة مستقلين في إجراء وظائفهم. ويقوم مبدأ استقلال القضاء على مقومات النظام الديمقراطي الذي تجسّده دولة القانون والمؤسسات الدستورية، وكل مساس بهذا المبدأ يؤدي إلى الانتقاص من شرعية القضاء ومن ثقة المتقاضين بفعالية العدالة. وتكرّس المادة العاشرة من الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان مبدأ استقلال القضاء وحياده بنصها على ان " لكل إنسان الحق، على قدم المساواة التامة مع الآخرين، في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظرا عادلا علنيا للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه". وجاء العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من مقدمة الدستور اللبناني بموجب القانون الدستوري الرقم 18 تاريخ 21 أيلول 1990، ليضمن هذا الحق في مادته 14 -1 التي تنص على ما يأتي: " جميع الأشخاص متساوون أمام القضاء ولكل فرد الحق، عند النظر في أية تهمة جنائية ضده وفي حقوقه والتزاماته في إحدى القضايا القانونية، في محاكمة عادلة وعلنية بواسطة محكمة مختصة ومستقلة وحيادية قائمة استنادا إلى القانون...".
ويضع هذا العهد لزاما على كل دولة طرف فيه احترام قاعدة استقلال الهيئات القضائية ضمن إقليمها وذلك عن طريق عدم تدخل السلطات السياسية في عملية تشكيل هذه الهيئات ضمانا لمبدأ استقلال القضاء وإجراء المحاكمة أمام محكمة عادلة مستقلة وغير متحيزة. وقد خصص المجتمع الدولي بجميع هيئاته الرسمية والخاصة، خلال النصف الأخير من القرن العشرين، الكثير من الاهتمام بمسألة استقلال القضاء. وتمثل ذلك خصوصا في قيام لجنة الحقوقيين الدوليين في جنيف في العام 1978 بإنشاء مركز لاستقلال القضاء وتطوير مبادئ هذا الاستقلال في جميع أنحاء العالم وفق المعايير الدولية وفي تبني مؤتمر الأمم المتحدة المنعقد في ميلانو- ايطاليا بين 26 آب و 6 أيلول عام 1983 للإعلان العالمي المتعلق باستقلال المحاكم والصادر عن مؤتمر مونتريال-كندا في العام 1983 وأقرته لاحقا الجمعية العمومية للأمم المتحدة بتاريخ 29 تشرين الثاني من السنة ذاتها.
إن آلية تأليف المجلس العدلي في لبنان تتعارض مع القواعد المشار إليها آنفا ولاسيما مع قاعدة استقلال المحاكم، إذ أن السلطة الإجرائية المتمثلة بمجلس الوزراء هي المرجعية التي يكون لها الكلمة الفصل في عملية تأليف المجلس العدلي. وبالفعل فان هذه الهيئة القضائية تتألف، عملا بأحكام المادة 357 من قانون أصول المحاكمات الجزائية، من الرئيس الأول لمحكمة التمييز رئيسا ومن أربعة قضاة من محكمة التميز أعضاء يعينون بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى. ويلاحظ، مقارنة مع نص قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، إن المادة 357 المذكورة أعلاه توجب موافقة مجلس القضاء الأعلى بالنسبة لتعيين القضاة الأربعة أعضاء في المجلس العدلي، بينما كان نص المادة 364 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم والمادة 143 من قانون التنظيم القضائي الصادر بالمرسوم رقم 7855 تاريخ 16 تشرين الأول سنة 1961 لا يشير إلا إلى استشارة مجلس القضاء الأعلى في ما خص التعيينات المذكورة أعلاه. ولكن رغم هذا التعديل الذي يقضي بالحصول على موافقة مجلس القضاء الأعلى قبل اتخاذ مجلس الوزراء لقراره بتعيين أعضاء المجلس العدلي، فان هذه الآلية المتبعة في تأليف المجلس المذكور لا تؤمّن احترام قاعدة استقلال المحاكم الجزائية بالكامل إذ أن السلطة السياسية هي التي توافق أو لا توافق على تعيين أعضاء المجلس العدلي الذين سمح مجلس القضاء الأعلى بتسميتهم. وهذا ما يمكن ان يعد تدخلا في شؤون السلطة القضائية من قبل السلطة السياسية وما يؤدي إلى انتهاك قاعدة استقلال القضاء وقاعدة ضرورة إجراء المحاكمة أمام محكمة عادلة وغير متحيزة. فالسلطة السياسية التي يعود لها اختصاص إحالة بعض الجرائم الخطرة على المجلس العدلي، يهمها أن تضمن ملاحقة ومحاكمة من تعتبرهم خطرا على السلامة العامة وعلى الأمن العام أمام هيئة قضائية يمكنها التأثير عليها وذلك عن طريق اختيار أعضائها الذين قد يكونون أعضاء يدينون بالولاء لها. وعليه فان للسلطة السياسية طول الباع في عملية تأليف المجلس العدلي، إذ أن الرئيس الأول لمحكمة التمييز، الذي يعيّن رئيسا للمجلس العدلي بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء، بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى، يكون معيّنا مسبقا من قبل السلطة السياسية وحدها بوصفه رئيسا لمجلس القضاء الأعلى وعضوا حكميا في هذا المجلس. أما بالنسبة لأعضاء المجلس العدلي الأربعة فيعيّنون من بين قضاة محكمة التمييز بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وموافقة مجلس القضاء الأعلى، ما يعني أن التعيين المذكور لا يتم دون اقتراح وزير العدل. والسؤال يطرح هنا عن الحل الواجب اعتماده في حال اختلاف وجهات النظر، حول تعيين هؤلاء القضاة الأعضاء في المجلس العدلي، بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى، وخصوصا ان نص المادة 357 من قانون أصول المحاكمات الجزائية لم يلحظ حلا لهذه المسألة، مما قد يفتح المجال أمام وزير العدل لعرقلة إجراءات تعيين أعضاء المجلس العدلي في حال عدم تأييده للتعيينات الموافق عليها من قبل مجلس القضاء الأعلى وذلك عن طريق عدم تقديم اقتراحه لمجلس الوزراء بتعيين القضاة المذكورين. هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فان المحقق العدلي الذي يتولى التحقيق يعيّن بقرار صادر عن وزير العدل بناء على موافقة مجلس القضاء الأعلى ( م 360 أ.م.)، ما يعد تدخلا في شؤون التحقيقات العدلية من قبل السلطة السياسية وان كان تعيين المحقق العدلي يحتاج إلى موافقة مجلس القضاء الأعلى. فموافقة مجلس القضاء الأعلى التي تسبق عملية تعيين أعضاء المجلس العدلي أو المحقق العدلي، تعتبر خطوة مهمة باتجاه تأمين استقلال المحاكم، ولكنها لا تعتبر كافية بما فيه الكفاية، إذ أن السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) تعيّن ثمانية قضاة من أصل مجموع الأعضاء الذين يشكّلون مجلس القضاء الأعلى ( عشرة أعضاء). أضف إلى ذلك أن المشترع لم يكتف بهذا القدر من تدخل السلطة السياسية في شؤون السلطة القضائية، بل انه اشترط أيضا أن تصادق السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) على صحة عضوية القاضيين اللذين تم انتخابهما ليؤلفا قسما من هيئة مجلس القضاء الأعلى وفقا لما تنص عليه المادة الثانية الجديدة، الفقرة (أ)، من قانون القضاء العدلي. وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن المجلس العدلي لا يتمتع بالاستقلالية التامة عن السلطة السياسية وان اشترط المشترع موافقة مجلس القضاء الأعلى على تعيين أعضائه كون هذا المجلس الأخير، ووفقا لتركيبته الحالية، يخضع لهيمنة السلطة السياسية ويُشكّل وفقا لرغباتها. وينتج من هذا الوضع تدخل واضح للسلطة السياسية في أمور السلطة القضائية لاسيما في الأمور صرف الداخلية للقضاء والمتعلقة بتشكيل المحاكم والهيئات القضائية المختصة. مما يناقض مبدأ فصل السلطات الدستوري ويحد من استقلال السلطة القضائية ويتعارض مع المبادئ الأساسية المعترف بها في مقدمة الدستور اللبناني وفي الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان وأهمها مبادئ فصل السلطات ونزاهة المحاكم واستقلالها وقرينة البراءة. لهذا السبب يقتضي أن تعدّل أصول تعيين القضاة وتشكيل المحاكم ولاسيما تشكيل مجلس القضاء الأعلى بحيث يصار إلى انتخاب رئيسه وأعضائه من بين القضاة ودون أي تدخل أو إشراف من قبل السلطة السياسية وفقا لشروط ومعايير يضع ضوابطها المشترع على أن تعهد لهذا المجلس وحده مهمة تأليف المحاكم ومنها طبعا المجلس العدلي، وذلك تأمينا لحسن سير العدالة واحتراما لقاعدة استقلال السلطة القضائية.
ولأن المجلس العدلي بتركيبته الحالية لا يعتبر هيئة قضائية مستقلة تمام الاستقلال عن السلطة السياسية ولا يشكل تاليا محكمة عادلة ونزيهة وغير متحيزة، لفتت لجنة الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان نظر الحكومة اللبنانية إلى الخلل الحاصل على صعيد تعيين القضاة وتأليف المحاكم واستقلال المؤسسات القضائية اللبنانية بتاريخ العاشر من نيسان 1997، إذ ورد في ملاحظات اللجنة المذكورة الموجهة إلى الحكومة المذكورة ما يأتي: " وبشكل أعم، تعرب اللجنة عن القلق إزاء استقلال وحياد القضاء في الدولة الطرف، وتلاحظ أن الوفد نفسه سلّم بأن الإجراءات التي تحكم تعيين القضاة، وبخاصة أعضاء مجلس القضاء الأعلى، غير مرضية أبدا، ويساور اللجنة أيضا القلق لأن الدولة الطرف ( أي الدولة اللبنانية) لا تؤمّن للمواطنين في الكثير من الحالات، وسائل انتصاف وإجراءات استئناف فعّالة بخصوص شكاويهم، وبالتالي، توصي اللجنة بأن تعيد الدولة الطرف النظر على سبيل الاستعجال، في الإجراءات التي تحكم تعيين أعضاء السلك القضائي بهدف ضمان استقلالهم الكامل".
ثانيا: انتهاك آلية إحالة الدعاوى على المجلس العدلي لحق النيابة العامة في تقدير استنسابية الملاحقة الجزائية ولمبدأ استقلال السلطة القضائية.
يؤلّف المجلس العدلي هيئة قضائية استثنائية إن كان لجهة آلية تشكيله وان كان لجهة كيفية إحالة الدعاوى عليه ولجهة إجراءات وأصول المحاكمة المنفذّة أمامه. وتحدد المادة 356 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد اختصاص المجلس العدلي، مستندة إلى ذات المعيار الذي نصت عليه سابقا المادة 363 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، وذلك بالنظر إلى طبيعة الجريمة المرتكبة ودرجة خطورتها. وعلى هذا الأساس، فان الجنايات والجنح التي تمس بالأمن الداخلي أو الخارجي للدولة، ونظرا لما تحمله من اعتداء خطير على أمن المجتمع وعلى النظام العام، تحال على المجلس العدلي لمحاكمتها بناء على مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء ( م 355 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد). وهي، وفقا لما جاء في أحكام المادة 356 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، كل الجرائم المنصوص عليها في المواد 270 وما يليها حتى المادة 336 ضمنا من قانون العقوبات ( الجرائم الواقعة على أمن الدولة الخارجي والداخلي والجرائم الواقعة على السلامة العامة دون الجرائم المتعلقة بالجمعيات السرية والتظاهرات وتجمعات الشغب وجرائم الاغتصاب والتعدي على حرية العمل)، والجرائم المنصوص عليها في القانون الصادر بتاريخ 11 كانون الثاني 1958 ( إثارة الحرب الأهلية أو الاقتتال الطائفي، العصيان المسلح أو اجتياح مدينة أو قرية أو بعض أملاك الدولة، اقتناء أو حيازة المواد المتفجرة بقصد ارتكاب هذه الجرائم، أعمال الإرهاب)، والجرائم الناتجة من صفقات الأسلحة والأعتدة التي تعقدها وزارة الدفاع الوطني والجرائم المرتبطة بها ولاسيما الجرائم المخلة بواجبات الوظيفة المنصوص عليها في المواد 351 إلى 366 ضمنا من قانون العقوبات ( الرشوة والاختلاس واستثمار الوظيفة)، وجرائم التزوير المنصوص عليها في المواد 453 إلى 472 ضمنا من قانون العقوبات وفي المادتين 138 و 141 من قانون العقوبات العسكرية ( تزوير، غش، وسرقة واختلاس).
وعليه تحال الدعاوى على المجلس العدلي بناء على مرسوم يتخذ في مجلس الوزراء عملا بأحكام المادة 355 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد. مما يعني أن السلطة السياسية هي التي تقدّر وحدها ضرورة أو عدم ضرورة إحالة القضية على المجلس العدلي وفق معايير محض سياسية أو أمنية. وهذا يعني أيضا أن ليس للمتضرر الشخصي الحق بالادعاء المباشر أمام المجلس العدلي، إنما له أن يقيم دعواه المدنية تبعا للدعوى العامة المحرّكة أمام هذا القضاء الاستثنائي وفقا لأحكام المادة 363، الفقرة الأخيرة، من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد.
من جهة أخرى، ينتج من نص المادة 355 من القانون نفسه أنه لا يحق للمجلس العدلي أن ينظر تلقائيا في الجرائم الواقعة على أمن الدولة، إذ أن هذه القضايا لا تحال عليه إلا بقرار السلطة السياسية. فإذا ارتأت هذه السلطة إحالة الجريمة الواقعة على أمن الدولة على المجلس العدلي، تدّعي عند ذلك النيابة العامة التمييزية باسم المجتمع أمام المحقق العدلي عملا بأحكام المادة 361 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد. وعلى هذا الأساس، فان حق النيابة العامة بالادعاء العام يكون رهنا بإرادة السلطة السياسية وبحقها في التقدير في ما إذا كان يتوجب إحالة الجريمة المرتكبة على المجلس العدلي أم لا. هذا من جهة، أما من جهة ثانية فللسلطة السياسية أن تحدد وحدها طبيعة الجريمة المرتكبة وما إذا كانت تعود صلاحية النظر فيها للمجلس العدلي أم لا. ولها كذلك أن تقضي برفع يد القضاء العادي أو العسكري عن الدعوى التي تكون قيد النظر أمامه وبإحالتها على المجلس العدلي، وذلك تطبيقا لأحكام المادة 356، الفقرة الأخيرة، من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد.
وبهذا فان السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) تقرر وحدها ما إذا كانت الجريمة الواقعة تحمل اعتداء أم لا على امن الدولة، أو إذا كانت تتصف بالجريمة الإرهابية. وتقديرها لهذه الجهة يكون خاضعا بالتأكيد لاعتبارات سياسية وشخصية ولا يكون مستندا إلى معايير موضوعية أو قانونية، ما يؤدي إلى إحالة بعض الجرائم على المجلس العدلي دون الجرائم الأخرى، وان كانت هذه الأخيرة تحمل اعتداء فاضحا على أمن الدولة وعلى سلامة المجتمع. والدليل على ذلك هو أن مجلس الوزراء اللبناني أحال بعض القضايا على المجلس العدلي، ليس فقط بالنظر إلى طبيعة الجريمة وخطورتها وإنما أيضا بالنظر إلى شخص من وجهت إليه تهمة ارتكاب هذه الجرائم أو الاشتراك في ارتكابها، وكذلك خصوصا بالنظر إلى ما يمثّل من اتجاهات سياسية بالنسبة لفئات معيّنة من اللبنانيين ( ونذكر منها على سبيل المثال قضية الدكتور سمير جعجع وقضية العماد عون المالية). فكانت الإحالة في هذه القضايا على المجلس العدلي إحالة سياسية كيدية وانتقامية أكثر مما هي إحالة قضائية تهدف إلى محاربة الجريمة وحماية امن الدولة والمجتمع.
وما يزيد من هذا الوضع خطورة على استقلال السلطة القضائية هو أن النيابة العامة تكون مكبلة اليدين إزاء عملية إحالة الجرائم على المجلس العدلي، إذ لا يعود لها حق تقدير ملاءمة الملاحقة الجزائية أو حق التعديل في طبيعة الجريمة التي أسبغتها السلطة السياسية على الفعل المحال على المجلس المذكور، ما يناقض مبدأ استنسابية الملاحقة الجزائية المنصوص عليه في قانون أصول المحاكمات الجزائية. وهذا ما ينتج صراحة من عبارات المادة 361 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد التي تضع لزاما على النائب العام التمييزي موجب الادعاء دون أن تترك له حق الخيار بين الادعاء وعدم الادعاء: " يدّعي النائب العام التمييزي لدى المحقق العدلي بالجريمة ويحيل إليه ملف التحقيقات". إلى ذلك فان هذا الإجراء غير الطبيعي يؤكّد مدى إخلاله بقاعدة استقلال القضاء، هذا عدا عن انه يحمل اعتداء سافرا على حقوق الإنسان وعلى حقوق الدفاع كونه يؤلّف سلاحا خطيرا في يد السلطة السياسية قد تسلّطه متى تشاء على المواطنين بهدف الانتقام السياسي ضد من يناصب النظام الحاكم العداء أو المعارضة السياسية.
ثالثا: مخافة إجراءات التحقيق العدلي للقواعد وللأصول العامة للمحاكمات الجزائية ولحق المراجعة ضد قرارات قاضي التحقيق.
يتولى المحقق العدلي أعمال التحقيق بعد أن يعيّنه وزير العدل بناء على موافقة مجلس القضاء الأعلى ( م 360 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد). وعملا بنص المادة 363 من القانون ذاته، يطبق المحقق العدلي، في ما خص أعمال وإجراءات التحقيق، الأصول العادية المتبعة أمام قاضي التحقيق العادي. غير أن له، خلافا للأصول العادية، أن يصدر جميع المذكرات التي يقتضيها التحقيق دون طلب من النيابة العامة، على أن قراراته بهذا الخصوص لا تقبل أي طريق من طرق المراجعة. وهذا يعني أن للمحقق العدلي أن يصدر ضد المدعى عليه مذكرة توقيف أو إحضار تلقائيا من دون طلب النيابة العامة وحتى من دون أن يطلعها على هذا الأمر، مما يناقض القواعد العامة للإجراءات والأصول الجزائية التي تقضي بأن يطلع قاضي التحقيق النيابة العامة على كل إجراء جزائي ينوي تنفيذه وأن يتلقى مطالعتها الخطية أو الشفهية في هذا الموضوع.
وما يزيد الأمر خطورة على حقوق المدعى عليهم هو أن قرارات المحقق العدلي لا تقبل لهذه الناحية أي طريق من طرق المراجعة لا من قبل المدعى عليه ولا حتى من قبل النيابة العامة كون التحقيق العدلي يجري على درجة واحدة وكون لا وجود لهيئة قضائية تحقيقية عليا لممارسة الرقابة على أعمال التحقيق والإجراءات التي يقوم بها المحقق العدلي ( كالغرفة الاتهامية).
إن هذا الوضع التشريعي الشاذ يتعارض تماما مع ما كان ينص عليه القانون الفرنسي الذي أنشأ محكمة أمن الدولة ( القانون الصادر بتاريخ 15 كانون الثاني 1963 ) والذي ألغي بالقانون الصادر بتاريخ 4 آب 1981. فبموجب هذا القانون كانت القرارات الصادرة عن المحقق العدلي قابلة للطعن بطريق الاستئناف أمام غرفة الرقابة على صحة التحقيق العدلي ( وهي غرفة استئنافية شبيهة بالهيئة الاتهامية). وكان لغرفة الرقابة هذه أن تعلن بطلان الأعمال التحقيقية المنفذة على يد المحقق العدلي والمخالفة للقانون أو للقواعد والأصول الجوهرية، كما كان لها أن تنظر بطلبات الاستئناف المقدمة ضد كل القرارات القضائية الصادرة عن المحقق العدلي ( يراجع في هذا الخصوص : قرار محكمة النقض الفرنسية الصادر بتاريخ 4 حزيران 1964 ، منشور في مجلة الأسبوع القانوني لعام 1964 ، الجزء الثاني، رقم 13806 ، مع تقرير : COMPTE ).
وبخلاف ما كان ينص عليه قانون إنشاء محكمة أمن الدولة الفرنسية، أتت نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية اللبناني الجديد، على غرار أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، خالية من أية إشارة إلى هيئة قضائية استئنافية صالحة للنظر في المراجعات ضد القرارات والإجراءات التي يتخذها المحقق العدلي. كما أنها لا تتضمن أي أحكام تقضي بإعادة إجراءات التحقيق العدلي أمام هيئة قضائية تحقيقية من درجة أعلى، ما يدل صراحة على أن التحقيق العدلي يجري على درجة واحدة أمام المحقق العدلي ويحال بعد ذلك الملف على المجلس العدلي في حال أصدر المحقق العدلي قرارا باتهام المدعى عليه بالجرائم المسندة إليه. وهذا ما يؤدي إلى حرمان المدعى عليه من درجة من درجات التحقيق خلافا لما تنص عليه القواعد العامة للإجراءات الجزائية والاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان ولاسيما منها الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان ( المادة التاسعة، الفقرة الرابعة) والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ( المادة الرابعة عشر، الفقرة الخامسة). إضافة إلى ذلك، فان إحالة الملف مباشرة، بعد ختم أعمال التحقيق العدلي، إلى المجلس العدلي بموجب قرار اتهامي من دون أن تخضع أعمال التحقيق هذه لرقابة سلطة تحقيقية من درجة أعلى ومن دون أن تكون القرارات الصادرة عن المحقق العدلي قابلة للطعن بطريق الاستئناف أمام الهيئة التحقيقية المذكورة، يسبغ على الإجراءات المنفذة على يد المحقق العدلي المذكور صفة الأعمال التعسفية التي تنتهك ظلامة حقوق الدفاع وذلك على مثال ما هو معمول به في الدول ذات الأنظمة القمعية والديكتاتورية.
رابعا: النص على عدم قبول قرارات المجلس العدلي أي طريق من طرق المراجعة: مخالفة جسيمة لحقوق الدفاع ولمبدأ ثنائية المحاكمة.
تنص المادة 366 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، تماثلا بنص المادتين 369 و 371 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، على أنه " تجري المحاكمة أمام المجلس العدلي، وجاهية كانت أم غيابية، وفقا لأصول المحاكمة لدى محكمة الجنايات. يصدر المجلس حكمه وفقا للأصول ذاتها.
لا تقبل أحكام المجلس العدلي أي طريق من طرق المراجعة العادية وغير العادية".
إن هذا النص يدل على أن المجلس العدلي يتّبع في المحاكمة أمامه الأصول والقواعد ذاتها المعمول بها في المحاكمات أمام محكمة الجنايات، ولكن مع هذا الفارق الأساسي والخطير وهو أن قرارات المجلس العدلي لا تكون قابلة لأي طريق من طرق المراجعة، مما يناقض القواعد العامة للإجراءات الجزائية والمبادئ الأساسية التي تحكم المحاكمات الجزائية والمنصوص عليها في الشرعات الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان ولاسيما في الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان ( م 9 ) وفي الشرعة الدولية للحقوق المدنية والسياسية الصادرة عن الأمم المتحدة بتاريخ 16 كانون الأول سنة 1966 ( م 14 ) :
« Toute personne déclarée coupable d’une infraction a le droit de faire examiner par une juridiction supérieure la déclaration de culpabilité et la condamnation conformément à la loi » ( art. 14-5).
إن هذا المنحى التشريعي اللبناني يهدف إلى حرمان المحكوم عليه من امكان عرض قضيته على مرجع قضائي أعلى للتأكد من صحة الحكم الذي صدر بحقه ومن صحة التحقيقات وعناصر الإثبات التي بني على أساسها هذا الحكم. ثم ان هذا الانتهاك لحقوق الدفاع يعد أكثر خطورة بالنظر إلى أن قرار الإدانة الذي يصدر عن المجلس العدلي قد يتضمن الحكم بعقوبة جسدية خطيرة كعقوبة الإعدام أو كعقوبة الحبس المؤبد مع الأشغال الشاقة وذلك في الدرجة الأولى والأخيرة دون امكان التقدم ضد هذا الحكم بأي مراجعة حتى مراجعة إعادة المحاكمة التي لا تقرر إلا وفقا لشروط جد قاسية.
لذلك فان هذا الإجراء يعتبر تدبيرا تعسفيا ومنافيا لأبسط قواعد المحاكمة العادلة والنزيهة ولحقوق الإنسان، ولا يجوز تاليا الاستمرار في السكوت على تطبيقه في لبنان الذي طالما تغنّى بنظامه الديمقراطي والذي يلتزم في مقدمة دستوره احترام الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان وطالما أن القضاة الذين يؤلّفون أي هيئة قضائية لا ينحدرون من سليلة الملائكة أو الآلهة ومعرّضون للوقوع في الخطأ كما يخطئ أي إنسان آخر،( وجل من لا يخطئ). وما الحكم الذي انزل بالمدعو يوسف شعبان من أجل جريمة لم يقترفها أو حتى لم يشترك في ارتكابها، إلا دليلا على أن القاضي مهما علت درجته أو رتبته يقع في الخطأ. ولأن القاضي معرّض للخطأ، نصت معظم التشريعات في البلدان الديمقراطية على موجب إعادة النظر في الدعوى ذاتها أمام هيئة قضائية على درجة أعلى من درجة المحكمة التي أصدرت الحكم بداية.
ومن هنا، فان الخلل التشريعي الذي يصيب الأحكام المتعلقة بالمجلس العدلي يحتّم تدخل المشترع اللبناني على هذا الصعيد كي يجعل من هذه المرجعية القضائية محكمة عادلة ومستقلة تمام الاستقلال عن السلطة السياسية، وذلك بالنص على أن يشكّل المجلس العدلي على أساس درجتين من المحاكمة: درجة ابتدائية بحيث يتألف من عدة قضاة ( سبعة قضاة إذا أمكن: رئيس وستة أعضاء) متخصصين من بين رؤساء محاكم البداية أو قضاة محاكم البداية بقرار من مجلس القضاء الأعلى ودون أي تدخل من قبل وزير العدل أو مجلس الوزراء، ودرجة استئنافية بحيث يتألف من عدة قضاة ( تسعة إذا أمكن: رئيس وثمانية أعضاء) متخصصين من بين قضاة محكمة الاستئناف بقرار من مجلس القضاء الأعلى، على أن تخضع قرارات هذه الهيئة الأخيرة لطرق الطعن بالنقض أمام محكمة التمييز.
وكان قد طبق هذا النظام في فرنسا منذ أن ألغيت محكمة أمن الدولة في أول عهد الرئيس ميتران في سنة 1981 بحيث تحال على محكمة جنايات ابتدائية خاصة مؤلفة من سبعة قضاة متخصصين في كل دائرة من دوائر محاكم الاستئناف كل الجنايات ذات الطابع العسكري أو المرتكبة من قبل عسكريين والجنايات التي تحمل اعتداء على المصالح الأساسية للأمة ( والمسماة سابقا بالجنايات الواقعة على أمن الدولة) ( م 698 /6 قانون الإجراءات الجزائية الفرنسي). وتكون قرارات هذه المحكمة قابلة للاستئناف أمام محكمة جنايات استئنافية مؤلفة من تسعة قضاة ( رئيس وثمانية أعضاء) متخصصين ( م 698/6 )، وتخضع الأحكام الصادرة عن هذه المحكمة الأخيرة لطريق المراجعة بالنقض أمام محكمة التمييز. أما الجنح الموصوفة بالعسكرية أو الواقعة على المصالح العليا والأساسية للأمة فتحاكم أمام غرف متخصصة ومؤلفة من ثلاثة قضاة في دوائر محاكم الدرجة الأولى ( أو المحاكم الابتدائية) ( م 697 /1 قانون إجراءات جزائية فرنسي)، مع الإشارة إلى أن جنايات الإرهاب تحال على محكمة جنايات باريس الخاصة والمؤلفة من سبعة قضاة متخصصين في قضايا الإرهاب وذلك بغض النظر عن مكان وقوعها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى جنح الإرهاب التي تحاكم أمام غرف متخصصة في مادة الإرهاب في دائرة محكمة البداية في باريس ( م 706/17 قانون إجراءات جزائية فرنسي).
ويتبيّن أن المشترع الفرنسي، ورغم تعرّض الدولة الفرنسية لهجمات إرهابية خطيرة ورغم استمرار المخاطر الإرهابية التي تهدد أمن وسلامة الشعب الفرنسي، لم يتخذ من هذا الوضع حجة أو أساسا كي ينشئ قضاء استثنائيا مخالفا لقواعد وأصول المحاكمة الجزائية العادلة ولم تتدخل السلطات السياسية في البلاد كي تساهم في تشكيل قضاء جزائي مماثل للمجلس العدلي اللبناني. فمحكمة أمن الدولة الفرنسية التي أنشئت بالقانونين الصادرين بتاريخ 15 كانون الثاني سنة 1963 اثر حرب الجزائر التي خاضتها قوات الجيش الفرنسي ضد الثورة الجزائرية وما رافقها من أعمال إرهابية وتخريبية ألغيت، منذ بداية عهد الرئيس ميتران، بالقانون الصادر بتاريخ 4 آب سنة 1981 وألغيت كذلك المحاكم العسكرية الدائمة بالقانون الصادر بتاريخ 21 تموز سنة 1982 وذلك حماية للحريات وصونا لحقوق الإنسان وخصوصا لحقوق الدفاع ولقاعدة استقلال المحاكم الجزائية منها التي غالبا ما كانت تنتهك لدى محكمة أمن الدولة نتيجة لآلية تأليفها، إذ كانت هذه المحكمة تتألف من الرئيس الأول لمحكمة النقض رئيسا ومن قاضيين يعيّنين بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى ومن ضابطين عسكريين من أعلى الرتب، وكان النائب العام لدى محكمة النقض يقوم، تحت إشراف وزير العدل، بمهمات النيابة العامة لدى محكمة أمن الدولة والى جانبه محاميين عامين لمساعدته في تنفيذ مهمات الادعاء العام. ولكن خلافا لما هو معمول به في التشريع اللبناني، لم تكن تحال الجرائم على محكمة أمن الدولة بمرسوم من مجلس الوزراء، بل بادعاء النيابة العامة إما تلقائيا وإما بناء على أمر وزير العدل الخطي. وهذا ما كانت تنص عليه المادة 27، الفقرة الرابعة، من القانون الفرنسي الرقم 63/23 الصادر بتاريخ 15 كانون الثاني سنة 1963.وكانت تنفذ أعمال التحقيق الابتدائي على يد ثلاثة قضاة تحقيق في الدرجة الأولى، ولدى غرفة تحقيقية مؤلفة من رئيس ومستشارين في الدرجة الثانية. وكان ينتمي هؤلاء القضاة إلى سلك قضاء الحكم في محكمة الدرجة الأولى ( قضاة التحقيق) وفي محكمة الاستئناف ( غرفة التحقيق).
وبالاستناد إلى كل ما ورد أعلاه، يعتبر مشروع القانون الذي تقدّم به النائب وليد عيدو ناقصا وغير كامل ولا يؤدّي النتيجة القانونية المرجوة على صعيد احترام نظام المحاكمة أمام المجلس العدلي للقواعد والأصول والمبادئ الأساسية المنصوص عليها في الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بحماية حقوق الإنسان. ويلاحظ أيضا على هذا الصعيد أن الاقتراح ذاته لم يأت على مستوى الأسباب الموجبة التي أدرجها الأستاذ عيدو دعما لاقتراحه، إذ جاء في هذه الأسباب ما حرفيته: " حفظت الشرائع كافة، احترام التقاضي وحقوق المتقاضين بما يؤمّن أكبر قدر من العدالة بين البشر. وحرصت دول العالم على وضع قوانين للمحاكمات تمارس من خلال حقوق الدفاع كاملة، بحيث وضعت درجات عدة للمحاكمة في محاولة لنفي أي امكان لخطأ أو تجاوز قضائي. واتجهت دول عدة في العالم لإلغاء المحاكمات التي تتم على درجة واحدة، أيا كانت طبيعة المحاكمة، وكذلك نوع الجرم الذي تتم بسببه المحاكمة".
وبإزاء هذه الأسباب الموجبة التي تضمنها الاقتراح المشار إليه أعلاه، وطالما أن دول العالم حرصت على وضع قوانين للمحاكمات تمارس من خلال حقوق الدفاع كاملة بحيث وضعت درجات عدة للمحاكمة بقصد تلافي الأخطاء القضائية، وطالما أن دولا عدة في العالم ألغت المحاكمات التي تتم على درجة واحدة، فلا بد لرجل القانون المتخصص إلا أن يتساءل عن السبب الموجب الذي أدى إلى عدم تضمين هذا الاقتراح نصا يقضي بضرورة إجراء المحاكمة أمام المجلس العدلي على درجتين أو بإلغاء المحاكمة على درجة واحدة تلافيا للأخطاء القضائية وصونا لحقوق الدفاع وللمبادئ الأساسية التي تحكم المحاكمة النزيهة والعادلة وغير المتحيزة. فالخلل يكمن هنا في القول من جهة أولى بأن ممارسة حق الدفاع على أكمل وجه وتلافي الأخطاء القضائية يوجب إجراء المحاكمة على درجتين وبأن العديد من دول العالم ألغت نظام المحاكمة على درجة واحدة، وفي الإبقاء من جهة ثانية على نظام المحاكمة الحالي للمجلس العدلي.
أما في ما خص التذرّع بسرعة المحاكمة أو بطبيعة الجريمة وخطورتها كمبررات لعدم قابلية أحكام المجلس العدلي لأي طريق من طرق المراجعة، فان هذا الأمر لا يقوم على أي سند قانوني أو عملي حقيقي، والدليل على ذلك هو أن العديد من القضايا الخطيرة التي أحيلت على المجلس العدلي منذ سنوات طويلة لم يبت فيها حتى الآن، كقضية اغتيال الرئيس بشير الجميل وقضية اغتيال الوزير ايلي حبيقة وغيرها من القضايا الأخرى الخطيرة.
في النهاية، إن متطلبات دولة المؤسسات والقانون والبدء في عملية الإصلاح والتغيير على أساس من العدل واحترام حقوق الإنسان والمبادئ الأساسية المنصوص عليها في الاتفاقات والمواثيق الدولية المعنية بصون حقوق المشتبه فيهم والمتهمين، تستدعي التصدي للخلل بشكل فعّال وكامل وليس اتخاذ بعض التدابير الخجولة التي ليست على مستوى ورشة الإصلاح والتغيير التي وعد بها الشعب اللبناني. وبناء على ذلك، يقع على عاتق المشترع موجب إعادة النظر في آلية تأليف المجلس العدلي وإحالة الدعاوى عليه وفي كل الإجراءات والأصول التي تحكم المحاكمة الجارية أمامه بحيث تصبح هذه الهيئة القضائية محكومة بقواعد المحاكمة العادلة والنزيهة وغير خاضعة لأساليب الضغوط السياسية التي مورست سابقا على خلفية التنكيل بالمعارضين السياسيين.
١٥/٧/٢٠٠٥
صلاحيات وزير العدل وفقا لما تنص عليه القوانين المرعية الاجراء
صلاحيات وزير العدل وفقا لما تنص عليه القوانين المرعية الإجراء.
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
أستاذ محاضر في جامعة روبير شومان وفي معهد القضاة والمحامين- ستراسبورغ
محام عام أسبق- فرنسا
محام بالاستئناف
النهار 14 تموز 2005
لم تؤد مفاوضات المرحلة الأولى التي كانت جارية بين العماد عون ورئيس الحكومة المكلف الأستاذ فؤاد السنيورة إلى تشكيل حكومة اتحاد وطني والى إشراك التيار الوطني الحر في هذه الحكومة مع ما يؤمّنه من تمثيل حقيقي لشريحة واسعة من اللبنانيين ومن غطاء وطني لهذه الحكومة. ويعتقد البعض ان الخلاف الأساسي الظاهر الذي أوصل إلى هذا الطلاق المبكر بين هاتين الجهتين السياسيتين يكمن أولا في إصرار العماد عون على أن تسند حقيبة العدل إلى أحد المقربين منه كشرط مبدئي لقبوله بدخول الحكومة، وذلك لتصور بعضهم أن تولي هذه الوزارة غير السيادية قد يسمح لتياره بوضع مشروعه السياسي المتعلق بفتح ملفات الفساد وهدر الأموال العامة موضع التنفيذ وبتطبيق قواعد المساءلة والمحاسبة بحق كل المشتبه فيهم بارتكاب جرائم مالية أو غيرها. أما ثانيا، وبحسب ما شيّع في وسائل الإعلام، فان إخفاق هذا المسعى يعود إلى عدم تجاوب تيار المستقبل مع مطلب العماد عون على أساس ان هذا التيار الأخير يعتبر وزارة العدل وزارة أساسية يتوجب إسنادها إلى أحد أعضائه أو أحد المحسوبين عليه لما لها من خصوصيات رمزية تتعلق في هذا الوقت بقضية التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وبمجريات هذا التحقيق.
في الحقيقة إن هذين السببين الظاهرين والمعروضين على بساط النقاش في لإعلام لا يشكلان السبب الحقيقي الذي أدى إلى عدم نجاح المفاوضات المذكورة أعلاه لأن العماد عون يصبو أولا وآخرا إلى تدعيم استقلالية القضاء وتنظيمه ومنع التدخلات السياسية في شؤونه وتطبيق قواعد العدالة والمساواة، ولا يهدف من خلال تسلمه حقيبة العدل إلى فتح ملفات قضائية انتقامية أو غيرها إذ أنه يعلم يقين العلم ان طبيعة الصلاحيات الممنوحة قانونا لوزير العدل لا تخوّله فتح ملفات قضائية أو تحريكها بالمطلق أو حتى إقفالها أو تطبيق قواعد المحاسبة والمساءلة الجزائية ( أولا ). هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فان تيار المستقبل يعرف أن لجنة التحقيق الدولية المكلفة رفع اللثام عن تفاصيل جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري هي لجنة مستقلة تمام الاستقلال عن السلطات اللبنانية ولا دالة أو سلطة قانونية لوزارة العدل عليها أو على مجريات التحقيق الذي تقوم به في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه ( ثانيا).
أولا: محدودية صلاحيات وزير العدل بالنسبة للتدخل في شؤون الملفات القضائية
أ- صلاحيات وزير العدل صلاحيات تنظيمية وإدارية أكثر مما هي قضائية:
1- السهر على حسن تطبيق القوانين والأنظمة وتنظيم شؤون القضاء
إن صلاحيات وزارة العدل حددت بموجب المادة الأولى من قانون تنظيم وزارة العدل الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 151 تاريخ 16 أيلول سنة 1983 والمعدّل بالمرسوم الاشتراعي رقم 23 تاريخ 23 آذار سنة 1985. ويتبين من خلال نص المادة المذكورة أعلاه ان هذه الوزارة تعنى بتنظيم شؤون القضاء والسهر على حسن تطبيق القوانين والأنظمة المتعلقة به وإعداد مشاريع القوانين والنصوص التنظيمية التي تكلّف بها وإبداء الرأي في المسائل التي تعرض عليها وتمثيل الدولة أمام المحاكم وتنظيم شؤون السجناء والأحداث المنحرفين. وتعنى أيضا بشؤون الكتّاب العدل والخبراء ووكلاء التفليسة ومراقبي الصلح الاحتياطي.
2 – يتم تعيين القضاة بناء على اقتراح وزير العدل وليس بقرار صادر عنه، والكلمة الفصل تعود في هذا الخصوص إلى مجلس الوزراء مجتمعا.
بالاستناد إلى النص المشار إليه أعلاه، يبدو واضحا أن المهمات التي تضطلع بها وزارة العدل فيما خص الشؤون القضائية هي مهمات تنظيمية بحتة تتعلق بوضع الأطر والآليات اللازمة لتأمين حسن سير العدالة كإجراءات تعيين القضاة ونقلهم وترقيتهم وتوزيع الأعمال القضائية على المحاكم. فبموجب المادة الثانية من قانون القضاء العدلي المعدّل بالقانون الرقم 389 تاريخ 21 كانون الأول 2001 ان مجلس الوزراء هو الذي يعيّن بمرسوم، بناء على اقتراح وزير العدل، نصف أعضاء مجلس القضاء الأعلى ( خمس قضاة) لمدة ثلاث سنوات. أضف إلى ذلك ان النائب العام التمييزي الذي يعتبر حكما نائبا لرئيس مجلس القضاء الأعلى يعيّن هو أيضا بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وفق ما تنص عليه المادة 31 من قانون القضاء العدلي. كذلك ان الرئيس الأول لمحكمة التمييز الذي يكون رئيسا لمجلس القضاء الأعلى حكما يعيّن بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل ( م 26 من قانون القضاء العدلي). وهذه هي الحال أيضا بالنسبة إلى رئيس هيئة التفتيش القضائي الذي يؤلّف عضوا حكميا في مجلس القضاء الأعلى والذي يتم تعيينه وتعيين هيئة التفتيش القضائي بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل ( م 100 و 101 من قانون القضاء العدلي). كما يتم تعيين أحد القضاة من رؤساء الغرف في محكمة التمييز وقاضيين من رؤساء الغرف في محاكم الاستئناف وقاض من رؤساء غرف محاكم الدرجة الأولى وقاض عدلي من بين رؤساء المحاكم أو من رؤساء الوحدات في وزارة العدل بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل بعد استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى. وبذلك فان السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) تعيّن ثمانية أعضاء من أصل مجموع الأعضاء الذين يشكّلون مجلس القضاء الأعلى ( 10 أعضاء). أما بالنسبة للعضوين المتبقيين، فيتم انتخابهما من بين رؤساء الغرف في محكمة التمييز من قبل الرئيس الأول لمحكمة التمييز ورؤساء الغرف والمستشارين في محكمة التمييز وتنظم دقائق هذا الانتخاب بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وبعد استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى.
3 - التشكيلات القضائية والمناقلات القضائية تقرر بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وليس بقرار صادر عنه، والكلمة الفصل تعود على هذا الصعيد إلى مجلس القضاء الأعلى.
على صعيد آخر ووفقا لأحكام المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي لا تصبح التشكيلات القضائية التي يقررها مجلس القضاء الأعلى نافذة إلا بعد موافقة وزير العدل. ولكن عند حصول اختلاف في وجهات النظر بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى تنعقد جلسة مشتركة بينهما للنظر في النقاط المختلف عليها. إذا استمر الخلاف ينظر مجلس القضاء الأعلى مجددا في الأمر لبته ويتخذ قراره بأكثرية سبعة أعضاء ويكون قراره في هذا الشأن نهائيا وملزما. وتصدر التشكيلات القضائية وفقا للبنود السابقة بمرسوم بناء على اقتراح وزير العدل.
4 - توزّع الأعمال القضائية على الدوائر والمراكز بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف.
أما في ما خص توزيع الأعمال القضائية فان توزيع هذه الأعمال بين الغرف في المركز الواحد أو في محكمة الاستئناف الواحدة كان يتم بقرار من وزير العدل بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف التابعة لها المحكمة. وكانت تطبق القاعدة نفسها، بموجب المادة 18 من قانون القضاء العدلي قبل تعديلها، في توزيع الأعمال بين الأقسام في المركز الواحد. وبهذا فان مجلس القضاء الأعلى كان يلعب دورا استشاريا لا غير في مسألة توزيع الأعمال القضائية بين الغرف وبين الأقسام، أي أن قراره لم يكن ملزما لهذه الجهة، وكانت الكلمة الفصل تعود إلى وزير العدل الذي كان يضع عملية التوزيع هذه موضع التنفيذ بقرار يتخذه بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى. غير أن القانون الرقم 389 الصادر بتاريخ 21 /12/2001 والذي عدّل قانون القضاء العدلي، استعاض عن عبارة " بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى" الواردة في المادتين 15 و 18 من قانون القضاء العدلي، بالعبارة التالية: " بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى". وعليه فان عملية توزيع الأعمال بين الغرف في المركز الواحد أو في القسم الواحد أو في محكمة الاستئناف لا تتم من تاريخ دخول القانون الرقم 389 حيز التنفيذ ( أي اعتبارا من 7 شباط 2002 ) إلا بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف.
وينتج من كل ذلك أنه حتى فيما يتعلق بأمور تعيين ونقل القضاة التي تعتبر أمورا تنظيمية وإدارية بحتة لا تكون الكلمة الفصل فيها لوزير العدل إنما في غالب الأحيان لمجلس الوزراء. أما فيما خص توزيع الأعمال القضائية على دوائر وأقسام وغرف المحاكم فان القرار الفاعل والنهائي يكون من اختصاص مجلس القضاء الأعلى وذلك لأن هذه المسألة تؤلّف شأنا يمت مباشرة إلى عملية التقاضي وإحقاق الحق وهي بطبيعتها مهمة قضائية صرفة لا يجوز للسلطة السياسية المس بها أو التدخل في تفاصيلها.
ب - العلاقة بين وزير العدل والنيابة العامة التمييزية تقوم على أساس ضرورة ممارسة الرقابة الإدارية على أعمال قضاة النيابة العامة وليس على أساس حق التدخل في شؤون الملاحقات الجزائية.
وإذا كانت صلاحيات وزير العدل قد حددت وفق ضوابط ومبادئ قانونية تحد من سلطان تدخله في عملية إحقاق الحق وفي عمل القضاة القضائي الصرف، فان ذلك تقرر بالاستناد إلى مبدأ فصل السلطات الدستوري ومبدأ استقلالية القاضي المنصوص عليه في المادة 20 من الدستور التي جاء فيها : " القضاة مستقلون في إجراء وظيفتهم وتصدر القرارات والأحكام من قبل كل المحاكم وتنفّذ باسم الشعب اللبناني". وجاء التأكيد على هذا المبدأ الأخير بأحكام المادة 44 من قانون القضاء العدلي التي تنص على أن " القضاة مستقلون في إجراء وظائفهم ولا يمكن نقلهم أو فصلهم عن السلك القضائي إلا وفقا لأحكام هذا القانون".
وانطلاقا من هذه المبادئ ينبغي عدم الخلط بين مبدأ استقلال القاضي في عملية قيامه بمهماته القضائية وبين ضرورة ممارسة الرقابة الإدارية على الجهاز القضائي من قبل السلطة السياسية بهدف ضمان استقلال هذا الجهاز وتأمين حسن سير العدالة وتطبيق القوانين، إذ لا يجوز تحرير المراجع القضائية من أية رقابة سياسية في ظل نظام برلماني يحكمه ليس فقط مبدأ فصل السلطات وإنما أيضا مبدأ تعاون هذه السلطات. ولكن هذا لا يعني من جهة أخرى السماح للسلطة السياسية التدخل في شؤون القضاء الداخلية والمتعلقة خصوصا بتفاصيل عملية إحقاق الحق والتقاضي وتوزيع العدالة.
وعلى هذا الأساس، ولأن النيابة العامة تمثّل المجتمع والسلطة العامة في البلاد ولأنه تلقى على عاتقها مهام حماية المجتمع ضد الجريمة والإجرام وحماية النظام العام، فان طبيعة عملها يوجب إشراف السلطة السياسية عليه منعا لإساءة استعمال سلطانها ومنعا للتنكيل والاستبداد بالمواطنين. ولهذا فان النيابة العامة بخلاف القضاء الجالس تخضع لنظام التبعية التسلسلية الذي يعطي للرئيس على المرؤوس سلطة كافية من الإشراف والرقابة الإداريتين، ما يجعلها، لهذه الجهة، أشبه بالهيئات الإدارية منها بالقضائية. وهذا يدل على ان قضاة النيابة العامة يخضعون لسلطة رؤسائهم التسلسلية التي تنتهي بوزير العدل الذي كان مخولا، في ظل قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، حق الإشراف على دوائر النيابات العامة وحق إعطائها الأوامر بإجراء التعقبات الجزائية في شأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه ( م 16 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم). ويلي وزير العدل في الهرم التسلسلي النائب العام لدى محكمة التمييز الذي يتمتع بسلطة تتناول جميع قضاة النيابات العامة، ثم يأتي النائب العام ألاستئنافي ومعاونوه من قضاة النيابة العامة التي يتولى إدارتها ورئاستها وفق ما ورد في المادة 12 من قانون التنظيم القضائي الصادر بالمرسوم الرقم 7855.
وتجدر الإشارة إلى أن المرسوم الاشتراعي الرقم 8 الصادر بتاريخ 15 كانون الأول سنة 1954 كان قد نص في مادته الثالثة والثلاثين على أنه يحق لوزير العدل أن يوجّه النيابات العامة بتعليمات خطية وعليها أن تتقيد بها. غير أن هذه المادة ألغيت بالقانون المتعلق بنظام القضاة العدليين والصادر بالمرسوم الرقم 7855 المذكور أعلاه واستعيض عنها بالمادة الثالثة التي تنص على أن " يخضع قضاة النيابة العامة لإدارة ومراقبة رؤسائهم ولسلطة وزير العدل". وتؤكّد المادة 45 من المرسوم الاشتراعي الرقم 150 ( قانون القضاء العدلي) على هذه التبعية التسلسلية في نظام النيابة العامة فتنص صراحة على أن " يخضع قضاة النيابات العامة لإدارة ومراقبة رؤسائهم، كما يخضعون لسلطة وزير العدل وتبقى لهم في جلسات المحاكمة حرية الكلام".
1 - لا يمنح قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد لوزير العدل سوى الحق في أن يطلب من النائب العام التمييزي إجراء التعقبات في شأن الجرائم التي وصلت إلى علمه: إن هذا الطلب لا يلزم النائب العام التمييزي بالانصياع لرغبات وزير العدل.
بصدور قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد بتاريخ 2 آب سنة 2001 أُدخلت بعض التعديلات على قاعدة خضوع النيابة العامة التمييزية لسلطة وزير العدل رغم الإبقاء على ارتباط هذه النيابة بوزارة العدل ولو بصورة جزئية. فمنذ دخول هذا القانون حيز التنفيذ أصبح النائب العام لدى محكمة التمييز السلطة المخولة وحدها مهمات مراقبة وإدارة النيابات العامة في لبنان، حالا بذلك مكان وزير العدل الذي يجرّده هذا القانون من معظم الصلاحيات التي كان يتمتع بها في إطار السلطة الممارسة من الحكومة على النيابات العامة والتي كان يستقيها من أحكام الفقرة الأولى من المادة 45 من المرسوم الاشتراعي الرقم 150 تاريخ 16 أيلول 1983 ( قانون القضاء العدلي) والتي أشرنا إليها أعلاه. وعلى هذا النحو يتحوّل النائب العام لدى محكمة التمييز، منذ بدء العمل بقانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، من مدير ومراقب تسلسلي على أعمال قضاة النيابات العامة، خاضع لسلطة وزير العدل، إلى صاحب سلطة مستقلة ( سلطة رقابة وإدارة) أوحد على أعمال الضابطة العدلية وحتى على أعمال قضاة النيابات العامة كلها المتعلقة بتحريك دعوى الحق العام وممارستها. أما وزير العدل، فتبقى له فقط صلاحية الطلب من النائب العام التمييزي إجراء الملاحقات الجزائية بشأن الجرائم التي علم بوقوعها، وذلك تطبيقا للفقرة الأولى من المادة 14 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد التي تنص على أنه " لوزير العدل أن يطلب إلى النائب العام التمييزي إجراء التعقبات بشأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه".
ويظهر من خلال عبارات نص الفقرة المذكورة أن طلب وزير العدل الموجّه إلى النائب العام التمييزي بتحريك الملاحقة الجزائية لا يكون ملزما لهذا الأخير وذلك لسببين رئيسيين:
- لأن الإجراءات والأصول الجزائية المتعلقة بالدعوى العامة تقوم على قاعدة أساسية ألا وهي قاعدة استنسابية الملاحقة الجزائية ( Le principe de l’opportunité de poursuite )، مما يعني ان للنيابة العامة وحدها حق تقدير ملاءمة أو عدم ملاءمة تحريك دعوى الحق العام ولا تكون في ذلك خاضعة لأي وصاية أو سلطة سياسية.
- لأن المشترع اللبناني لم ينص صراحة على إلزامية الطلب الذي يوجهه وزير العدل إلى النائب العام في ما خص تحريك الدعوى العامة. فلو ان المشترع أراد أن يلزم النائب العام التمييزي بطلبات وزير العدل المتعلقة بإجراء التعقبات الجزائية في شأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه لكان نص على ذلك صراحة وعلى الإجراءات والعقوبات التأديبية والإدارية الواجب اتخاذها في حال عدم انصياع النائب العام التمييزي لطلب وزير العدل، إذ لا يجوز تطبيق أية قاعدة أصولية أو إجرائية من دون نص صريح عملا بمبدأ شرعية الإجراءات الجزائية.
2- نتائج الفصل بين صلاحيات وزير العدل وصلاحيات النائب العام لدى محكمة التمييز
وضع قانون أصول المحاكمات الجزائية حدا لأحكام المادة 45 من قانون القضاء العدلي التي كانت تنص على خضوع النائب العام التمييزي لسلطة وزير العدل. ويثبت هذا الاتجاه القانوني بالمادة 428 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد التي نصت صراحة على أنه " يلغى قانون أصول المحاكمات الجزائية الصادر في 18/9/1948 وتعديلاته، كما تلغى جميع الأحكام والنصوص التشريعية المخالفة أو المتعارضة مع هذا القانون"، أي بما فيها نص المادة 45 من قانون القضاء العدلي الصادر بالمرسوم الاشتراعي الرقم 150 تاريخ 16 أيلول سنة 1983. ويؤدي تطبيق قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد على هذا الصعيد الى نتائج عدة أهمها:
- إخضاع قضاة النيابة العامة لإدارة وإشراف رؤسائهم تحت سلطة ورقابة النائب العام التمييزي.
- تشمل سلطة النائب العام التمييزي جميع قضاة النيابة العامة بمن فيهم مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية. وله أن يوجّه إلى كل منهم تعليمات خطية أو شفهية ملزمة في تسيير دعوى الحق العام. إنما تبقى لهم حرية الكلام في جلسات المحاكمة عملا بالقاعدة المأثورة والقائلة أنه " إذا كان القلم مقيدا فاللسان طليق": « La plume est serve, mais la parole est libre ».
- يحيل النائب العام التمييزي على قضاة النيابة العامة كل في حدود اختصاصه التقارير والمحاضر التي ترده بصدد جريمة ما ويطلب إليه تحريك دعوى الحق العام فيها.
- يعتبر طلب النائب العام التمييزي بتحريك دعوى الحق العام ملزما لقضاة النيابة العامة، وهذا ما يستنتج من نص الفقرة الثانية من المادة 13 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي وردت فيها عبارة " إنما يبقى لهم ( أي لقضاة النيابة العامة) حرية الكلام في جلسات المحاكمة".
- بوسع النائب العام التمييزي عند الاقتضاء أن يجري التحقيق مباشرة أو بواسطة معاونيه من قضاة النيابة العامة الملحقين به أو أفراد الضابطة العدلية التابعين له دون أن يكون له حق الادعاء.
- يجوز لوزير العدل توجيه التعليمات الخطية أو حتى الشفهية غير الملزمة إلى النيابة العامة التمييزية بتحريك دعوى الحق العام في قضية ما، ولكن لا يمكنه أن يعطي الأمر للنائب العام بحفظ الدعوى بعد تحريك الملاحقة الجزائية.
- يجوز لوزير العدل أن يوجّه إلى النيابة العامة التمييزية كل التعليمات غير الملزمة والتي تصب في المصلحة العامة وتتعلق بالدعوى العامة بما فيها بكف التعقبات الجزائية أو بمنع المحاكمة إذا كانت المصلحة العليا تقضي بذلك.
- لا يجوز لوزير العدل أن يقف حائلا دون أخذ الملاحقة الجزائية مجراها، أي لا يجوز له أن يأمر بوقف سير دعوى الحق العام في قضية ما. وهذا ما أكّد عليه اجتهاد محكمة النقض الفرنسية منذ زمن بعيد.
ثانيا: محدودية صلاحيات وزير العدل بالنسبة للتدخل في شؤون لجنة التحقيق الدولية المكلفة التحقيق في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
أ - لجنة التحقيق الدولية لجنة مستقلة تمام الاستقلال عن القضاء اللبناني ولا تخضع سوى للضوابط التي وضعها القرار 1595 الصادر عن مجلس الأمن.
إن القرار 1595 الصادر عن مجلس الأمن بتاريخ 7 نيسان 2005 قضى بتأليف لجنة تحقيق دولية ذات صلاحيات تنفيذية للتحقيق في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. وبما أن هذه اللجنة مكلفة القيام بمهمة التحقيق في جريمة إرهاب خطيرة تخطت نتائجها الحدود الوطنية لتطال السلام والأمن الدوليين، فان المرجعية الدولية الأولى ( مجلس الأمن) التي أنشأتها هي السلطة الوحيدة التي يكون بامكانها التدخل في شؤونها وممارسة الرقابة عليها وعلى أعمالها ومجريات التحقيق الذي تقوم به وذلك تطبيقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وبالتأسيس على القرارين الدوليين الرقم 1373 و 1566 المتعلقين بمكافحة الإرهاب. وتأكيدا على هذا المنحى، منح القرار 1595 لجنة التحقيق الدولية المولجة أمر التحقيق في جناية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه كل الصلاحيات التنفيذية التي تجعل من هذه اللجنة مرجعية تحقيقية دولية مستقلة لا يجوز لأية دولة التدخل في شؤونها أو في مجريات التحقيق الذي تقوم به. وهو في هذا المجال نص على إلزام الحكومة اللبنانية بتقديم التعاون الكامل إلى اللجنة المذكورة بما في ذلك الوصول الكامل إلى كل المعلومات والأدلة من وثائق وإفادات ومعلومات وأدلة حسية متوفرة في حوزتها وتعتبرها اللجنة ذات صلة بالتحقيق ( البند الثالث من القرار المذكور). كما ان القرار ذاته نص على إلزام الحكومة اللبنانية بأن توفر للجنة التسهيلات الضرورية لإتمام وظائفها وعلى أن تحظى بالامتيازات والحصانات المنصوص عليها في الاتفاق المتعلق بامتيازات الأمم المتحدة وحصاناتها. ويدعو القرار كل الدول والأطراف إلى التعاون تعاونا كاملا مع اللجنة ولاسيما تزويدها بأي معلومات قد يمتلكونها وتكون على صلة بالعمل الإرهابي المذكور أعلاه وذلك تحت طائلة العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية المنصوص عليها في الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة( البند السابع).
وإذا كان القرار 1595 يؤكّد على دور لجنة التحقيق الدولية في مساعدة السلطة اللبنانية في التحقيق للكشف عن هوية مخططي الجريمة الإرهابية ومنفذيها، فان القرار ذاته يقضي بأن اللجنة المذكورة تتمتع بصلاحيات واسعة تلزم السلطات اللبنانية بالتعاون وبتقديم كل المعلومات حول التحقيق. ومن هنا فان دور لجنة التحقيق في الواقع أكثر من مساعد أو مكمّل، إذ أنه يقوم على أساس تحقيق مستقل تمام الاستقلال عن التحقيق المحلي وخاص بمرجعية دولية تعلو سلطتها على السلطات الوطنية للدولة المعنية على أساس القرار 1595.
ب - ليس من صلاحيات وزير العدل التدخل في مجريات التحقيق الذي تقوم به لجنة التحقيق الدولية
وانطلاقا من هذه المعطيات القانونية، وبالتأسيس على قرار لجنة تقصي الحقائق الذي رفع إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 25 آذار 2005 والذي خلص إلى أن أجهزة التحقيق اللبنانية مشكك في قدرتها على القيام بالتحقيقات في هذه القضية وفي نزاهتها وحيادها بالإضافة إلى أنها مسؤولة عن إخفاء بعض الأدلة الجرمية وبالنظر إلى أن لجنة التحقيق الدولية أُنشئت من قبل مجلس الأمن بالاستناد إلى هذه الوقائع الخطيرة، وبما ان هذه اللجنة الأخيرة تتمتع بالاستقلالية التامة في ما خص أعمالها ومهماتها، لا نعتقد انه تم التعويل على جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وعلى سير التحقيقات في شأنها للمطالبة بوزارة العدل من قبل تيار المستقبل أو من قبل أشخاص مقربين منه. فوزير العدل الذي ليس بامكانه أن يلزم النيابة العامة بطلب تحريك دعوى الحق العام في شأن جريمة وصل خبرها إلى علمه تطبيقا للقانون اللبناني كما رأينا سابقا، لا يمكنه من باب أولى التدخل في شأن التحقيقات التي تقوم بها لجنة تحقيق دولية مستقلة.
ومن هنا لا يمكن أن نعزو فشل المفاوضات التي كانت جارية في مرحلة أولى بين تيار العماد عون وتيار المستقبل إلى إصرار العماد عون على تسلم وزارة العدل أو إلى أسباب شخصية تتعلق بقضية التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وإنما إلى بواعث سياسية صرفة.
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
أستاذ محاضر في جامعة روبير شومان وفي معهد القضاة والمحامين- ستراسبورغ
محام عام أسبق- فرنسا
محام بالاستئناف
النهار 14 تموز 2005
لم تؤد مفاوضات المرحلة الأولى التي كانت جارية بين العماد عون ورئيس الحكومة المكلف الأستاذ فؤاد السنيورة إلى تشكيل حكومة اتحاد وطني والى إشراك التيار الوطني الحر في هذه الحكومة مع ما يؤمّنه من تمثيل حقيقي لشريحة واسعة من اللبنانيين ومن غطاء وطني لهذه الحكومة. ويعتقد البعض ان الخلاف الأساسي الظاهر الذي أوصل إلى هذا الطلاق المبكر بين هاتين الجهتين السياسيتين يكمن أولا في إصرار العماد عون على أن تسند حقيبة العدل إلى أحد المقربين منه كشرط مبدئي لقبوله بدخول الحكومة، وذلك لتصور بعضهم أن تولي هذه الوزارة غير السيادية قد يسمح لتياره بوضع مشروعه السياسي المتعلق بفتح ملفات الفساد وهدر الأموال العامة موضع التنفيذ وبتطبيق قواعد المساءلة والمحاسبة بحق كل المشتبه فيهم بارتكاب جرائم مالية أو غيرها. أما ثانيا، وبحسب ما شيّع في وسائل الإعلام، فان إخفاق هذا المسعى يعود إلى عدم تجاوب تيار المستقبل مع مطلب العماد عون على أساس ان هذا التيار الأخير يعتبر وزارة العدل وزارة أساسية يتوجب إسنادها إلى أحد أعضائه أو أحد المحسوبين عليه لما لها من خصوصيات رمزية تتعلق في هذا الوقت بقضية التحقيق في اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه وبمجريات هذا التحقيق.
في الحقيقة إن هذين السببين الظاهرين والمعروضين على بساط النقاش في لإعلام لا يشكلان السبب الحقيقي الذي أدى إلى عدم نجاح المفاوضات المذكورة أعلاه لأن العماد عون يصبو أولا وآخرا إلى تدعيم استقلالية القضاء وتنظيمه ومنع التدخلات السياسية في شؤونه وتطبيق قواعد العدالة والمساواة، ولا يهدف من خلال تسلمه حقيبة العدل إلى فتح ملفات قضائية انتقامية أو غيرها إذ أنه يعلم يقين العلم ان طبيعة الصلاحيات الممنوحة قانونا لوزير العدل لا تخوّله فتح ملفات قضائية أو تحريكها بالمطلق أو حتى إقفالها أو تطبيق قواعد المحاسبة والمساءلة الجزائية ( أولا ). هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فان تيار المستقبل يعرف أن لجنة التحقيق الدولية المكلفة رفع اللثام عن تفاصيل جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري هي لجنة مستقلة تمام الاستقلال عن السلطات اللبنانية ولا دالة أو سلطة قانونية لوزارة العدل عليها أو على مجريات التحقيق الذي تقوم به في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه ( ثانيا).
أولا: محدودية صلاحيات وزير العدل بالنسبة للتدخل في شؤون الملفات القضائية
أ- صلاحيات وزير العدل صلاحيات تنظيمية وإدارية أكثر مما هي قضائية:
1- السهر على حسن تطبيق القوانين والأنظمة وتنظيم شؤون القضاء
إن صلاحيات وزارة العدل حددت بموجب المادة الأولى من قانون تنظيم وزارة العدل الصادر بالمرسوم الاشتراعي رقم 151 تاريخ 16 أيلول سنة 1983 والمعدّل بالمرسوم الاشتراعي رقم 23 تاريخ 23 آذار سنة 1985. ويتبين من خلال نص المادة المذكورة أعلاه ان هذه الوزارة تعنى بتنظيم شؤون القضاء والسهر على حسن تطبيق القوانين والأنظمة المتعلقة به وإعداد مشاريع القوانين والنصوص التنظيمية التي تكلّف بها وإبداء الرأي في المسائل التي تعرض عليها وتمثيل الدولة أمام المحاكم وتنظيم شؤون السجناء والأحداث المنحرفين. وتعنى أيضا بشؤون الكتّاب العدل والخبراء ووكلاء التفليسة ومراقبي الصلح الاحتياطي.
2 – يتم تعيين القضاة بناء على اقتراح وزير العدل وليس بقرار صادر عنه، والكلمة الفصل تعود في هذا الخصوص إلى مجلس الوزراء مجتمعا.
بالاستناد إلى النص المشار إليه أعلاه، يبدو واضحا أن المهمات التي تضطلع بها وزارة العدل فيما خص الشؤون القضائية هي مهمات تنظيمية بحتة تتعلق بوضع الأطر والآليات اللازمة لتأمين حسن سير العدالة كإجراءات تعيين القضاة ونقلهم وترقيتهم وتوزيع الأعمال القضائية على المحاكم. فبموجب المادة الثانية من قانون القضاء العدلي المعدّل بالقانون الرقم 389 تاريخ 21 كانون الأول 2001 ان مجلس الوزراء هو الذي يعيّن بمرسوم، بناء على اقتراح وزير العدل، نصف أعضاء مجلس القضاء الأعلى ( خمس قضاة) لمدة ثلاث سنوات. أضف إلى ذلك ان النائب العام التمييزي الذي يعتبر حكما نائبا لرئيس مجلس القضاء الأعلى يعيّن هو أيضا بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وفق ما تنص عليه المادة 31 من قانون القضاء العدلي. كذلك ان الرئيس الأول لمحكمة التمييز الذي يكون رئيسا لمجلس القضاء الأعلى حكما يعيّن بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل ( م 26 من قانون القضاء العدلي). وهذه هي الحال أيضا بالنسبة إلى رئيس هيئة التفتيش القضائي الذي يؤلّف عضوا حكميا في مجلس القضاء الأعلى والذي يتم تعيينه وتعيين هيئة التفتيش القضائي بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل ( م 100 و 101 من قانون القضاء العدلي). كما يتم تعيين أحد القضاة من رؤساء الغرف في محكمة التمييز وقاضيين من رؤساء الغرف في محاكم الاستئناف وقاض من رؤساء غرف محاكم الدرجة الأولى وقاض عدلي من بين رؤساء المحاكم أو من رؤساء الوحدات في وزارة العدل بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل بعد استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى. وبذلك فان السلطة السياسية ( مجلس الوزراء) تعيّن ثمانية أعضاء من أصل مجموع الأعضاء الذين يشكّلون مجلس القضاء الأعلى ( 10 أعضاء). أما بالنسبة للعضوين المتبقيين، فيتم انتخابهما من بين رؤساء الغرف في محكمة التمييز من قبل الرئيس الأول لمحكمة التمييز ورؤساء الغرف والمستشارين في محكمة التمييز وتنظم دقائق هذا الانتخاب بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وبعد استطلاع رأي مجلس القضاء الأعلى.
3 - التشكيلات القضائية والمناقلات القضائية تقرر بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير العدل وليس بقرار صادر عنه، والكلمة الفصل تعود على هذا الصعيد إلى مجلس القضاء الأعلى.
على صعيد آخر ووفقا لأحكام المادة الخامسة من قانون القضاء العدلي لا تصبح التشكيلات القضائية التي يقررها مجلس القضاء الأعلى نافذة إلا بعد موافقة وزير العدل. ولكن عند حصول اختلاف في وجهات النظر بين وزير العدل ومجلس القضاء الأعلى تنعقد جلسة مشتركة بينهما للنظر في النقاط المختلف عليها. إذا استمر الخلاف ينظر مجلس القضاء الأعلى مجددا في الأمر لبته ويتخذ قراره بأكثرية سبعة أعضاء ويكون قراره في هذا الشأن نهائيا وملزما. وتصدر التشكيلات القضائية وفقا للبنود السابقة بمرسوم بناء على اقتراح وزير العدل.
4 - توزّع الأعمال القضائية على الدوائر والمراكز بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف.
أما في ما خص توزيع الأعمال القضائية فان توزيع هذه الأعمال بين الغرف في المركز الواحد أو في محكمة الاستئناف الواحدة كان يتم بقرار من وزير العدل بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف التابعة لها المحكمة. وكانت تطبق القاعدة نفسها، بموجب المادة 18 من قانون القضاء العدلي قبل تعديلها، في توزيع الأعمال بين الأقسام في المركز الواحد. وبهذا فان مجلس القضاء الأعلى كان يلعب دورا استشاريا لا غير في مسألة توزيع الأعمال القضائية بين الغرف وبين الأقسام، أي أن قراره لم يكن ملزما لهذه الجهة، وكانت الكلمة الفصل تعود إلى وزير العدل الذي كان يضع عملية التوزيع هذه موضع التنفيذ بقرار يتخذه بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى. غير أن القانون الرقم 389 الصادر بتاريخ 21 /12/2001 والذي عدّل قانون القضاء العدلي، استعاض عن عبارة " بعد استشارة مجلس القضاء الأعلى" الواردة في المادتين 15 و 18 من قانون القضاء العدلي، بالعبارة التالية: " بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى". وعليه فان عملية توزيع الأعمال بين الغرف في المركز الواحد أو في القسم الواحد أو في محكمة الاستئناف لا تتم من تاريخ دخول القانون الرقم 389 حيز التنفيذ ( أي اعتبارا من 7 شباط 2002 ) إلا بعد موافقة مجلس القضاء الأعلى بناء على اقتراح الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف.
وينتج من كل ذلك أنه حتى فيما يتعلق بأمور تعيين ونقل القضاة التي تعتبر أمورا تنظيمية وإدارية بحتة لا تكون الكلمة الفصل فيها لوزير العدل إنما في غالب الأحيان لمجلس الوزراء. أما فيما خص توزيع الأعمال القضائية على دوائر وأقسام وغرف المحاكم فان القرار الفاعل والنهائي يكون من اختصاص مجلس القضاء الأعلى وذلك لأن هذه المسألة تؤلّف شأنا يمت مباشرة إلى عملية التقاضي وإحقاق الحق وهي بطبيعتها مهمة قضائية صرفة لا يجوز للسلطة السياسية المس بها أو التدخل في تفاصيلها.
ب - العلاقة بين وزير العدل والنيابة العامة التمييزية تقوم على أساس ضرورة ممارسة الرقابة الإدارية على أعمال قضاة النيابة العامة وليس على أساس حق التدخل في شؤون الملاحقات الجزائية.
وإذا كانت صلاحيات وزير العدل قد حددت وفق ضوابط ومبادئ قانونية تحد من سلطان تدخله في عملية إحقاق الحق وفي عمل القضاة القضائي الصرف، فان ذلك تقرر بالاستناد إلى مبدأ فصل السلطات الدستوري ومبدأ استقلالية القاضي المنصوص عليه في المادة 20 من الدستور التي جاء فيها : " القضاة مستقلون في إجراء وظيفتهم وتصدر القرارات والأحكام من قبل كل المحاكم وتنفّذ باسم الشعب اللبناني". وجاء التأكيد على هذا المبدأ الأخير بأحكام المادة 44 من قانون القضاء العدلي التي تنص على أن " القضاة مستقلون في إجراء وظائفهم ولا يمكن نقلهم أو فصلهم عن السلك القضائي إلا وفقا لأحكام هذا القانون".
وانطلاقا من هذه المبادئ ينبغي عدم الخلط بين مبدأ استقلال القاضي في عملية قيامه بمهماته القضائية وبين ضرورة ممارسة الرقابة الإدارية على الجهاز القضائي من قبل السلطة السياسية بهدف ضمان استقلال هذا الجهاز وتأمين حسن سير العدالة وتطبيق القوانين، إذ لا يجوز تحرير المراجع القضائية من أية رقابة سياسية في ظل نظام برلماني يحكمه ليس فقط مبدأ فصل السلطات وإنما أيضا مبدأ تعاون هذه السلطات. ولكن هذا لا يعني من جهة أخرى السماح للسلطة السياسية التدخل في شؤون القضاء الداخلية والمتعلقة خصوصا بتفاصيل عملية إحقاق الحق والتقاضي وتوزيع العدالة.
وعلى هذا الأساس، ولأن النيابة العامة تمثّل المجتمع والسلطة العامة في البلاد ولأنه تلقى على عاتقها مهام حماية المجتمع ضد الجريمة والإجرام وحماية النظام العام، فان طبيعة عملها يوجب إشراف السلطة السياسية عليه منعا لإساءة استعمال سلطانها ومنعا للتنكيل والاستبداد بالمواطنين. ولهذا فان النيابة العامة بخلاف القضاء الجالس تخضع لنظام التبعية التسلسلية الذي يعطي للرئيس على المرؤوس سلطة كافية من الإشراف والرقابة الإداريتين، ما يجعلها، لهذه الجهة، أشبه بالهيئات الإدارية منها بالقضائية. وهذا يدل على ان قضاة النيابة العامة يخضعون لسلطة رؤسائهم التسلسلية التي تنتهي بوزير العدل الذي كان مخولا، في ظل قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم، حق الإشراف على دوائر النيابات العامة وحق إعطائها الأوامر بإجراء التعقبات الجزائية في شأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه ( م 16 من قانون أصول المحاكمات الجزائية القديم). ويلي وزير العدل في الهرم التسلسلي النائب العام لدى محكمة التمييز الذي يتمتع بسلطة تتناول جميع قضاة النيابات العامة، ثم يأتي النائب العام ألاستئنافي ومعاونوه من قضاة النيابة العامة التي يتولى إدارتها ورئاستها وفق ما ورد في المادة 12 من قانون التنظيم القضائي الصادر بالمرسوم الرقم 7855.
وتجدر الإشارة إلى أن المرسوم الاشتراعي الرقم 8 الصادر بتاريخ 15 كانون الأول سنة 1954 كان قد نص في مادته الثالثة والثلاثين على أنه يحق لوزير العدل أن يوجّه النيابات العامة بتعليمات خطية وعليها أن تتقيد بها. غير أن هذه المادة ألغيت بالقانون المتعلق بنظام القضاة العدليين والصادر بالمرسوم الرقم 7855 المذكور أعلاه واستعيض عنها بالمادة الثالثة التي تنص على أن " يخضع قضاة النيابة العامة لإدارة ومراقبة رؤسائهم ولسلطة وزير العدل". وتؤكّد المادة 45 من المرسوم الاشتراعي الرقم 150 ( قانون القضاء العدلي) على هذه التبعية التسلسلية في نظام النيابة العامة فتنص صراحة على أن " يخضع قضاة النيابات العامة لإدارة ومراقبة رؤسائهم، كما يخضعون لسلطة وزير العدل وتبقى لهم في جلسات المحاكمة حرية الكلام".
1 - لا يمنح قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد لوزير العدل سوى الحق في أن يطلب من النائب العام التمييزي إجراء التعقبات في شأن الجرائم التي وصلت إلى علمه: إن هذا الطلب لا يلزم النائب العام التمييزي بالانصياع لرغبات وزير العدل.
بصدور قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد بتاريخ 2 آب سنة 2001 أُدخلت بعض التعديلات على قاعدة خضوع النيابة العامة التمييزية لسلطة وزير العدل رغم الإبقاء على ارتباط هذه النيابة بوزارة العدل ولو بصورة جزئية. فمنذ دخول هذا القانون حيز التنفيذ أصبح النائب العام لدى محكمة التمييز السلطة المخولة وحدها مهمات مراقبة وإدارة النيابات العامة في لبنان، حالا بذلك مكان وزير العدل الذي يجرّده هذا القانون من معظم الصلاحيات التي كان يتمتع بها في إطار السلطة الممارسة من الحكومة على النيابات العامة والتي كان يستقيها من أحكام الفقرة الأولى من المادة 45 من المرسوم الاشتراعي الرقم 150 تاريخ 16 أيلول 1983 ( قانون القضاء العدلي) والتي أشرنا إليها أعلاه. وعلى هذا النحو يتحوّل النائب العام لدى محكمة التمييز، منذ بدء العمل بقانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد، من مدير ومراقب تسلسلي على أعمال قضاة النيابات العامة، خاضع لسلطة وزير العدل، إلى صاحب سلطة مستقلة ( سلطة رقابة وإدارة) أوحد على أعمال الضابطة العدلية وحتى على أعمال قضاة النيابات العامة كلها المتعلقة بتحريك دعوى الحق العام وممارستها. أما وزير العدل، فتبقى له فقط صلاحية الطلب من النائب العام التمييزي إجراء الملاحقات الجزائية بشأن الجرائم التي علم بوقوعها، وذلك تطبيقا للفقرة الأولى من المادة 14 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد التي تنص على أنه " لوزير العدل أن يطلب إلى النائب العام التمييزي إجراء التعقبات بشأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه".
ويظهر من خلال عبارات نص الفقرة المذكورة أن طلب وزير العدل الموجّه إلى النائب العام التمييزي بتحريك الملاحقة الجزائية لا يكون ملزما لهذا الأخير وذلك لسببين رئيسيين:
- لأن الإجراءات والأصول الجزائية المتعلقة بالدعوى العامة تقوم على قاعدة أساسية ألا وهي قاعدة استنسابية الملاحقة الجزائية ( Le principe de l’opportunité de poursuite )، مما يعني ان للنيابة العامة وحدها حق تقدير ملاءمة أو عدم ملاءمة تحريك دعوى الحق العام ولا تكون في ذلك خاضعة لأي وصاية أو سلطة سياسية.
- لأن المشترع اللبناني لم ينص صراحة على إلزامية الطلب الذي يوجهه وزير العدل إلى النائب العام في ما خص تحريك الدعوى العامة. فلو ان المشترع أراد أن يلزم النائب العام التمييزي بطلبات وزير العدل المتعلقة بإجراء التعقبات الجزائية في شأن الجرائم التي يتصل خبرها بعلمه لكان نص على ذلك صراحة وعلى الإجراءات والعقوبات التأديبية والإدارية الواجب اتخاذها في حال عدم انصياع النائب العام التمييزي لطلب وزير العدل، إذ لا يجوز تطبيق أية قاعدة أصولية أو إجرائية من دون نص صريح عملا بمبدأ شرعية الإجراءات الجزائية.
2- نتائج الفصل بين صلاحيات وزير العدل وصلاحيات النائب العام لدى محكمة التمييز
وضع قانون أصول المحاكمات الجزائية حدا لأحكام المادة 45 من قانون القضاء العدلي التي كانت تنص على خضوع النائب العام التمييزي لسلطة وزير العدل. ويثبت هذا الاتجاه القانوني بالمادة 428 من قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد التي نصت صراحة على أنه " يلغى قانون أصول المحاكمات الجزائية الصادر في 18/9/1948 وتعديلاته، كما تلغى جميع الأحكام والنصوص التشريعية المخالفة أو المتعارضة مع هذا القانون"، أي بما فيها نص المادة 45 من قانون القضاء العدلي الصادر بالمرسوم الاشتراعي الرقم 150 تاريخ 16 أيلول سنة 1983. ويؤدي تطبيق قانون أصول المحاكمات الجزائية الجديد على هذا الصعيد الى نتائج عدة أهمها:
- إخضاع قضاة النيابة العامة لإدارة وإشراف رؤسائهم تحت سلطة ورقابة النائب العام التمييزي.
- تشمل سلطة النائب العام التمييزي جميع قضاة النيابة العامة بمن فيهم مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية. وله أن يوجّه إلى كل منهم تعليمات خطية أو شفهية ملزمة في تسيير دعوى الحق العام. إنما تبقى لهم حرية الكلام في جلسات المحاكمة عملا بالقاعدة المأثورة والقائلة أنه " إذا كان القلم مقيدا فاللسان طليق": « La plume est serve, mais la parole est libre ».
- يحيل النائب العام التمييزي على قضاة النيابة العامة كل في حدود اختصاصه التقارير والمحاضر التي ترده بصدد جريمة ما ويطلب إليه تحريك دعوى الحق العام فيها.
- يعتبر طلب النائب العام التمييزي بتحريك دعوى الحق العام ملزما لقضاة النيابة العامة، وهذا ما يستنتج من نص الفقرة الثانية من المادة 13 من قانون أصول المحاكمات الجزائية التي وردت فيها عبارة " إنما يبقى لهم ( أي لقضاة النيابة العامة) حرية الكلام في جلسات المحاكمة".
- بوسع النائب العام التمييزي عند الاقتضاء أن يجري التحقيق مباشرة أو بواسطة معاونيه من قضاة النيابة العامة الملحقين به أو أفراد الضابطة العدلية التابعين له دون أن يكون له حق الادعاء.
- يجوز لوزير العدل توجيه التعليمات الخطية أو حتى الشفهية غير الملزمة إلى النيابة العامة التمييزية بتحريك دعوى الحق العام في قضية ما، ولكن لا يمكنه أن يعطي الأمر للنائب العام بحفظ الدعوى بعد تحريك الملاحقة الجزائية.
- يجوز لوزير العدل أن يوجّه إلى النيابة العامة التمييزية كل التعليمات غير الملزمة والتي تصب في المصلحة العامة وتتعلق بالدعوى العامة بما فيها بكف التعقبات الجزائية أو بمنع المحاكمة إذا كانت المصلحة العليا تقضي بذلك.
- لا يجوز لوزير العدل أن يقف حائلا دون أخذ الملاحقة الجزائية مجراها، أي لا يجوز له أن يأمر بوقف سير دعوى الحق العام في قضية ما. وهذا ما أكّد عليه اجتهاد محكمة النقض الفرنسية منذ زمن بعيد.
ثانيا: محدودية صلاحيات وزير العدل بالنسبة للتدخل في شؤون لجنة التحقيق الدولية المكلفة التحقيق في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
أ - لجنة التحقيق الدولية لجنة مستقلة تمام الاستقلال عن القضاء اللبناني ولا تخضع سوى للضوابط التي وضعها القرار 1595 الصادر عن مجلس الأمن.
إن القرار 1595 الصادر عن مجلس الأمن بتاريخ 7 نيسان 2005 قضى بتأليف لجنة تحقيق دولية ذات صلاحيات تنفيذية للتحقيق في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه. وبما أن هذه اللجنة مكلفة القيام بمهمة التحقيق في جريمة إرهاب خطيرة تخطت نتائجها الحدود الوطنية لتطال السلام والأمن الدوليين، فان المرجعية الدولية الأولى ( مجلس الأمن) التي أنشأتها هي السلطة الوحيدة التي يكون بامكانها التدخل في شؤونها وممارسة الرقابة عليها وعلى أعمالها ومجريات التحقيق الذي تقوم به وذلك تطبيقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة وبالتأسيس على القرارين الدوليين الرقم 1373 و 1566 المتعلقين بمكافحة الإرهاب. وتأكيدا على هذا المنحى، منح القرار 1595 لجنة التحقيق الدولية المولجة أمر التحقيق في جناية اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه كل الصلاحيات التنفيذية التي تجعل من هذه اللجنة مرجعية تحقيقية دولية مستقلة لا يجوز لأية دولة التدخل في شؤونها أو في مجريات التحقيق الذي تقوم به. وهو في هذا المجال نص على إلزام الحكومة اللبنانية بتقديم التعاون الكامل إلى اللجنة المذكورة بما في ذلك الوصول الكامل إلى كل المعلومات والأدلة من وثائق وإفادات ومعلومات وأدلة حسية متوفرة في حوزتها وتعتبرها اللجنة ذات صلة بالتحقيق ( البند الثالث من القرار المذكور). كما ان القرار ذاته نص على إلزام الحكومة اللبنانية بأن توفر للجنة التسهيلات الضرورية لإتمام وظائفها وعلى أن تحظى بالامتيازات والحصانات المنصوص عليها في الاتفاق المتعلق بامتيازات الأمم المتحدة وحصاناتها. ويدعو القرار كل الدول والأطراف إلى التعاون تعاونا كاملا مع اللجنة ولاسيما تزويدها بأي معلومات قد يمتلكونها وتكون على صلة بالعمل الإرهابي المذكور أعلاه وذلك تحت طائلة العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية المنصوص عليها في الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة( البند السابع).
وإذا كان القرار 1595 يؤكّد على دور لجنة التحقيق الدولية في مساعدة السلطة اللبنانية في التحقيق للكشف عن هوية مخططي الجريمة الإرهابية ومنفذيها، فان القرار ذاته يقضي بأن اللجنة المذكورة تتمتع بصلاحيات واسعة تلزم السلطات اللبنانية بالتعاون وبتقديم كل المعلومات حول التحقيق. ومن هنا فان دور لجنة التحقيق في الواقع أكثر من مساعد أو مكمّل، إذ أنه يقوم على أساس تحقيق مستقل تمام الاستقلال عن التحقيق المحلي وخاص بمرجعية دولية تعلو سلطتها على السلطات الوطنية للدولة المعنية على أساس القرار 1595.
ب - ليس من صلاحيات وزير العدل التدخل في مجريات التحقيق الذي تقوم به لجنة التحقيق الدولية
وانطلاقا من هذه المعطيات القانونية، وبالتأسيس على قرار لجنة تقصي الحقائق الذي رفع إلى الأمين العام للأمم المتحدة بتاريخ 25 آذار 2005 والذي خلص إلى أن أجهزة التحقيق اللبنانية مشكك في قدرتها على القيام بالتحقيقات في هذه القضية وفي نزاهتها وحيادها بالإضافة إلى أنها مسؤولة عن إخفاء بعض الأدلة الجرمية وبالنظر إلى أن لجنة التحقيق الدولية أُنشئت من قبل مجلس الأمن بالاستناد إلى هذه الوقائع الخطيرة، وبما ان هذه اللجنة الأخيرة تتمتع بالاستقلالية التامة في ما خص أعمالها ومهماتها، لا نعتقد انه تم التعويل على جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري وعلى سير التحقيقات في شأنها للمطالبة بوزارة العدل من قبل تيار المستقبل أو من قبل أشخاص مقربين منه. فوزير العدل الذي ليس بامكانه أن يلزم النيابة العامة بطلب تحريك دعوى الحق العام في شأن جريمة وصل خبرها إلى علمه تطبيقا للقانون اللبناني كما رأينا سابقا، لا يمكنه من باب أولى التدخل في شأن التحقيقات التي تقوم بها لجنة تحقيق دولية مستقلة.
ومن هنا لا يمكن أن نعزو فشل المفاوضات التي كانت جارية في مرحلة أولى بين تيار العماد عون وتيار المستقبل إلى إصرار العماد عون على تسلم وزارة العدل أو إلى أسباب شخصية تتعلق بقضية التحقيق في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وإنما إلى بواعث سياسية صرفة.
١٢/٧/٢٠٠٥
ردا على المدعو حنا حبيب " الباحث في القانون الدستوري" !!
ردا على المدعو حنا حبيب " الباحث في القانون الدستوري"!!
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
بتاريخ 8 تموز سنة 2005 نشر موقع التيار الوطني الحر مقالا للمدعو حنا حبيب تحت عنوان " رحمة بالقانون وبرجال القانون اقرأوا قبل أن تكتبوا"، وقد تم نشر هذا المقال " عملا بحق الرد" على مقالي الذي نشر نقلا عن صحيفة النهار على الموقع ذاته بتاريخ 25 حزيران الماضي والمتعلق " بإمكانية الطعن بنتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة أمام مجلس دستوري منتهية مدة عدد من أعضائه".
إن مقال المدعو حنا حبيب يستدعي بعض الملاحظات الأولية قبل أن نرد لناحية الأساس على ما جاء في متنه من مغالطات قانونية ومن تشويه للحقائق وللمواقف القانونية التي أدليت بها في مقالي. وهذه الملاحظات هي التالية:
1- لا يندرج مقال المدعو حبيب ضمن " حق الرد"، وهذا لأن مقالي الذي نشر على موقع التيار الوطني الحر لا يتناول السيد حبيب أو " عبقريته" أو أبحاثه الدستورية المزعومة لا من قريب ولا من بعيد. فأنا لم أسمع قبل اليوم قط باسم السيد حبيب، ما اعتبره خسارة علمية فادحة لأستاذ جامعي مثلي لم يغرف إلا متأخرا من مناهل تعاليم وفقه السيد حبيب في حقل القانون الدستوري.
2- إن السيد حبيب الذي قدّم نفسه على أساس انه " باحث في القانون الدستوري" لم يحدّد وللأسف للقرّاء الكرام الجامعة أو مراكز الأبحاث العالمية أو اللبنانية التي أغناها بفكره النيّر وبدراساته المشهورة ولم يفصح عن مكانته القانونية العالية وعن طبيعة الشهادات العلمية التي يحملها في هذا المجال.
3- إن عبارات التجريح والتهجّم والقدح والذم التي ساقاها السيد حبيب ضد شخصي في مقاله دون أي سبب موجب تدل على أنه صاحب خلفيات مبيّتة وسيئة.
4- يقول السيد حبيب أنه أراد كتابة مقاله " رغبة بالنقاش القانوني العلمي"، لكن عبارات القدح والذم والتحقير التي استعملها تدل بوضوح على أنه خرج على نطاق النقاش العلمي وانحدر إلى هذا الدرك من المستوى الفكري والأخلاقي وخصوصا أنه لم يدلِ بأي حجج قانونية أو دستورية مقنعة، وهذا ما سنظهره لاحقا.
5 - بإزاء عبارات القدح والذم والتحقير التي وجّهها السيد حبيب إلى شخصي احتفظ بحقي الشخصي بإقامة دعوى جزائية بجريمتي القدح والذم أمام القضاء المختص ضده وضد كل من سهّل أو حرّض على كتابة ونشر مقاله وضد كل من يظهره التحقيق فاعلا أو شريكا أو محرّضا.
6 – ان اسم حنا حبيب لا يوجد إلا في مخيّلة صاحب المقال، مما يدل على ان هذا الأخير أراد إخفاء هويته الحقيقية لعدم ثقته بنفسه ولأنه يعلم يقين العلم إن ما كتبه لا يتطابق مع الحقيقة ويهدف إلى الإساءة إلى شخصي.
أما بالنسبة لما قدّمه السيد حبيب من انتقادات غير علمية لما كتبته في مقالي عن المجلس الدستوري، فكنا لا نود الرد عليها والدخول في متاهاتها لأنها لا تستأهل حقيقة الرد ولا حتى النقاش العلمي ولأنها مجرّدة من كل منطق أو حث قانوني وقائمة فقط على هاجس الانتقام والتهجّم المندفع بعامل الحسد. ولكن احتراما منا للقراء الكرام وإظهارا منا لحقائق الأمور سنناقش ما اعتبره السيد حبيب انتقادا علميا.
نفهم من الانتقادات التي وجهها السيد حبيب أنه يعتبر أن السؤالين المطروحين في مقالي عن إمكانية تجديد أو تمديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري وعن إمكانية أن ينظر المجلس الدستوري المنتهية مدة عدد من أعضائه في الطعون النيابية التي ستقدم أمامه لا يستدعيان " هذا البذخ الفكري المجاني". كما أنه يعتبر أني ارتكبت " لأخطاء علمية لا يمكن لأحد أن يجاريني فيها "، وهي أخطاء " من الفئة الثانية" ذكر منها " على سبيل المثال، كما يقول، وليس على سبيل الحصر المغالطات التالية" : مغالطة متعلقة بآلية تعيين قضاة المجلس الدستوري، المغالطة الناتجة عن قولي أن الآلية المعتمدة في اختيار أعضاء المجلس الدستوري الفرنسي لا تؤمّن استقلال هذا المجلس بالشكل الفعّال المطلوب، والمغالطة الناتجة عن إعطائي الإيحاء للمرشحين الخاسرين أن بامكانهم الطعن بدستورية قانون الانتخاب لعام 2000 .
أولا : بالنسبة للانتقاد المتعلق بمعالجتي لمسألتي التجديد أو التمديد لأعضاء المجلس الدستوري المنتهية مدة ولايتهم ولإمكانية أن ينظر المجلس المذكور في الطعون الانتخابية .
يقول السيد حبيب في هذا الخصوص ما حرفيته " من الغرابة بمكان أن يصر صاحب المقال على تقديم الحجج والبراهين المدعومة بمراجع فرنسية من أجل إثبات ما هو ليس بحاجة إلى إثبات ولا يستدعي بالتالي هذا البذخ الفكري المجّاني. فعلى السؤال الأول تجيب المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري الصادر في 14 تموز سنة 1993 بصورة صريحة لا لبس فيها بأن مدة أعضاء المجلس الدستوري ست سنوات، غير قابلة للتجديد. وعلى السؤال الثاني تجيب المادة الرابعة من نظام المجلس الدستوري بشكل ولا أوضح حين تنص: عند انتهاء الولاية، يستمر الأعضاء الذين انتهت ولايتهم في ممارسة أعمالهم إلى حين تعيين بدلاء لهم وحلفهم اليمين".
في الحقيقة، يُظهر هذا القول مدى سطحية التعليل الذي يقدّمه السيد حبيب دعما لفكرته ويُثبت أنه عندما صاغ هذه السطور أراد أن يكتب بكيدية وليس بهدف التحليل العلمي والقانوني البنّاء. فإذا كان الجواب على هذين السؤالين القانونيين لا يستوجب عناء البحث والنقاش، كما يقول، فلماذا عولجت هذه المسائل الدستورية من قبل جهابذة القانون الدستوري في لبنان ابتداء من الدكتور أدمون نعيم مرورا بالدكتور حسن الرفاعي ووصولا إلى الأستاذ مخايل الضاهر؟ ولماذا تهافتت وسائل الإعلام إلى مكاتب هؤلاء الأساتذة الكبار بحثا عن حلول قانونية ودستورية لهذه هذه المسائل؟ ولماذا كتبت ونشرت العديد من المقالات في صحيفة النهار وغيرها بخصوص هاتين المسألتين على يد رجال قانون متخصصين ويشهد لهم بأهليتهم وخبرتهم العالية؟ وهل يعتبر السيد حبيب طرح هاتين القضيتين الدستوريتين على بساط البحث من قبل كبار رجال القانون في فرنسا كجيكال وبوردو وفيدال وغيرهم " بذخا فكريا مجانيا"؟
على السيد حبيب أن يعلم ان النص القانوني أو الدستوري وان كان بظاهره صريحا يقتضي أحيانا تفسيره لأنه قد يحمل في أحكامه معان قانونية عدة مختلفة أو متناقضة وقد يطرح عدة مشاكل قانونية، وهو بذلك قد يتعرّض لكثير من التأويل والشرح والتحليل. ومن هذا المنطلق، فان النص الدستوري وان بدا لبعض غير المتعمّقين في العلوم القانونية كالسيد حبيب غير غامض يقتضي تفسيره وشرحه للتمكن من إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل الدستورية المطروحة، وإلا انتفت الحاجة لفقه رجال القانون وللنظريات والأبحاث القانونية ولاجتهادات المحاكم ووزعت العدالة على الناس بواسطة ماكينات نقّالة.
وبهذا لا يمكن أن تعتبر صراحة النص كافية بحد ذاتها لإيجاد حلول معيّنة، إذ أن النصوص تكون بحاجة إلى تفسير وشرح من قبل رجال القانون وأحيانا من خلال العودة إلى نية المشترع الحقيقية والاستعانة بالأعمال التحضيرية للقوانين وبالمناقشات البرلمانية. وهذا ما يؤكّد عليه علماء القانون الدستوري في فرنسا بقولهم:
« Le travail du juriste est principalement un travail d’interprétation et d’argumentation. La formalisation écrite de la constitution produit inévitablement un problème de détermination du sens du texte… Les juristes ont en effet principalement affaire à des textes, c’est-à-dire à des formulations écrites de normes et la science juridique consiste à montrer ce qui est obligatoire, permis ou interdit (les normes) dans un système donné à partir des textes qui l’énoncent… » (Louis FAVOREU, Patrick GA?A, Richard GHEVONTIAN, Jean-Louis MESTRE, Otto PFERSMANN, André ROUX et Guy SCOFFONI : Droit constitutionnel, Précis Dalloz, 5ème édition, 2002, n° 121-122, p. 85-86).
وضرورة تفسير النص الدستوري رغم صراحته تؤلّف قاعدة أساسية لكبار رجال الفقه الدستوري في فرنسا ومنهم بيردو وآمون وتروبي الذين ثبّتوا هذه القاعدة على النحو التالي:
« Avant d’appliquer un texte juridique, quel qu’il soit, il faut en déterminer la signification. La signification d’un texte juridique, en effet, c’est ce que ce texte ordonne ou permet, c’est la norme qu’il exprime. En d’autres termes, selon le sens qu’on lui attribue, le texte ordonne tel comportement ou tel autre. On a affirmé parfois que l’interprétation n’est nécessaire que lorsque le texte est obscur et que, par contre, elle est superflue lorsque le texte est clair, ce que l’on exprime par l’adage in claris cessat interpretatio. Cette thèse aboutit en réalité à un paradoxe, car pour pouvoir affirmer que le texte est clair et qu’il n’y a pas lieu de l’interpréter, il faut savoir quelle est sa signification, c’est-à-dire qu’il faut l’avoir interprété » ( Francis HAMON, Michel TROPER, Georges BURDEAU : Droit constitutionnel, 27ème édition, L.G.D.J., 2001, p. 55).
وللدلالة على صحة هذا الموقف يكفي أن نشير، على سبيل المثال، إلى المادة 49 من الدستور اللبناني التي تنص على أن مدة رئيس الجمهورية ست سنوات ولا تجوز إعادة انتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته. فنص هذه المادة يعتبر صريحا وواضحا بأحكامه التي لا تجيز مبدئيا تمديد ولا تجديد مدة ولاية رئيس الجمهورية. ولكن، رغم صراحة هذا النص، طَرحت مسألة إمكانية تجديد أو تمديد مدة ولاية رئيس الجمهورية على بساط البحث من قبل العديد من رجال القانون الدستوري في لبنان وقدّمت العشرات من الدراسات القانونية في هذا الخصوص حين بدأ التداول في مسألة بقاء الرئيس لحود في سدة رئاسة الجمهورية. وكان الهدف من المناقشات والتفسيرات والتحليلات القانونية المذكورة هو معرفة ما إذا كان يجوز من الناحية الدستورية تجديد أو تمديد مدة ولاية رئيس الجمهورية بالاستناد إلى ظروف استثنائية أو غير عادية قد توجب هذا الأمر منعا للوقوع في فراغ دستوري أو لمواجهة وضع خطير يهدد الأمة جمعاء والمصالح العليا للوطن، ما لم يوضحه نص المادة 49 من الدستور رغم صراحته المعروفة.
وكذلك الأمر، على سبيل المثال أيضا، بالنسبة للمادة 17 من شرعة حقوق الإنسان لعام 1789 التي تنص على ان " لا يجوز حرمان أحد من حق الملكية أو نزع ملكيته إلا للحاجة العامة وشرط أن يدفع له تعويضا مسبقا وعادلا". تعتبر أحكام هذه المادة صريحة وواضحة للغاية، ولكنها لا تبيّن مقدار ولا مفهوم التعويض العادل. ولهذا فان نصها يكون عرضة للتفسير وللتقدير رغم صراحته.
ولاعتقاد السيد حبيب بعدم جدوى تفسير النصوص وشرحها عندما تكون واضحة، وقع في خطأ فادح بعدم تمكّنه من ثبر غور نص المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري وبرهن على انه لم يدقق بما فيه الكفاية في أحكامها التي يعتبرها جد صريحة وواضحة، وخصوصا عندما أكّد ان هذه المادة " تجيب بصورة صريحة لا لبس فيها عن السؤال الأول أي عن السؤال المتعلق بإمكانية التجديد أو التمديد لأعضاء المجلس الدستوري". وتعود هذه المغالطة إلى الأسباب التالية:
1- إذا كانت المادة الرابعة المذكورة أعلاه تنص على أن مدة أعضاء المجلس الدستوري غير قابلة للتجديد، فهي لا تذكر في المقابل البتة مسألة كيفية مواجهة الظروف الاستثنائية والقاهرة وما إذا كان يجوز التجديد في هذه الحالات لأعضاء المجلس الدستوري المنتهية مدة ولايتهم بهدف مواجهة هذه الأوضاع الاستثنائية. كما أن المادة ذاتها لا تشير إلى مسألة التمديد لأعضاء المجلس الدستوري الذين انتهت مدة ولايتهم. لهذا، ومن جهة أولى، كان يجب تفسير نصها وشرحه لمعرفة ما إذا كان يجوز التجديد لأعضاء المجلس الدستوري بالاستناد إلى الظروف الاستثنائية أو التمديد لهؤلاء الأعضاء. وعليه، كان يقتضي التفريق بين مفهومي التجديد والتمديد وعدم الخلط بينهما. ولكن، وعلى عكس ذلك، وبتحليل بسيط وسطحي، اعتبر السيد حبيب ان هذه المسألة لا تستأهل عناء الدرس والبحث كونه يخلط بين مسألتي التجديد والتمديد لأعضاء المجلس الدستوري وكونه يعتبر ان النص الصريح لا يكون بحاجة إلى تفسير أو نقاش، مما ينم عن جهل كبير لآليات تطبيق القوانين الأساسية.
2- إن السيد حبيب وعلى أساس من النية السيئة والتجريح، وبعد أن اجتزأ مواقفي القانونية وشوّهها، لم يتطرق للمسألة الأساسية التي ناقشتها في مقالي والتي تتعلق بتركيبة المجلس الدستوري الحالية التي تضم خمسة أعضاء لم تنته مدة ولايتهم بعد وخمسة أعضاء آخرين انتهت مدة ولايتهم منذ حوالي السنتين وما زالوا يمارسون وظائفهم، وتم تعيين ثلاثة أعضاء من مجلس النواب منذ أشهر ولم يحلفوا اليمين القانونية ولم يقوموا بأية مهمة قانونية أو دستورية حتى الآن. والمشكلة التي تطرح والحالة هذه والتي عالجتها في مقالي تتعلق بإمكانية النظر في الطعون الانتخابية من قبل مجلس دستوري ينقص تركيبته تعيين عضوين فيه بقرار من مجلس الوزراء مكان العضوين المنتهية مدتهما. وبتعيين مجلس النواب لثلاثة أعضاء في المجلس الدستوري، فان المجلس المذكور أصبح يتألف من ثلاثة عشر عضوا بدل العشرة أعضاء كون الأعضاء الثلاثة المنتهية مدتهم ما زالوا يقومون بوظائفهم ويتقاضون رواتبهم، مما يناقض قانون المجلس الدستوري الذي يحدد مدة العضوية بست سنوات.
وبإزاء هذا الوضع، يكون من الواجب مناقشة وتفسير المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري، فيما يتعلّق بهذه المسائل التي لا تعطي حلولا لها. وعلى هذه الخلفية يطرح السؤال حول مدى شرعية ودستورية العمل الذي يقوم به عضو المجلس الدستوري الذي انتهت مدة ولايته منذ حوالي السنتين. فصحيح ان المادة الرابعة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري الصادر بالقانون الرقم 243 بتاريخ 7 آب سنة 2000 تنص صراحة على أنه " عند انتهاء الولاية، يستمر الأعضاء الذين انتهت ولايتهم في ممارسة أعمالهم إلى حين تعيين بدلاء عنهم وحلفهم اليمين"، لكنها، وعلى رغم صراحة أحكامها لا تحدد الفترة التي يمكن أن يستمر خلالها عمل عضو المجلس الدستوري المنتهية مدته. فهل يمكن ان يستمر هذا العضو في القيام بوظائفه خلال مدة سنتين أو إلى ما شاء الله؟ وهل يجوز اعتبار استمراره في عمله طوال هذه المدة الطويلة كتمديد ضمني لفترة ولايته أو كتجديد لها في حال ناهزت الست سنوات ( أي المدة الأساسية والقانونية لأعضاء المجلس الدستوري)؟
للجواب على هذه الأسئلة كان يقتضي تفسير نص المادة الرابعة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري والوقوف على نية المشترع الذي وضع هذا النص والعودة إلى الأعمال التحضيرية للقانون الذي وردت فيه ( قانون رقم 243 ) وللمناقشات النيابية. وبالتأسيس على كل هذه العناصر وعلى عملية التفسير التي يقوم بها رجل القانون، أمكن القول أن استمرار عضو المجلس الدستوري المنتهية مدة ولايته في القيام بوظائفه طوال فترة سنتين بعد انتهائها يعد أمرا شاذا ومخالفا للقانون وللنظام الداخلي للمجلس الدستوري لأن المشترع قصد من خلال المادة الرابعة من النظام المذكور التي تنص على إمكانية أن يستمر العضو المنتهية مدة ولايته في ممارسة أعماله، أن تكون الفترة المضافة على مدة العضو الذي انتهت ولايته هي الفترة الضرورية التي يمكن خلالها تعيين العضو البديل من قبل السلطة المختصة وحلفه اليمين القانونية، ما يمكن تحقيقه في فترة زمنية جد وجيزة. ولكن، وبما ان الحاجة تقضي بتجنّب أي فراغ دستوري وذلك بهدف تأمين استمرارية العمل في المؤسسات الدستورية، أيدنا فكرة تقديم الطعون الانتخابية أمام المجلس الدستوري وان كانت مدة عدد من أعضائه منتهية. ومن هنا كان السؤال الذي طرحته حول دستورية النظر في الطعون الانتخابية من قبل مجلس دستوري مؤلف خلافا للقانون الذي أنشأه بتاريخ 14 تموز سنة 1993 ( القانون الرقم 250 ).
ثانيا: بالنسبة للانتقاد المتعلق بقولي أن الآلية المعتمدة في تأليف المجلس الدستوري الفرنسي لا تؤمّن استقلال هذا المجلس بالشكل الفعّال المطلوب.
تتمحور انتقادات السيد حبيب لمقالي على هذا الصعيد حول نقطتين أساسيتين، إذ أنه من جهة يعتقد بتحليله البسيط والسطحي أني " أخلط بين النظام العادي لتعيين أعضاء المجلس الدستوري الفرنسي ونظام التعيين الاستثنائي الذي اعتمد لتأليف هيئة لهذا المجلس"، ويدّعي من جهة أخرى أني " أجهل جهلا مطبقا لاجتهاد المجلس الدستوري" لقولي أن آلية تعيين قضاة المجلس الدستوري في فرنسا لا تؤمّن هي أيضا استقلالية هذا المجلس عن السلطة السياسية بالشكل الفعّال والمطلوب.
يبدو من خلال هذا الكلام أن من تنطبق عليه صفة الجهل العلمي بامتياز هو طبعا السيد حبيب بالنظر إلى عدم تمكّنه من القيام بقراءة صحيحة وموضوعية لنص قانوني أو لمقال قانوني وبالنظر إلى أن انتقاداته الموجهة إلى كتاباتي تقوم أساسا وأولا على عامل الحقد والحسد والغرور بالنفس ولا تندرج في أي إطار علمي أو فكري بنّاء.
فالبنسبة إلى النقطة الأولى، يقول المسمي نفسه " بحنا حبيب" أني في معرض شرحي لآلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري في لبنان وفرنسا كتبت ما حرفيته " يعتمد مبدأ التجديد الدوري الجزئي في لبنان وفرنسا حيث يتم التجديد الدوري كل ثلاث سنوات. ففي فرنسا يعيّن ثلاثة قضاة لثلاث سنوات وثلاثة لست سنوات وثلاثة لتسع سنوات"، واعتبر نتيجة لذلك، وبفكره المحدود، أني أخلط بين النظام العادي والنظام الاستثنائي لتعيين أعضاء المجلس الدستوري.
يبدو السيد حبيب الذي يصف نفسه بالباحث الدستوري بعيدا كل البعد عن الأبحاث والتحاليل القانونية والدستورية ويظهر من خلال ادعاءاته أنه متخصص في علم " اجتزاء الأقوال وتحريفها" عن سوء نية. فهو عمل على إخفاء ما كتبت وبكل صراحة في الصفحتين الأولى والرابعة من مقالي حيث أشرت صراحة إلى " أن المجلس الدستوري اللبناني يتألف، بموجب القانون الرقم 250 المذكور آنفا، من عشرة أعضاء يعيّن نصفهم مجلس النواب ويعيّن النصف الآخر مجلس الوزراء لمدة ست سنوات غير قابلة للتجديد". كما أنه تغاضى بسوء نية ظاهرة عن ما جاء في مقالي في الصفحة الثالثة منه حيث ميّزت بكل وضوح بين آلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري وعملية التجديد الدوري الجزئي للمجلس المذكور بما حرفيته : " إن هذه الآلية المعتمدة في تعيين أعضاء المجلس الدستوري في فرنسا قد تحد من استقلال هذا المجلس، ولكن ليس بشكل خطر ومستمر، وهذا لأن مدة العضو في المجلس المذكور هي تسع سنوات ( م 56 من الدستور) حيث يعتمد أسلوب التجديد الدوري الجزئي وذلك حرصا على مبدأ استمرارية العمل إذ لا يجوز انتهاء ولاية الأعضاء دفعة واحدة في الوقت ذاته... ويعتمد مبدأ التجديد الدوري في لبنان وفرنسا حيث يتم التجديد الدوري الجزئي كل ثلاث سنوات. ففي فرنسا يعيّن ثلاثة قضاة لثلاثة سنوات، وثلاثة لست سنوات، وثلاثة لتسع سنوات. وبهذا فان تغيير الغالبية الحاكمة قد يأتي بأعضاء جدد إلى المجلس الدستوري غير معينين من الغالبية السابقة التي أصبحت وقت التعيين الجديد في موقع المعارضة. وهذا يؤدي إلى عدم انتماء كل أعضاء المجلس الدستوري إلى لون سياسي واحد والى استقلالية أكبر في قرارات هذا المجلس...".
ويتأكد من خلال هذه المقاطع التي وردت في مقالي بصورة لا تترك أي مجال للشك أني لم اخلط بين مدة أعضاء المجلس الدستوري العادية وهي ست سنوات في لبنان وتسع سنوات في فرنسا وبين مبدأ التجديد الدوري الجزئي للمجلس الدستوري. والتجديد الدوري الجزئي، الذي يعتمد في لبنان وفي فرنسا، يعني أن أعضاء المجلس الدستوري لا تنتهي مدة ولايتهم في وقت واحد، وهذا يعود إلى انه في فرنسا مثلا تم بداية تعيين ثلاث قضاة لمدة ثلاث سنوات، وثلاثة قضاة لست سنوات، وثلاثة قضاة لتسع سنوات. وبهذا فان المجلس الدستوري يتجدد جزئيا كل ثلاث سنوات، إذ أن الأعضاء الذين عيّنوا لثلاثة سنوات يستبدلون عند انتهاء مدة ولايتهم بأعضاء لمدة تسع سنوات في وقت لم تنته فيه بعد مدة ولاية الذين عينوا لمدة ست سنوات وتسع سنوات وذلك إلى أن تنتهي مدة ولاية القضاة الذين عيّنوا لمدة ست سنوات وتسع سنوات حيث يتم تعيين بدلاء لهم عند انتهاء مدة ولايتهم، مما يؤدّي إلى إدخال أعضاء جدد إلى المجلس الدستوري كل فترة ثلاث سنوات غير محسوبين على الغالبية السياسية نفسها التي عيّنت الأعضاء السابقين والذين لم تنه مدة ولايتهم بعد. والهدف من هذه الآلية هو منع انتهاء مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري دفعة واحدة وتأمين قاعدة استمرارية العمل في المؤسسات الدستورية، وهذا ما حاولنا شرحه في مقالنا الذي هاجمه السيد حبيب بمنطق العنف الفكري والانحطاط العلمي.
ويتأكد من خلال أقوال السيد حبيب لهذه الناحية انه، ونظرا إلى تحليله السطحي، عاجز عن فهم معنى التجديد الدوري الجزئي للمجلس الدستوري ويخلط بينه وبين المدة العادية والقانونية لأعضاء المجلس الدستوري. ولهذا، وبالنظر إلى مقدّراته الفكرية الضعيفة في الحقل الدستوري، لم يستوعب شرح مسألة التمييز بين طريقة تعيين أعضاء المجلس الدستوري ومدة ولايتهم وبين آلية التجديد الدوري الجزئي للمجلس الدستوري وليس لأعضاء هذا المجلس.
على صعيد آخر، وفي ما خص اعتباري أن آلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري لا تؤمّن هي أيضا استقلال هذا المجلس بالشكل الفعّال المطلوب يقول السيد حبيب إن هذا " الاستنتاج يدل عن جهل مطبق لاجتهاد المجلس الدستوري الفرنسي، فأي باحث في القانون الدستوري يجهل أن أشهر قرارات المجلس الدستوري هي تلك التي صدرت أيام كان جميع أعضاء هذا المجلس معيّنين من قبل رجالات اليمين الفرنسي أي قبل وصول الحزب الاشتراكي إلى الحكم سنة 1981...". ثم يضيف " إن مقولة صاحب المقال تشكّل إهانة لأعضاء المجلس الدستوري لكونها تؤكّد خلافا للحقيقة، بأن هؤلاء القضاة ليسوا إلا أداة طيعة في يد السلطة التي عينتهم ولا يمكنهم اتخاذ أي قرار قبل الرجوع إلى هذه السلطة".
إن هذه الافتراءات تستوجب منا الملاحظات التالية:
1- لم أشير في مقالي أبدا إلى أن قضاة المجلس الدستوري الفرنسي هم أداة طيعة في يد السلطة التي تعيّنهم أو أنهم لا يمكنهم اتخاذ أي قرار قبل الرجوع إليها. ما قلته هو الآتي: " إن الآلية المعتمدة في اختيار أعضاء المجلس الدستوري الفرنسي لا تؤمّن هي أيضا استقلال هذا المجلس بالشكل الفعّال المطلوب وذلك لسبب تعيين هؤلاء الأعضاء على يد سلطة سياسية وليس بقرار قضائي عن طريق الانتخاب أو المباراة أو الامتحان..." . وأضفت في هذا الخصوص، ما اجتزأه السيد حبيب لأسباب كيدية تتعلق بشخصيته المميزة، ما حرفيته " إن هذه الآلية المعتمدة في تعيين أعضاء المجلس الدستوري في فرنسا قد تحد من استقلال هذا المجلس، ولكن ليس بشكل خطر ومستمر، وهذا لأن مدة العضو في المجلس المذكور هي تسع سنوات حيث يعتمد أسلوب التجديد الدوري الجزئي....".
2- يعتبر السيد حبيب هذا الكلام إهانة للمجلس الدستوري، وكأنه يريد بعقليته المستبدة أن يمنع المفكرين القانونيين من إبداء آرائهم وذلك تحت طائلة ملاحقتهم بجريمة حرية التعبير، مما يدل على أن اتجاهاته الفكرية والعلمية تناقض فكرة حرية النقاش العلمي وحرية إبداء الآراء القانونية.
3- إن ما وجهّناه من نقد علمي لآلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري الفرنسي لا يضاهي الانتقادات اللاذعة والاتهامات بالانحياز وبعدم الحياد الموجهة إلى أعضاء المجلس الدستوري الفرنسي من قبل مرجعيات فرنسية، ونذكر على سبيل المثال الهجوم العنيف الذي تعرّض له عضو المجلس الدستوري بيار شاتينييه ( Pierre CHATENET) الذي كان معيّنا بقرار من سلطة اليمين وذلك من قبل مجموعة نواب الحزب الاشتراكي في الجمعية الوطنية ( تراجع في هذا الخصوص صحيفة Le Monde الفرنسية، تاريخ 21 كانون الثاني سنة 1976، ويراجع أيضا العلامة الدستوري جان جيكال الذي تطرق إلى هذه المسالة في مؤلفه : Jean GICQUEL : Droit constitutionnel et institutions politiques, 18e édition, Montchrestien, 2002, p. 717-718, note n° 8 ). ويذكر أيضا ان رئيس المجلس الدستوري السيد Roger FREY الذي كان معيّنا من قبل سلطة اليمين تعرّض هو أيضا للانتقاد اللاذع على يد نائب اشتراكي في الجمعية الوطنية في ما خص المناقشات التي كانت دائرة في الجمعية الوطنية حول موضوع التأميم بتاريخ تشرين الأول سنة 1981، ما حدا برئيس الجمهورية إلى التدخل لتذكير أعضاء المجلس الدستوري بواجب الحياد وعدم الانحياز ( يراجع في هذا الخصوص:
Jean GICQUEL : Droit constitutionnel et institutions politiques, 18 éd. Montchrestien, 2002, p. 717-718( .
تضاف إلى ذلك الانتقادات التي تساق ضد آلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري من قبل العديد من علماء القانون الدستوري في فرنسا ومنهم على سبيل المثال فافورو وغايا وجيفونتيان وماستر وبفرسمان ورو وسكوفوني ولافروف وغيرهم. فعلى سبيل المثال فان العالم الدستوري لافروف يوجّه النقد في مؤلفه عن القانون الدستوري إلى طريقة تعيين أعضاء المجلس الدستوري وخصوصا إلى عدم وضع المشترع أي معيار أو شرط يتعلق بالكفاءة العلمية من أجل اختيار أعضاء المجلس الدستوري، ويطرح السؤال لمعرفة ما إذا كان يمكن أن يتمتع المجلس الدستوري، رغم تركيبته السياسية، بصفة القضاء المستقل ويشير إلى أن أحزاب اليسار الفرنسي رفضوا وصف المجلس الدستوري بالقضاء المستقل وغير المتحيز خصوصا بعد إصداره في كانون الثاني سنة 1982 قرارا أعلن بموجبه بعض أحكام قانون التأميم غير متطابقة مع الدستور، كما أن الغالبية من أحزاب اليمين وجهت اتهامات الانحياز للمجلس الدستوري بعد إعلانه بعض أحكام قانون التأهيل مخالفة للدستور في سنة 1986 وبعد أن قضى أيضا بتاريخ 13 آب سنة 1993 بأن بعض أحكام قانون الهجرة مخالفة لنصوص الدستور المذكور:
« L’indépendance et le caractère juridictionnel du Conseil constitutionnel ont souvent été niés du fait de l’absence de compétence technique des membres du conseil constitutionnel, qui mettait en évidence le caractère politique de l’organisme. Il est de fait que, contrairement à beaucoup de cours constitutionnelles en fonction dans les démocraties européennes, la loi française n’impose pas la possession d’une compétence technique pour la nomination en qualité de membre du Conseil constitutionnel. Cette situation expliquait que l’on ait soutenu qu’un organe politique n’était pas digne de confiance… Ainsi, à titre d’exemple, on sait que les partis de gauche, qui avaient vanté l’action positive du Conseil constitutionnel depuis 1971, année de la célèbre décision sur la liberté d’association, lui ont nié tout caractère juridictionnel après la décision rendue au mois de janvier 1982 par laquelle il déclarait inconstitutionnelles certaines dispositions de la loi de nationalisations. Dans le même sens, des membres de la majorité de droite ont accusé le Conseil constitutionnel de partialité lorsqu’il déclara inconstitutionnelles certaines dispositions de la loi d’habilitation votée en 1986 et lorsqu’il a récemment sanctionné, dans sa décision du 13 août 1993, certaines dispositions de la loi relative au contrôle de l’immigration… » (Dmitri Georges LAVROFF : Le droit constitutionnel de la Ve République, 3ème édition, Précis Dalloz, 1999, n° 71, p. 145 et n° 72, p. 148).
وفي السياق عينه يمكننا أن نشير أيضا إلى الانتقادات التي وجهت إلى آلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري من قبل علماء القانون الدستوري فافورو وغايا وجيفونتيان وماستر وبفرسمان ورو وسكوفوني حيث أدلوا في هذا الخصوص بما حرفيته:
« Les trois autorités de nomination choisissent discrétionnairement les personnalités qu’elles souhaitent nommer sans consultation préalable et sans être astreintes à respecter telle ou telle condition. En pratique, et conformément au schéma général exposé plus haut, les autorités de nomination ont le plus souvent désigné des membres proches ou supposés proches de leurs sensibilités politiques … « ( Louis FAVOREU, Patrick GA?A, Richard GHEVONTIAN, Jean-Louis MESTRE, Otto PFERSMANN, André ROUX, Guy SCOFFONI : Droit constitutionnel , 5ème édition, Précis Dalloz, 2002, n° 394, p. 266).
4- بالنسبة إلى قول السيد حبيب اني " أجهل جهلا مطبقا لاجتهاد المجلس الدستوري، فأي باحث في القانون الدستوري يجهل ان اشهر قرارات المجلس الدستوري هي تلك التي صدرت أيام كان جميع أعضاء هذا المجلس معينين من قبل رجالات اليمين الفرنسي مثال ذلك القرار الصادر بتاريخ 16 تموز سنة 1971 المتعلق بحرية الجمعيات والقرار الصادر بتاريخ 12 كانون الثاني سنة 1977 المتعلق بمسالة تفتيش السيارات"، يهمنا أن نلفت نظر هذا الباحث " العبقري " إلى أن عبقريته الفذة أعمت بصيرته والى أن الحقد المصحوب بالحسد أفقده التركيز والتفكير السليم وقدرة الاستيعاب والتحليل فتوصل إلى هذه النتيجة السطحية التي مفادها أنه لا يمكن الشك بمدى نزاهة أو حياد المجلس الدستوري الفرنسي لصدور ثلاثة قرارات عنه تصب في مصلحة اليسار الفرنسي يوم كان مؤلفا بكامله من قبل سلطات اليمين، هذا مع العلم ان السيد حبيب يقع في خطأ فادح حين يقول ان القرار الصادر سنة 1982 عن المجلس الدستوري الفرنسي المؤلف من اليمين قضى بأن قانون التأميم متطابق مع الدستور. في الحقيقة ان المجلس الدستوري اعتبر ان العديد من أحكام هذا القانون الذي طرح من قبل غالبية اشتراكية مخالفة لأحكام الدستور.
إن تحليل السيد حبيب لا يقوم على أساس صحيح ومنطقي، إذ أنه لا يمكن الجزم باستقلالية المجلس الدستوري الذي يعين بكامل أعضائه من قبل السلطة السياسية لمجرد إصداره لثلاثة قرارات مهمة تصب في مصلحة اليسار أو في مصلحة اليمين.
وعلى هذا الصعيد، ينسى السيد حبيب الذي لم يطّلع بعد على آخر اجتهادات وقرارات المجلس الدستوري الفرنسي ان معظم القرارات التي صدرت عن هذا المجلس المعيّن منذ العام 2001 بغالبية أعضائه من قبل سلطات اليمين ( 6/9 ) هي قرارات تصب في مصلحة اليمين الحاكم، مما يعني أنها قرارات تخدم مصلحة السلطة المعيّنة والحاكمة في آن معا. فمنذ العام 2001، بعيد أحداث الحادي عشر من ايلول2001، صدرت في فرنسا في حقل الأصول والإجراءات الجزائية التي تحد، بصورة عامة ومبدئية من حريات الأشخاص، عدة قوانين لم يبطل منها المجلس الدستوري الفرنسي المعيّن بغالبية أعضائه من قبل اليمين إلا بعض الأحكام القليلة واعتبرت كلها متوافقة مع أحكام الدستور رغم تعرّضها للحريات الفردية ورغم تضييقها على حرية التنقل وتوسيعها لسلطات الضابطة العدلية وسماحها بتفتيش السيارات المتوقفة على الطرقات دون أي دليل جرمي ورغم كذلك مخالفتها لبعض القواعد الدستورية الأساسية. ومن هذه القوانين نذكر: القانون رقم 2001 / 1062 الصادر بتاريخ 15 تشرين الثاني سنة 2001 والمتعلق بالأمن اليومي، القانون رقم 2002 / 307 الصادر بتاريخ 4 آذار سنة 2002 والذي عدّل القانون رقم 200/ 516 المتعلق بتدعيم قرينة البراءة ( ويهدف هذا التعديل إلى الحد من هذا المبدأ)، القانون رقم 2002 / 1138 الصادر بتاريخ 9 أيلول سنة 2002 والذي يعدّل العديد من أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية وينشئ بما يسمى " بالقضاء القريب"، القانون رقم 2003 / 239 الصادر بتاريخ 18 آذار سنة 2003 المتعلق بالأمن الداخلي والذي يضيّق على حرية الأفراد، القانون رقم 2004 / 204 الصادر بتاريخ 9 آذار سنة 2004 والمتعلق بتكييف أصول العدالة مع تطور الإجرام والذي يعدّل معظم نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية ويطيل فترة الاحتجاز ويجيز التفتيش في حالات لم يكن مسموح بها من قبل وينشئ الإجراء الذي يجيز للنيابة العامة أن تطبق عقوبة على الشخص الملاحق دون إحالته على قضاء الحكم في حال اعترف بمسؤوليته وقبل أن ينفّذ العقوبة المذكورة بحضور محام، وهذا يؤلّف مخالفة لقاعدة فصل المهمات القضائية ولقاعدة الحياد والنزاهة، إذ لا يجوز للنيابة العامة التي تعتبر طرفا في الدعوى العامة وخصما أن تقضي بعقوبة ضد الشخص الملاحق بجريمة ما. وكانت قد صدرت عدة قرارات عن المجلس الدستوري بخصوص هذه القوانين التي تم الطعن بدستوريتها. لكن المجلس الدستوري لم يبطلها. وقد وجهت في هذا الخصوص العديد من الانتقادات اللاذعة إلى المجلس الدستوري بخصوص القرار الصادر عنه بتاريخ 4 آذار سنة 2004 والمتعلق بالقانون رقم 2004/204 ( Loi Perben II ) وخصوصا لناحية أن المجلس الدستوري أخذ في الاعتبار خطورة الأفعال الجرمية المرتكبة دون أن يعير مبدأ تناسب الإجراء الجزائي المتخذ مع خطورة الجريمة أي اهتمام رغم أنه يحد من حريات الأفراد ( وهو مبدأ دستوري)، كما انه أهمل مسألة تناقض الإجراءات الجزائية التي يقرها قانون Perben II مع المبادئ الأساسية التي تحمي الحريات الفردية. كذلك الأمر بالنسبة لقرار المجلس الدستوري المتعلق بدستورية قانون ضبط الأمن الداخلي والهجرة الأجنبية والحد منها ( قرار رقم 484 DC تاريخ 20 تشرين الثاني سنة 2003 ) حيث لم يبطل المجلس الدستوري الأحكام التي تضيّق على الحريات والتي تحد من إقامة الأجانب في فرنسا خلافا للدستور ولأحكام الاتفاق الأوروبي المعني بحماية حقوق الإنسان. كما ان المجلس الدستوري الفرنسي لم يبطل أحكام القانون رقم 2001 / 1062 الصادر بتاريخ 15 تشرين الثاني سنة 2001 والمتعلق بالأمن اليومي والذي صدر بعد أحداث الحادي عشر من أيلول وهذا رغم أن أحكامه تضيّق جدا على الحريات الفردية وتناقض أحكام الدستور. أضف إلى ذلك قرار المجلس الدستوري الفرنسي الرقم 461 DC الصادر بتاريخ 29 آب سنة 2002 والذي لم يبطل أحكام القانون المتعلق بتوجيه وتنظيم العدالة وذلك رغم تناقض بعض أحكامه مع نصوص الدستور.
وبناء على كل ما تقدّم، نترك للقارئ المتخصص وحده ان يقرر على من تنطبق صفة الجهل المطبق لاجتهاد المجلس الدستوري ولكل قواعد القانون الدستوري.
ثالثا: بالنسبة للقول بأني " أعطيت الإيحاء للمرشحين الخاسرين بأنه يمكنهم الطعن بدستورية قانون الانتخاب لعام 2000 في معرض طعنهم بصحة نيابة منافسهم".
لو أن السيد حبيب يجيد قراءة القانون والدراسات القانونية لكان وفّر على نفسه عناء الكتابة والتفلسف الرخيص. فهو يريد أن يعطي الإيحاء للقراء، ولغاية في نفس يعقوب، بأني لا أتمتع بالكفاءة اللازمة في مادة القانون الدستوري، مما يدل على ان مقاله يقوم على أسس التجريح والقدح والذم.
وفي هذا الخصوص يكفي أن يدقق المسمى " بحنا حبيب" في مقالي ليتحقق أن عنوانه هو التالي: " هل يحق للمجلس الدستوري المنتهية مدة عدد من أعضائه النظر في الطعون التي قد تقدم أمامه بنتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة؟".
ان هذا العنوان يشير بكل وضوح إلى أن موضوع المقال يتعلق بالطعون الانتخابية وليس بامكان النظر في دستورية قانون الانتخاب لعام 2000 . وهذا ما أكّدت عليه في نهاية المقال حيث جاء ما حرفيته : " عملا بقاعدة ضرورة تأمين استمرارية العمل في المؤسسات الدستورية يحق للمجلس الدستوري بتركيبته الحالية أن ينظر في الطعون المقدمة أمامه ببعض المخالفات الانتخابية".
أما في ما خص قانون الانتخاب لعام 2000 فقلت في مقالي أنه بالتأسيس على مخالفة هذا القانون لقاعدة العيش المشترك وعلى مخالفات انتخابية قد يتقدّم بعضهم بطعون أمام المجلس الدستوري. وهذا لا يعني طبعا، كما فسّر السيد حبيب بمنطقه السطحي، أني سلّمت بأمكانية الطعن بدستورية قانون الانتخاب لعام 2000، إذ أن هذا القانون وان كان غير دستوري لا يجوز الطعن بدستوريته بعد مرور مهلة خمسة عشر يوما على نشره في الجريدة الرسمية أو في إحدى وسائل النشر الرسمية الأخرى المعتمدة قانونا وذلك عملا بأحكام المادة 19 من قانون إنشاء المجلس الدستوري.
وينهي السيد حبيب بقوله أنه " يكتفي بهذا القدر من المغالطات راجيا من صاحب المقال أن يقرأ قبل أن يكتب وذلك احتراما لرجال القانون لأن في لبنان العديد من القانونيين الذين يعلمون ان المقالات القانونية تقيّم بمضمونها وليس بتخمة الإطناب ولا بغزارة المراجع الأجنبية".
ردا على هذا القول الذي ينم عن حقد شخصي وعن حسد أعمى، وبالتساؤل عن المغالطات الأخرى المزعومة التي لم يفندها السيد حبيب طبعا لأنها ليست موجودة إلا في مخيلته الواسعة، وبعد أن بيّنا للقارئ العزيز مدى المستوى الفكري الذي يتمتع به المسمي نفسه جبانة « بحنا حبيب"، نقول لهذا الخائف:
إذا أتتني مذمتي من ناقص فهذه دلالة على إنني كامل
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
بتاريخ 8 تموز سنة 2005 نشر موقع التيار الوطني الحر مقالا للمدعو حنا حبيب تحت عنوان " رحمة بالقانون وبرجال القانون اقرأوا قبل أن تكتبوا"، وقد تم نشر هذا المقال " عملا بحق الرد" على مقالي الذي نشر نقلا عن صحيفة النهار على الموقع ذاته بتاريخ 25 حزيران الماضي والمتعلق " بإمكانية الطعن بنتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة أمام مجلس دستوري منتهية مدة عدد من أعضائه".
إن مقال المدعو حنا حبيب يستدعي بعض الملاحظات الأولية قبل أن نرد لناحية الأساس على ما جاء في متنه من مغالطات قانونية ومن تشويه للحقائق وللمواقف القانونية التي أدليت بها في مقالي. وهذه الملاحظات هي التالية:
1- لا يندرج مقال المدعو حبيب ضمن " حق الرد"، وهذا لأن مقالي الذي نشر على موقع التيار الوطني الحر لا يتناول السيد حبيب أو " عبقريته" أو أبحاثه الدستورية المزعومة لا من قريب ولا من بعيد. فأنا لم أسمع قبل اليوم قط باسم السيد حبيب، ما اعتبره خسارة علمية فادحة لأستاذ جامعي مثلي لم يغرف إلا متأخرا من مناهل تعاليم وفقه السيد حبيب في حقل القانون الدستوري.
2- إن السيد حبيب الذي قدّم نفسه على أساس انه " باحث في القانون الدستوري" لم يحدّد وللأسف للقرّاء الكرام الجامعة أو مراكز الأبحاث العالمية أو اللبنانية التي أغناها بفكره النيّر وبدراساته المشهورة ولم يفصح عن مكانته القانونية العالية وعن طبيعة الشهادات العلمية التي يحملها في هذا المجال.
3- إن عبارات التجريح والتهجّم والقدح والذم التي ساقاها السيد حبيب ضد شخصي في مقاله دون أي سبب موجب تدل على أنه صاحب خلفيات مبيّتة وسيئة.
4- يقول السيد حبيب أنه أراد كتابة مقاله " رغبة بالنقاش القانوني العلمي"، لكن عبارات القدح والذم والتحقير التي استعملها تدل بوضوح على أنه خرج على نطاق النقاش العلمي وانحدر إلى هذا الدرك من المستوى الفكري والأخلاقي وخصوصا أنه لم يدلِ بأي حجج قانونية أو دستورية مقنعة، وهذا ما سنظهره لاحقا.
5 - بإزاء عبارات القدح والذم والتحقير التي وجّهها السيد حبيب إلى شخصي احتفظ بحقي الشخصي بإقامة دعوى جزائية بجريمتي القدح والذم أمام القضاء المختص ضده وضد كل من سهّل أو حرّض على كتابة ونشر مقاله وضد كل من يظهره التحقيق فاعلا أو شريكا أو محرّضا.
6 – ان اسم حنا حبيب لا يوجد إلا في مخيّلة صاحب المقال، مما يدل على ان هذا الأخير أراد إخفاء هويته الحقيقية لعدم ثقته بنفسه ولأنه يعلم يقين العلم إن ما كتبه لا يتطابق مع الحقيقة ويهدف إلى الإساءة إلى شخصي.
أما بالنسبة لما قدّمه السيد حبيب من انتقادات غير علمية لما كتبته في مقالي عن المجلس الدستوري، فكنا لا نود الرد عليها والدخول في متاهاتها لأنها لا تستأهل حقيقة الرد ولا حتى النقاش العلمي ولأنها مجرّدة من كل منطق أو حث قانوني وقائمة فقط على هاجس الانتقام والتهجّم المندفع بعامل الحسد. ولكن احتراما منا للقراء الكرام وإظهارا منا لحقائق الأمور سنناقش ما اعتبره السيد حبيب انتقادا علميا.
نفهم من الانتقادات التي وجهها السيد حبيب أنه يعتبر أن السؤالين المطروحين في مقالي عن إمكانية تجديد أو تمديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري وعن إمكانية أن ينظر المجلس الدستوري المنتهية مدة عدد من أعضائه في الطعون النيابية التي ستقدم أمامه لا يستدعيان " هذا البذخ الفكري المجاني". كما أنه يعتبر أني ارتكبت " لأخطاء علمية لا يمكن لأحد أن يجاريني فيها "، وهي أخطاء " من الفئة الثانية" ذكر منها " على سبيل المثال، كما يقول، وليس على سبيل الحصر المغالطات التالية" : مغالطة متعلقة بآلية تعيين قضاة المجلس الدستوري، المغالطة الناتجة عن قولي أن الآلية المعتمدة في اختيار أعضاء المجلس الدستوري الفرنسي لا تؤمّن استقلال هذا المجلس بالشكل الفعّال المطلوب، والمغالطة الناتجة عن إعطائي الإيحاء للمرشحين الخاسرين أن بامكانهم الطعن بدستورية قانون الانتخاب لعام 2000 .
أولا : بالنسبة للانتقاد المتعلق بمعالجتي لمسألتي التجديد أو التمديد لأعضاء المجلس الدستوري المنتهية مدة ولايتهم ولإمكانية أن ينظر المجلس المذكور في الطعون الانتخابية .
يقول السيد حبيب في هذا الخصوص ما حرفيته " من الغرابة بمكان أن يصر صاحب المقال على تقديم الحجج والبراهين المدعومة بمراجع فرنسية من أجل إثبات ما هو ليس بحاجة إلى إثبات ولا يستدعي بالتالي هذا البذخ الفكري المجّاني. فعلى السؤال الأول تجيب المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري الصادر في 14 تموز سنة 1993 بصورة صريحة لا لبس فيها بأن مدة أعضاء المجلس الدستوري ست سنوات، غير قابلة للتجديد. وعلى السؤال الثاني تجيب المادة الرابعة من نظام المجلس الدستوري بشكل ولا أوضح حين تنص: عند انتهاء الولاية، يستمر الأعضاء الذين انتهت ولايتهم في ممارسة أعمالهم إلى حين تعيين بدلاء لهم وحلفهم اليمين".
في الحقيقة، يُظهر هذا القول مدى سطحية التعليل الذي يقدّمه السيد حبيب دعما لفكرته ويُثبت أنه عندما صاغ هذه السطور أراد أن يكتب بكيدية وليس بهدف التحليل العلمي والقانوني البنّاء. فإذا كان الجواب على هذين السؤالين القانونيين لا يستوجب عناء البحث والنقاش، كما يقول، فلماذا عولجت هذه المسائل الدستورية من قبل جهابذة القانون الدستوري في لبنان ابتداء من الدكتور أدمون نعيم مرورا بالدكتور حسن الرفاعي ووصولا إلى الأستاذ مخايل الضاهر؟ ولماذا تهافتت وسائل الإعلام إلى مكاتب هؤلاء الأساتذة الكبار بحثا عن حلول قانونية ودستورية لهذه هذه المسائل؟ ولماذا كتبت ونشرت العديد من المقالات في صحيفة النهار وغيرها بخصوص هاتين المسألتين على يد رجال قانون متخصصين ويشهد لهم بأهليتهم وخبرتهم العالية؟ وهل يعتبر السيد حبيب طرح هاتين القضيتين الدستوريتين على بساط البحث من قبل كبار رجال القانون في فرنسا كجيكال وبوردو وفيدال وغيرهم " بذخا فكريا مجانيا"؟
على السيد حبيب أن يعلم ان النص القانوني أو الدستوري وان كان بظاهره صريحا يقتضي أحيانا تفسيره لأنه قد يحمل في أحكامه معان قانونية عدة مختلفة أو متناقضة وقد يطرح عدة مشاكل قانونية، وهو بذلك قد يتعرّض لكثير من التأويل والشرح والتحليل. ومن هذا المنطلق، فان النص الدستوري وان بدا لبعض غير المتعمّقين في العلوم القانونية كالسيد حبيب غير غامض يقتضي تفسيره وشرحه للتمكن من إيجاد الحلول المناسبة للمشاكل الدستورية المطروحة، وإلا انتفت الحاجة لفقه رجال القانون وللنظريات والأبحاث القانونية ولاجتهادات المحاكم ووزعت العدالة على الناس بواسطة ماكينات نقّالة.
وبهذا لا يمكن أن تعتبر صراحة النص كافية بحد ذاتها لإيجاد حلول معيّنة، إذ أن النصوص تكون بحاجة إلى تفسير وشرح من قبل رجال القانون وأحيانا من خلال العودة إلى نية المشترع الحقيقية والاستعانة بالأعمال التحضيرية للقوانين وبالمناقشات البرلمانية. وهذا ما يؤكّد عليه علماء القانون الدستوري في فرنسا بقولهم:
« Le travail du juriste est principalement un travail d’interprétation et d’argumentation. La formalisation écrite de la constitution produit inévitablement un problème de détermination du sens du texte… Les juristes ont en effet principalement affaire à des textes, c’est-à-dire à des formulations écrites de normes et la science juridique consiste à montrer ce qui est obligatoire, permis ou interdit (les normes) dans un système donné à partir des textes qui l’énoncent… » (Louis FAVOREU, Patrick GA?A, Richard GHEVONTIAN, Jean-Louis MESTRE, Otto PFERSMANN, André ROUX et Guy SCOFFONI : Droit constitutionnel, Précis Dalloz, 5ème édition, 2002, n° 121-122, p. 85-86).
وضرورة تفسير النص الدستوري رغم صراحته تؤلّف قاعدة أساسية لكبار رجال الفقه الدستوري في فرنسا ومنهم بيردو وآمون وتروبي الذين ثبّتوا هذه القاعدة على النحو التالي:
« Avant d’appliquer un texte juridique, quel qu’il soit, il faut en déterminer la signification. La signification d’un texte juridique, en effet, c’est ce que ce texte ordonne ou permet, c’est la norme qu’il exprime. En d’autres termes, selon le sens qu’on lui attribue, le texte ordonne tel comportement ou tel autre. On a affirmé parfois que l’interprétation n’est nécessaire que lorsque le texte est obscur et que, par contre, elle est superflue lorsque le texte est clair, ce que l’on exprime par l’adage in claris cessat interpretatio. Cette thèse aboutit en réalité à un paradoxe, car pour pouvoir affirmer que le texte est clair et qu’il n’y a pas lieu de l’interpréter, il faut savoir quelle est sa signification, c’est-à-dire qu’il faut l’avoir interprété » ( Francis HAMON, Michel TROPER, Georges BURDEAU : Droit constitutionnel, 27ème édition, L.G.D.J., 2001, p. 55).
وللدلالة على صحة هذا الموقف يكفي أن نشير، على سبيل المثال، إلى المادة 49 من الدستور اللبناني التي تنص على أن مدة رئيس الجمهورية ست سنوات ولا تجوز إعادة انتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته. فنص هذه المادة يعتبر صريحا وواضحا بأحكامه التي لا تجيز مبدئيا تمديد ولا تجديد مدة ولاية رئيس الجمهورية. ولكن، رغم صراحة هذا النص، طَرحت مسألة إمكانية تجديد أو تمديد مدة ولاية رئيس الجمهورية على بساط البحث من قبل العديد من رجال القانون الدستوري في لبنان وقدّمت العشرات من الدراسات القانونية في هذا الخصوص حين بدأ التداول في مسألة بقاء الرئيس لحود في سدة رئاسة الجمهورية. وكان الهدف من المناقشات والتفسيرات والتحليلات القانونية المذكورة هو معرفة ما إذا كان يجوز من الناحية الدستورية تجديد أو تمديد مدة ولاية رئيس الجمهورية بالاستناد إلى ظروف استثنائية أو غير عادية قد توجب هذا الأمر منعا للوقوع في فراغ دستوري أو لمواجهة وضع خطير يهدد الأمة جمعاء والمصالح العليا للوطن، ما لم يوضحه نص المادة 49 من الدستور رغم صراحته المعروفة.
وكذلك الأمر، على سبيل المثال أيضا، بالنسبة للمادة 17 من شرعة حقوق الإنسان لعام 1789 التي تنص على ان " لا يجوز حرمان أحد من حق الملكية أو نزع ملكيته إلا للحاجة العامة وشرط أن يدفع له تعويضا مسبقا وعادلا". تعتبر أحكام هذه المادة صريحة وواضحة للغاية، ولكنها لا تبيّن مقدار ولا مفهوم التعويض العادل. ولهذا فان نصها يكون عرضة للتفسير وللتقدير رغم صراحته.
ولاعتقاد السيد حبيب بعدم جدوى تفسير النصوص وشرحها عندما تكون واضحة، وقع في خطأ فادح بعدم تمكّنه من ثبر غور نص المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري وبرهن على انه لم يدقق بما فيه الكفاية في أحكامها التي يعتبرها جد صريحة وواضحة، وخصوصا عندما أكّد ان هذه المادة " تجيب بصورة صريحة لا لبس فيها عن السؤال الأول أي عن السؤال المتعلق بإمكانية التجديد أو التمديد لأعضاء المجلس الدستوري". وتعود هذه المغالطة إلى الأسباب التالية:
1- إذا كانت المادة الرابعة المذكورة أعلاه تنص على أن مدة أعضاء المجلس الدستوري غير قابلة للتجديد، فهي لا تذكر في المقابل البتة مسألة كيفية مواجهة الظروف الاستثنائية والقاهرة وما إذا كان يجوز التجديد في هذه الحالات لأعضاء المجلس الدستوري المنتهية مدة ولايتهم بهدف مواجهة هذه الأوضاع الاستثنائية. كما أن المادة ذاتها لا تشير إلى مسألة التمديد لأعضاء المجلس الدستوري الذين انتهت مدة ولايتهم. لهذا، ومن جهة أولى، كان يجب تفسير نصها وشرحه لمعرفة ما إذا كان يجوز التجديد لأعضاء المجلس الدستوري بالاستناد إلى الظروف الاستثنائية أو التمديد لهؤلاء الأعضاء. وعليه، كان يقتضي التفريق بين مفهومي التجديد والتمديد وعدم الخلط بينهما. ولكن، وعلى عكس ذلك، وبتحليل بسيط وسطحي، اعتبر السيد حبيب ان هذه المسألة لا تستأهل عناء الدرس والبحث كونه يخلط بين مسألتي التجديد والتمديد لأعضاء المجلس الدستوري وكونه يعتبر ان النص الصريح لا يكون بحاجة إلى تفسير أو نقاش، مما ينم عن جهل كبير لآليات تطبيق القوانين الأساسية.
2- إن السيد حبيب وعلى أساس من النية السيئة والتجريح، وبعد أن اجتزأ مواقفي القانونية وشوّهها، لم يتطرق للمسألة الأساسية التي ناقشتها في مقالي والتي تتعلق بتركيبة المجلس الدستوري الحالية التي تضم خمسة أعضاء لم تنته مدة ولايتهم بعد وخمسة أعضاء آخرين انتهت مدة ولايتهم منذ حوالي السنتين وما زالوا يمارسون وظائفهم، وتم تعيين ثلاثة أعضاء من مجلس النواب منذ أشهر ولم يحلفوا اليمين القانونية ولم يقوموا بأية مهمة قانونية أو دستورية حتى الآن. والمشكلة التي تطرح والحالة هذه والتي عالجتها في مقالي تتعلق بإمكانية النظر في الطعون الانتخابية من قبل مجلس دستوري ينقص تركيبته تعيين عضوين فيه بقرار من مجلس الوزراء مكان العضوين المنتهية مدتهما. وبتعيين مجلس النواب لثلاثة أعضاء في المجلس الدستوري، فان المجلس المذكور أصبح يتألف من ثلاثة عشر عضوا بدل العشرة أعضاء كون الأعضاء الثلاثة المنتهية مدتهم ما زالوا يقومون بوظائفهم ويتقاضون رواتبهم، مما يناقض قانون المجلس الدستوري الذي يحدد مدة العضوية بست سنوات.
وبإزاء هذا الوضع، يكون من الواجب مناقشة وتفسير المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري، فيما يتعلّق بهذه المسائل التي لا تعطي حلولا لها. وعلى هذه الخلفية يطرح السؤال حول مدى شرعية ودستورية العمل الذي يقوم به عضو المجلس الدستوري الذي انتهت مدة ولايته منذ حوالي السنتين. فصحيح ان المادة الرابعة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري الصادر بالقانون الرقم 243 بتاريخ 7 آب سنة 2000 تنص صراحة على أنه " عند انتهاء الولاية، يستمر الأعضاء الذين انتهت ولايتهم في ممارسة أعمالهم إلى حين تعيين بدلاء عنهم وحلفهم اليمين"، لكنها، وعلى رغم صراحة أحكامها لا تحدد الفترة التي يمكن أن يستمر خلالها عمل عضو المجلس الدستوري المنتهية مدته. فهل يمكن ان يستمر هذا العضو في القيام بوظائفه خلال مدة سنتين أو إلى ما شاء الله؟ وهل يجوز اعتبار استمراره في عمله طوال هذه المدة الطويلة كتمديد ضمني لفترة ولايته أو كتجديد لها في حال ناهزت الست سنوات ( أي المدة الأساسية والقانونية لأعضاء المجلس الدستوري)؟
للجواب على هذه الأسئلة كان يقتضي تفسير نص المادة الرابعة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري والوقوف على نية المشترع الذي وضع هذا النص والعودة إلى الأعمال التحضيرية للقانون الذي وردت فيه ( قانون رقم 243 ) وللمناقشات النيابية. وبالتأسيس على كل هذه العناصر وعلى عملية التفسير التي يقوم بها رجل القانون، أمكن القول أن استمرار عضو المجلس الدستوري المنتهية مدة ولايته في القيام بوظائفه طوال فترة سنتين بعد انتهائها يعد أمرا شاذا ومخالفا للقانون وللنظام الداخلي للمجلس الدستوري لأن المشترع قصد من خلال المادة الرابعة من النظام المذكور التي تنص على إمكانية أن يستمر العضو المنتهية مدة ولايته في ممارسة أعماله، أن تكون الفترة المضافة على مدة العضو الذي انتهت ولايته هي الفترة الضرورية التي يمكن خلالها تعيين العضو البديل من قبل السلطة المختصة وحلفه اليمين القانونية، ما يمكن تحقيقه في فترة زمنية جد وجيزة. ولكن، وبما ان الحاجة تقضي بتجنّب أي فراغ دستوري وذلك بهدف تأمين استمرارية العمل في المؤسسات الدستورية، أيدنا فكرة تقديم الطعون الانتخابية أمام المجلس الدستوري وان كانت مدة عدد من أعضائه منتهية. ومن هنا كان السؤال الذي طرحته حول دستورية النظر في الطعون الانتخابية من قبل مجلس دستوري مؤلف خلافا للقانون الذي أنشأه بتاريخ 14 تموز سنة 1993 ( القانون الرقم 250 ).
ثانيا: بالنسبة للانتقاد المتعلق بقولي أن الآلية المعتمدة في تأليف المجلس الدستوري الفرنسي لا تؤمّن استقلال هذا المجلس بالشكل الفعّال المطلوب.
تتمحور انتقادات السيد حبيب لمقالي على هذا الصعيد حول نقطتين أساسيتين، إذ أنه من جهة يعتقد بتحليله البسيط والسطحي أني " أخلط بين النظام العادي لتعيين أعضاء المجلس الدستوري الفرنسي ونظام التعيين الاستثنائي الذي اعتمد لتأليف هيئة لهذا المجلس"، ويدّعي من جهة أخرى أني " أجهل جهلا مطبقا لاجتهاد المجلس الدستوري" لقولي أن آلية تعيين قضاة المجلس الدستوري في فرنسا لا تؤمّن هي أيضا استقلالية هذا المجلس عن السلطة السياسية بالشكل الفعّال والمطلوب.
يبدو من خلال هذا الكلام أن من تنطبق عليه صفة الجهل العلمي بامتياز هو طبعا السيد حبيب بالنظر إلى عدم تمكّنه من القيام بقراءة صحيحة وموضوعية لنص قانوني أو لمقال قانوني وبالنظر إلى أن انتقاداته الموجهة إلى كتاباتي تقوم أساسا وأولا على عامل الحقد والحسد والغرور بالنفس ولا تندرج في أي إطار علمي أو فكري بنّاء.
فالبنسبة إلى النقطة الأولى، يقول المسمي نفسه " بحنا حبيب" أني في معرض شرحي لآلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري في لبنان وفرنسا كتبت ما حرفيته " يعتمد مبدأ التجديد الدوري الجزئي في لبنان وفرنسا حيث يتم التجديد الدوري كل ثلاث سنوات. ففي فرنسا يعيّن ثلاثة قضاة لثلاث سنوات وثلاثة لست سنوات وثلاثة لتسع سنوات"، واعتبر نتيجة لذلك، وبفكره المحدود، أني أخلط بين النظام العادي والنظام الاستثنائي لتعيين أعضاء المجلس الدستوري.
يبدو السيد حبيب الذي يصف نفسه بالباحث الدستوري بعيدا كل البعد عن الأبحاث والتحاليل القانونية والدستورية ويظهر من خلال ادعاءاته أنه متخصص في علم " اجتزاء الأقوال وتحريفها" عن سوء نية. فهو عمل على إخفاء ما كتبت وبكل صراحة في الصفحتين الأولى والرابعة من مقالي حيث أشرت صراحة إلى " أن المجلس الدستوري اللبناني يتألف، بموجب القانون الرقم 250 المذكور آنفا، من عشرة أعضاء يعيّن نصفهم مجلس النواب ويعيّن النصف الآخر مجلس الوزراء لمدة ست سنوات غير قابلة للتجديد". كما أنه تغاضى بسوء نية ظاهرة عن ما جاء في مقالي في الصفحة الثالثة منه حيث ميّزت بكل وضوح بين آلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري وعملية التجديد الدوري الجزئي للمجلس المذكور بما حرفيته : " إن هذه الآلية المعتمدة في تعيين أعضاء المجلس الدستوري في فرنسا قد تحد من استقلال هذا المجلس، ولكن ليس بشكل خطر ومستمر، وهذا لأن مدة العضو في المجلس المذكور هي تسع سنوات ( م 56 من الدستور) حيث يعتمد أسلوب التجديد الدوري الجزئي وذلك حرصا على مبدأ استمرارية العمل إذ لا يجوز انتهاء ولاية الأعضاء دفعة واحدة في الوقت ذاته... ويعتمد مبدأ التجديد الدوري في لبنان وفرنسا حيث يتم التجديد الدوري الجزئي كل ثلاث سنوات. ففي فرنسا يعيّن ثلاثة قضاة لثلاثة سنوات، وثلاثة لست سنوات، وثلاثة لتسع سنوات. وبهذا فان تغيير الغالبية الحاكمة قد يأتي بأعضاء جدد إلى المجلس الدستوري غير معينين من الغالبية السابقة التي أصبحت وقت التعيين الجديد في موقع المعارضة. وهذا يؤدي إلى عدم انتماء كل أعضاء المجلس الدستوري إلى لون سياسي واحد والى استقلالية أكبر في قرارات هذا المجلس...".
ويتأكد من خلال هذه المقاطع التي وردت في مقالي بصورة لا تترك أي مجال للشك أني لم اخلط بين مدة أعضاء المجلس الدستوري العادية وهي ست سنوات في لبنان وتسع سنوات في فرنسا وبين مبدأ التجديد الدوري الجزئي للمجلس الدستوري. والتجديد الدوري الجزئي، الذي يعتمد في لبنان وفي فرنسا، يعني أن أعضاء المجلس الدستوري لا تنتهي مدة ولايتهم في وقت واحد، وهذا يعود إلى انه في فرنسا مثلا تم بداية تعيين ثلاث قضاة لمدة ثلاث سنوات، وثلاثة قضاة لست سنوات، وثلاثة قضاة لتسع سنوات. وبهذا فان المجلس الدستوري يتجدد جزئيا كل ثلاث سنوات، إذ أن الأعضاء الذين عيّنوا لثلاثة سنوات يستبدلون عند انتهاء مدة ولايتهم بأعضاء لمدة تسع سنوات في وقت لم تنته فيه بعد مدة ولاية الذين عينوا لمدة ست سنوات وتسع سنوات وذلك إلى أن تنتهي مدة ولاية القضاة الذين عيّنوا لمدة ست سنوات وتسع سنوات حيث يتم تعيين بدلاء لهم عند انتهاء مدة ولايتهم، مما يؤدّي إلى إدخال أعضاء جدد إلى المجلس الدستوري كل فترة ثلاث سنوات غير محسوبين على الغالبية السياسية نفسها التي عيّنت الأعضاء السابقين والذين لم تنه مدة ولايتهم بعد. والهدف من هذه الآلية هو منع انتهاء مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري دفعة واحدة وتأمين قاعدة استمرارية العمل في المؤسسات الدستورية، وهذا ما حاولنا شرحه في مقالنا الذي هاجمه السيد حبيب بمنطق العنف الفكري والانحطاط العلمي.
ويتأكد من خلال أقوال السيد حبيب لهذه الناحية انه، ونظرا إلى تحليله السطحي، عاجز عن فهم معنى التجديد الدوري الجزئي للمجلس الدستوري ويخلط بينه وبين المدة العادية والقانونية لأعضاء المجلس الدستوري. ولهذا، وبالنظر إلى مقدّراته الفكرية الضعيفة في الحقل الدستوري، لم يستوعب شرح مسألة التمييز بين طريقة تعيين أعضاء المجلس الدستوري ومدة ولايتهم وبين آلية التجديد الدوري الجزئي للمجلس الدستوري وليس لأعضاء هذا المجلس.
على صعيد آخر، وفي ما خص اعتباري أن آلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري لا تؤمّن هي أيضا استقلال هذا المجلس بالشكل الفعّال المطلوب يقول السيد حبيب إن هذا " الاستنتاج يدل عن جهل مطبق لاجتهاد المجلس الدستوري الفرنسي، فأي باحث في القانون الدستوري يجهل أن أشهر قرارات المجلس الدستوري هي تلك التي صدرت أيام كان جميع أعضاء هذا المجلس معيّنين من قبل رجالات اليمين الفرنسي أي قبل وصول الحزب الاشتراكي إلى الحكم سنة 1981...". ثم يضيف " إن مقولة صاحب المقال تشكّل إهانة لأعضاء المجلس الدستوري لكونها تؤكّد خلافا للحقيقة، بأن هؤلاء القضاة ليسوا إلا أداة طيعة في يد السلطة التي عينتهم ولا يمكنهم اتخاذ أي قرار قبل الرجوع إلى هذه السلطة".
إن هذه الافتراءات تستوجب منا الملاحظات التالية:
1- لم أشير في مقالي أبدا إلى أن قضاة المجلس الدستوري الفرنسي هم أداة طيعة في يد السلطة التي تعيّنهم أو أنهم لا يمكنهم اتخاذ أي قرار قبل الرجوع إليها. ما قلته هو الآتي: " إن الآلية المعتمدة في اختيار أعضاء المجلس الدستوري الفرنسي لا تؤمّن هي أيضا استقلال هذا المجلس بالشكل الفعّال المطلوب وذلك لسبب تعيين هؤلاء الأعضاء على يد سلطة سياسية وليس بقرار قضائي عن طريق الانتخاب أو المباراة أو الامتحان..." . وأضفت في هذا الخصوص، ما اجتزأه السيد حبيب لأسباب كيدية تتعلق بشخصيته المميزة، ما حرفيته " إن هذه الآلية المعتمدة في تعيين أعضاء المجلس الدستوري في فرنسا قد تحد من استقلال هذا المجلس، ولكن ليس بشكل خطر ومستمر، وهذا لأن مدة العضو في المجلس المذكور هي تسع سنوات حيث يعتمد أسلوب التجديد الدوري الجزئي....".
2- يعتبر السيد حبيب هذا الكلام إهانة للمجلس الدستوري، وكأنه يريد بعقليته المستبدة أن يمنع المفكرين القانونيين من إبداء آرائهم وذلك تحت طائلة ملاحقتهم بجريمة حرية التعبير، مما يدل على أن اتجاهاته الفكرية والعلمية تناقض فكرة حرية النقاش العلمي وحرية إبداء الآراء القانونية.
3- إن ما وجهّناه من نقد علمي لآلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري الفرنسي لا يضاهي الانتقادات اللاذعة والاتهامات بالانحياز وبعدم الحياد الموجهة إلى أعضاء المجلس الدستوري الفرنسي من قبل مرجعيات فرنسية، ونذكر على سبيل المثال الهجوم العنيف الذي تعرّض له عضو المجلس الدستوري بيار شاتينييه ( Pierre CHATENET) الذي كان معيّنا بقرار من سلطة اليمين وذلك من قبل مجموعة نواب الحزب الاشتراكي في الجمعية الوطنية ( تراجع في هذا الخصوص صحيفة Le Monde الفرنسية، تاريخ 21 كانون الثاني سنة 1976، ويراجع أيضا العلامة الدستوري جان جيكال الذي تطرق إلى هذه المسالة في مؤلفه : Jean GICQUEL : Droit constitutionnel et institutions politiques, 18e édition, Montchrestien, 2002, p. 717-718, note n° 8 ). ويذكر أيضا ان رئيس المجلس الدستوري السيد Roger FREY الذي كان معيّنا من قبل سلطة اليمين تعرّض هو أيضا للانتقاد اللاذع على يد نائب اشتراكي في الجمعية الوطنية في ما خص المناقشات التي كانت دائرة في الجمعية الوطنية حول موضوع التأميم بتاريخ تشرين الأول سنة 1981، ما حدا برئيس الجمهورية إلى التدخل لتذكير أعضاء المجلس الدستوري بواجب الحياد وعدم الانحياز ( يراجع في هذا الخصوص:
Jean GICQUEL : Droit constitutionnel et institutions politiques, 18 éd. Montchrestien, 2002, p. 717-718( .
تضاف إلى ذلك الانتقادات التي تساق ضد آلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري من قبل العديد من علماء القانون الدستوري في فرنسا ومنهم على سبيل المثال فافورو وغايا وجيفونتيان وماستر وبفرسمان ورو وسكوفوني ولافروف وغيرهم. فعلى سبيل المثال فان العالم الدستوري لافروف يوجّه النقد في مؤلفه عن القانون الدستوري إلى طريقة تعيين أعضاء المجلس الدستوري وخصوصا إلى عدم وضع المشترع أي معيار أو شرط يتعلق بالكفاءة العلمية من أجل اختيار أعضاء المجلس الدستوري، ويطرح السؤال لمعرفة ما إذا كان يمكن أن يتمتع المجلس الدستوري، رغم تركيبته السياسية، بصفة القضاء المستقل ويشير إلى أن أحزاب اليسار الفرنسي رفضوا وصف المجلس الدستوري بالقضاء المستقل وغير المتحيز خصوصا بعد إصداره في كانون الثاني سنة 1982 قرارا أعلن بموجبه بعض أحكام قانون التأميم غير متطابقة مع الدستور، كما أن الغالبية من أحزاب اليمين وجهت اتهامات الانحياز للمجلس الدستوري بعد إعلانه بعض أحكام قانون التأهيل مخالفة للدستور في سنة 1986 وبعد أن قضى أيضا بتاريخ 13 آب سنة 1993 بأن بعض أحكام قانون الهجرة مخالفة لنصوص الدستور المذكور:
« L’indépendance et le caractère juridictionnel du Conseil constitutionnel ont souvent été niés du fait de l’absence de compétence technique des membres du conseil constitutionnel, qui mettait en évidence le caractère politique de l’organisme. Il est de fait que, contrairement à beaucoup de cours constitutionnelles en fonction dans les démocraties européennes, la loi française n’impose pas la possession d’une compétence technique pour la nomination en qualité de membre du Conseil constitutionnel. Cette situation expliquait que l’on ait soutenu qu’un organe politique n’était pas digne de confiance… Ainsi, à titre d’exemple, on sait que les partis de gauche, qui avaient vanté l’action positive du Conseil constitutionnel depuis 1971, année de la célèbre décision sur la liberté d’association, lui ont nié tout caractère juridictionnel après la décision rendue au mois de janvier 1982 par laquelle il déclarait inconstitutionnelles certaines dispositions de la loi de nationalisations. Dans le même sens, des membres de la majorité de droite ont accusé le Conseil constitutionnel de partialité lorsqu’il déclara inconstitutionnelles certaines dispositions de la loi d’habilitation votée en 1986 et lorsqu’il a récemment sanctionné, dans sa décision du 13 août 1993, certaines dispositions de la loi relative au contrôle de l’immigration… » (Dmitri Georges LAVROFF : Le droit constitutionnel de la Ve République, 3ème édition, Précis Dalloz, 1999, n° 71, p. 145 et n° 72, p. 148).
وفي السياق عينه يمكننا أن نشير أيضا إلى الانتقادات التي وجهت إلى آلية تعيين أعضاء المجلس الدستوري من قبل علماء القانون الدستوري فافورو وغايا وجيفونتيان وماستر وبفرسمان ورو وسكوفوني حيث أدلوا في هذا الخصوص بما حرفيته:
« Les trois autorités de nomination choisissent discrétionnairement les personnalités qu’elles souhaitent nommer sans consultation préalable et sans être astreintes à respecter telle ou telle condition. En pratique, et conformément au schéma général exposé plus haut, les autorités de nomination ont le plus souvent désigné des membres proches ou supposés proches de leurs sensibilités politiques … « ( Louis FAVOREU, Patrick GA?A, Richard GHEVONTIAN, Jean-Louis MESTRE, Otto PFERSMANN, André ROUX, Guy SCOFFONI : Droit constitutionnel , 5ème édition, Précis Dalloz, 2002, n° 394, p. 266).
4- بالنسبة إلى قول السيد حبيب اني " أجهل جهلا مطبقا لاجتهاد المجلس الدستوري، فأي باحث في القانون الدستوري يجهل ان اشهر قرارات المجلس الدستوري هي تلك التي صدرت أيام كان جميع أعضاء هذا المجلس معينين من قبل رجالات اليمين الفرنسي مثال ذلك القرار الصادر بتاريخ 16 تموز سنة 1971 المتعلق بحرية الجمعيات والقرار الصادر بتاريخ 12 كانون الثاني سنة 1977 المتعلق بمسالة تفتيش السيارات"، يهمنا أن نلفت نظر هذا الباحث " العبقري " إلى أن عبقريته الفذة أعمت بصيرته والى أن الحقد المصحوب بالحسد أفقده التركيز والتفكير السليم وقدرة الاستيعاب والتحليل فتوصل إلى هذه النتيجة السطحية التي مفادها أنه لا يمكن الشك بمدى نزاهة أو حياد المجلس الدستوري الفرنسي لصدور ثلاثة قرارات عنه تصب في مصلحة اليسار الفرنسي يوم كان مؤلفا بكامله من قبل سلطات اليمين، هذا مع العلم ان السيد حبيب يقع في خطأ فادح حين يقول ان القرار الصادر سنة 1982 عن المجلس الدستوري الفرنسي المؤلف من اليمين قضى بأن قانون التأميم متطابق مع الدستور. في الحقيقة ان المجلس الدستوري اعتبر ان العديد من أحكام هذا القانون الذي طرح من قبل غالبية اشتراكية مخالفة لأحكام الدستور.
إن تحليل السيد حبيب لا يقوم على أساس صحيح ومنطقي، إذ أنه لا يمكن الجزم باستقلالية المجلس الدستوري الذي يعين بكامل أعضائه من قبل السلطة السياسية لمجرد إصداره لثلاثة قرارات مهمة تصب في مصلحة اليسار أو في مصلحة اليمين.
وعلى هذا الصعيد، ينسى السيد حبيب الذي لم يطّلع بعد على آخر اجتهادات وقرارات المجلس الدستوري الفرنسي ان معظم القرارات التي صدرت عن هذا المجلس المعيّن منذ العام 2001 بغالبية أعضائه من قبل سلطات اليمين ( 6/9 ) هي قرارات تصب في مصلحة اليمين الحاكم، مما يعني أنها قرارات تخدم مصلحة السلطة المعيّنة والحاكمة في آن معا. فمنذ العام 2001، بعيد أحداث الحادي عشر من ايلول2001، صدرت في فرنسا في حقل الأصول والإجراءات الجزائية التي تحد، بصورة عامة ومبدئية من حريات الأشخاص، عدة قوانين لم يبطل منها المجلس الدستوري الفرنسي المعيّن بغالبية أعضائه من قبل اليمين إلا بعض الأحكام القليلة واعتبرت كلها متوافقة مع أحكام الدستور رغم تعرّضها للحريات الفردية ورغم تضييقها على حرية التنقل وتوسيعها لسلطات الضابطة العدلية وسماحها بتفتيش السيارات المتوقفة على الطرقات دون أي دليل جرمي ورغم كذلك مخالفتها لبعض القواعد الدستورية الأساسية. ومن هذه القوانين نذكر: القانون رقم 2001 / 1062 الصادر بتاريخ 15 تشرين الثاني سنة 2001 والمتعلق بالأمن اليومي، القانون رقم 2002 / 307 الصادر بتاريخ 4 آذار سنة 2002 والذي عدّل القانون رقم 200/ 516 المتعلق بتدعيم قرينة البراءة ( ويهدف هذا التعديل إلى الحد من هذا المبدأ)، القانون رقم 2002 / 1138 الصادر بتاريخ 9 أيلول سنة 2002 والذي يعدّل العديد من أحكام قانون أصول المحاكمات الجزائية وينشئ بما يسمى " بالقضاء القريب"، القانون رقم 2003 / 239 الصادر بتاريخ 18 آذار سنة 2003 المتعلق بالأمن الداخلي والذي يضيّق على حرية الأفراد، القانون رقم 2004 / 204 الصادر بتاريخ 9 آذار سنة 2004 والمتعلق بتكييف أصول العدالة مع تطور الإجرام والذي يعدّل معظم نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية ويطيل فترة الاحتجاز ويجيز التفتيش في حالات لم يكن مسموح بها من قبل وينشئ الإجراء الذي يجيز للنيابة العامة أن تطبق عقوبة على الشخص الملاحق دون إحالته على قضاء الحكم في حال اعترف بمسؤوليته وقبل أن ينفّذ العقوبة المذكورة بحضور محام، وهذا يؤلّف مخالفة لقاعدة فصل المهمات القضائية ولقاعدة الحياد والنزاهة، إذ لا يجوز للنيابة العامة التي تعتبر طرفا في الدعوى العامة وخصما أن تقضي بعقوبة ضد الشخص الملاحق بجريمة ما. وكانت قد صدرت عدة قرارات عن المجلس الدستوري بخصوص هذه القوانين التي تم الطعن بدستوريتها. لكن المجلس الدستوري لم يبطلها. وقد وجهت في هذا الخصوص العديد من الانتقادات اللاذعة إلى المجلس الدستوري بخصوص القرار الصادر عنه بتاريخ 4 آذار سنة 2004 والمتعلق بالقانون رقم 2004/204 ( Loi Perben II ) وخصوصا لناحية أن المجلس الدستوري أخذ في الاعتبار خطورة الأفعال الجرمية المرتكبة دون أن يعير مبدأ تناسب الإجراء الجزائي المتخذ مع خطورة الجريمة أي اهتمام رغم أنه يحد من حريات الأفراد ( وهو مبدأ دستوري)، كما انه أهمل مسألة تناقض الإجراءات الجزائية التي يقرها قانون Perben II مع المبادئ الأساسية التي تحمي الحريات الفردية. كذلك الأمر بالنسبة لقرار المجلس الدستوري المتعلق بدستورية قانون ضبط الأمن الداخلي والهجرة الأجنبية والحد منها ( قرار رقم 484 DC تاريخ 20 تشرين الثاني سنة 2003 ) حيث لم يبطل المجلس الدستوري الأحكام التي تضيّق على الحريات والتي تحد من إقامة الأجانب في فرنسا خلافا للدستور ولأحكام الاتفاق الأوروبي المعني بحماية حقوق الإنسان. كما ان المجلس الدستوري الفرنسي لم يبطل أحكام القانون رقم 2001 / 1062 الصادر بتاريخ 15 تشرين الثاني سنة 2001 والمتعلق بالأمن اليومي والذي صدر بعد أحداث الحادي عشر من أيلول وهذا رغم أن أحكامه تضيّق جدا على الحريات الفردية وتناقض أحكام الدستور. أضف إلى ذلك قرار المجلس الدستوري الفرنسي الرقم 461 DC الصادر بتاريخ 29 آب سنة 2002 والذي لم يبطل أحكام القانون المتعلق بتوجيه وتنظيم العدالة وذلك رغم تناقض بعض أحكامه مع نصوص الدستور.
وبناء على كل ما تقدّم، نترك للقارئ المتخصص وحده ان يقرر على من تنطبق صفة الجهل المطبق لاجتهاد المجلس الدستوري ولكل قواعد القانون الدستوري.
ثالثا: بالنسبة للقول بأني " أعطيت الإيحاء للمرشحين الخاسرين بأنه يمكنهم الطعن بدستورية قانون الانتخاب لعام 2000 في معرض طعنهم بصحة نيابة منافسهم".
لو أن السيد حبيب يجيد قراءة القانون والدراسات القانونية لكان وفّر على نفسه عناء الكتابة والتفلسف الرخيص. فهو يريد أن يعطي الإيحاء للقراء، ولغاية في نفس يعقوب، بأني لا أتمتع بالكفاءة اللازمة في مادة القانون الدستوري، مما يدل على ان مقاله يقوم على أسس التجريح والقدح والذم.
وفي هذا الخصوص يكفي أن يدقق المسمى " بحنا حبيب" في مقالي ليتحقق أن عنوانه هو التالي: " هل يحق للمجلس الدستوري المنتهية مدة عدد من أعضائه النظر في الطعون التي قد تقدم أمامه بنتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة؟".
ان هذا العنوان يشير بكل وضوح إلى أن موضوع المقال يتعلق بالطعون الانتخابية وليس بامكان النظر في دستورية قانون الانتخاب لعام 2000 . وهذا ما أكّدت عليه في نهاية المقال حيث جاء ما حرفيته : " عملا بقاعدة ضرورة تأمين استمرارية العمل في المؤسسات الدستورية يحق للمجلس الدستوري بتركيبته الحالية أن ينظر في الطعون المقدمة أمامه ببعض المخالفات الانتخابية".
أما في ما خص قانون الانتخاب لعام 2000 فقلت في مقالي أنه بالتأسيس على مخالفة هذا القانون لقاعدة العيش المشترك وعلى مخالفات انتخابية قد يتقدّم بعضهم بطعون أمام المجلس الدستوري. وهذا لا يعني طبعا، كما فسّر السيد حبيب بمنطقه السطحي، أني سلّمت بأمكانية الطعن بدستورية قانون الانتخاب لعام 2000، إذ أن هذا القانون وان كان غير دستوري لا يجوز الطعن بدستوريته بعد مرور مهلة خمسة عشر يوما على نشره في الجريدة الرسمية أو في إحدى وسائل النشر الرسمية الأخرى المعتمدة قانونا وذلك عملا بأحكام المادة 19 من قانون إنشاء المجلس الدستوري.
وينهي السيد حبيب بقوله أنه " يكتفي بهذا القدر من المغالطات راجيا من صاحب المقال أن يقرأ قبل أن يكتب وذلك احتراما لرجال القانون لأن في لبنان العديد من القانونيين الذين يعلمون ان المقالات القانونية تقيّم بمضمونها وليس بتخمة الإطناب ولا بغزارة المراجع الأجنبية".
ردا على هذا القول الذي ينم عن حقد شخصي وعن حسد أعمى، وبالتساؤل عن المغالطات الأخرى المزعومة التي لم يفندها السيد حبيب طبعا لأنها ليست موجودة إلا في مخيلته الواسعة، وبعد أن بيّنا للقارئ العزيز مدى المستوى الفكري الذي يتمتع به المسمي نفسه جبانة « بحنا حبيب"، نقول لهذا الخائف:
إذا أتتني مذمتي من ناقص فهذه دلالة على إنني كامل
٢٦/٦/٢٠٠٥
هل يحق للمجلس الدستوري اللبناني المنتهية مدة عدد من أعضائه النظر في الطعون التي قد تقدم أمامه بنتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة؟
النهار 25 حزيران 2005
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
أستاذ محاضر في كلية الحقوق والعلوم السياسية التابعة لجامعة روبير شومان- فرنسا
محام بالاستئناف في نقابة بيروت
محام عام أسبق في فرنسا
يعتبر إنشاء المجلس الدستوري حدثا بالغ الأهمية في مسيرة الديمقراطية النصية( أي المعلن عنها في النصوص) في لبنان، إذ أن هذه المؤسسة العليا تؤلّف، في البلدان الراقية والعريقة بأنظمتها الليبرالية، مرجعا دستوريا تقع على عاتقه مهمات صون الحقوق الدستورية والحريات وتطوير النظام الديمقراطي وتفعيل وتدعيم بناء دولة القانون والمؤسسات. ويتحقق هذا الواقع عبر الرقابة التي يمارسها المجلس الدستوري على دستورية القوانين وسائر النصوص التي تتمتع بقوة القانون، والفصل في صحة انتخابات رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب والبت في الطعون والنزاعات الناشئة عنها والنظر في النزاعات والطعون الناشئة عن انتخابات أعضاء مجلس النواب.
ويكون من موجبات المجلس الدستوري أن يرعى المؤسسات الدستورية وأن يبعدها عن شر التسلط والاستبداد ويحثها على ممارسة مهماتها الدستورية الصحيحة. وهو بذلك يؤلّف الخط الأول المدافع عن الدستور حرصا منه على ضرورة مراعاة أحكامه وتطبيقها التطبيق الصحيح والسليم بحيث تأتي النصوص القانونية متوافقة ليس فقط مع ما تضمّنته مواده، وإنما أيضا مع مقدّمته التي تتمتع بالقوة الدستورية ذاتها. ولهذا فان المجلس الدستوري يعتبر سلاحا فعّالا ضد انحراف النظام البرلماني عن الأهداف المرسومة له دستوريا. وهذا ما أكّد عليه رئيس الحكومة الفرنسية السيد Michel Debré في بدء عهد الجمهورية الخامسة بعد إنشاء المجلس الدستوري الفرنسي حين قال:
« Avec le Conseil constitutionnel la Constitution crée une arme contre la déviation du régime parlementaire » ( Discours prononcé devant l’Assemblée générale du Conseil d’Etat en 1958).
ونظرا إلى أهمية الدور الذي يضطلع به المجلس الدستوري، كهيئة قضائية دستورية، يقتضي أن يكون مستقلا تمام الاستقلال عن باقي السلطات تطبيقا لنص المادة 20 من الدستور اللبناني التي تنص على استقلال القضاة في إجراء وظائفهم وعلى أن تصدر القرارات والأحكام من قبل المحاكم باسم الشعب اللبناني.
غير أنه يلاحظ، على هذا الصعيد، أن الاستقلالية التي يتمتّع بها المجلس الدستوري في النظام اللبناني تبقى في إطار الاستقلالية النسبية مقارنة مع بعض الأنظمة الديمقراطية في العالم ولاسيما مع النظام المعتمد في الولايات المتحدة الأميركية حيث يعين عضو المحكمة الدستورية لمدى الحياة وفق شروط دقيقة وقاسية. ويعزى هذا الخلل إلى طبيعة الآلية القانونية المعتمدة في تعيين أعضاء المجلس الدستوري والمنصوص عليها في القانون الرقم 250 الصادر في تاريخ 14 تموز سنة 1993 والذي أنشأ المجلس الدستوري اللبناني. فبموجب المادة الثانية من القانون المذكور " يعيّن مجلس النواب نصف هؤلاء الأعضاء بالأكثرية المطلقة من عدد الأعضاء الذي يتألف منه قانونا في الدورة الأولى وبالأكثرية النسبية من أصوات المقترعين في الدورة الثانية، وإذا تساوت الأصوات فالأكبر سنا يعتبر منتخبا. ويعيّن مجلس الوزراء النصف الآخر بأكثرية ثلثي أعضاء الحكومة".
ويتألف، على هذا الأساس، المجلس الدستوري من عشرة أعضاء يعيّن نصفهم مجلس النواب ويعيّن النصف الآخر مجلس الوزراء أي السلطة الإجرائية أو السياسية. وما يحد في هذه الآلية من استقلال المجلس الدستوري هو تعيين نصف أعضاء هذا المجلس على يد السلطة السياسية في البلاد.
وتكمن خطورة تعيين أعضاء المجلس الدستوري من قبل مجلس الوزراء في أن هذا الإجراء قد لا يتطابق تماما مع معايير الحياد والاستقلالية وضرورة عدم توظيف المصالح الشخصية والسياسية في هذه العملية. وهذا لأن مجلس الوزراء يتألف من عدد من الوزراء ينتمي كل منهم إلى طائفة معيّنة والى تيار أو اتجاه سياسي معيّن، وقد يهم البعض منهم أن يؤمّن مصالح طائفته أو حتى مصالح التيار أو الجهة التي ينتمي إليها في قضية تعيين أعضاء المجلس الدستوري، ما قد يؤدي إلى أن تؤخذ في الاعتبار المسائل الطائفية والسياسية والمصالح الشخصية والتدخلات والمحسوبيات لتطرح جانبا معايير الكفاءة والمناقبية والخبرة التي من الواجب أن يتمتع بها العضو المعيّن والتي يتوجب أن يؤخذ بها دون أي اعتبار آخر. وبسبب هذه الآلية غير السليمة، فان المرجعية السياسية المختصة ( مجلس الوزراء) لم تتمكّن حتى الآن من تعيين بدلاء لأعضاء المجلس الدستوري المنتهية مدة ولايتهم.
لذلك كان يُِِفضّل أن تناط مهمة تعيين كل أعضاء المجلس الدستوري بمجلس النواب على أساس من الخبرة العلمية ومن المناقبية، وبطريقة الاقتراع السري بعد إخضاعهم لمقابلة مع لجنة قضائية متخصصة مؤلّفة من أعلى القضاة في سلكي القضاء ( القضاء لإداري والقضاء العدلي) ومن نقيبي المحامين في بيروت وطرابلس، على أن يسمح لكل من تتوفر فيه الشروط القانونية أن يقدّم ترشيحه إلى عضوية المجلس الدستوري لا أن يحصر مجلس الوزراء أو مجلس النواب خياره بعدد من الأشخاص المنتقين وفقا لرغبات هذه السلطة أو تلك. وبهذا فان اختيار الأعضاء الذين تتوفر فيهم الشروط والصفات المطلوبة بطريقة الاقتراع السري وليس بطريقة التعيين، يشكّل ضمانة فعّالة لاستبعاد المحسوبيات والتدخلات والاعتبارات الشخصية والطائفية في عملية اختيارأعضاء المجلس الدستوري.
ولكن تجدر الإشارة إلى أن الآلية المعتمدة في اختيار أعضاء المجلس الدستوري في فرنسا لا تؤمّن هي أيضا استقلال هذا المجلس بالشكل الفعّال المطلوب، إذ يعيّن كل من رئيس الجمهورية ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ ثلاثة أعضاء دون التقيّد بأي معيار قانوني أو دستوري متعلّق بأهلية العضو المعيّن أو بثقافته القانونية أو الدستورية أو بمدى المستوى العلمي الذي حصّله. ولهذا النظام خطورته على استقلال المجلس الدستوري في ظل النظام السياسي الحزبي السائد في فرنسا. فأكثرية الحزب الحاكمة ( اليمين أو اليسار) هي التي تستأثر في حال فوزها في الانتخابات البرلمانية والرئاسية ( كما هي الحال حاليا) بتعيين أعضاء المجلس الدستوري الذين تنتهي في هذه الفترة مدة ولايتهم دون أن تشرك في ذلك المعارضة التي تكون خارج الحكم، إذ أن رئيس الجمهورية الذي ينتمي إلى الغالبية الحاكمة هو الذي يعيّن رئيس الحكومة من بين هذه الغالبية، بالإضافة إلى أن الأكثرية البرلمانية، أكان في الجمعية الوطنية أو في مجلس الشيوخ، هي التي تأتي برئيس لكل من هذين المجلسين وهو رئيس ينتمي إلى هذه الأكثرية بالتأكيد. وهذا يعني أن المعارضة التي تشكّل الأقلية في البرلمان وان طعنت بدستورية القوانين المطروحة من قبل الأكثرية الحاكمة، قد لا تنجح في مراجعتها إذا كانت غالبية أعضاء المجلس الدستوري قد عيّنت من قبل الأكثرية الحاكمة. فالمجلس الدستوري قد يتأثر، في هذه الحال، ولو بشكل غير مباشر بالضغوط التي قد تمارسها عليه السلطة التي سمّت أعضاءه ورئيسه الذي يعيّنه دائما رئيس الجمهورية.
وفي هذا المجال وجّهت العديد من اتهامات الانحياز وعدم الحياد إلى بعض أعضاء المجلس الدستوري في فرنسا ومنهم بيار شاتنييه ( Pierre CHATENET ) الذي هوجم على هذا الصعيد من قبل مجموعة نواب الحزب الاشتراكي في الجمعية الوطنية ( تراجع في هذا الخصوص صحيفة Le Monde تاريخ 21 كانون الثاني سنة 1976 ). كذلك الأمر بالنسبة لرئيس المجلس الدستوري الفرنسي السيد Roger FREY الذي تعرّض للانتقاد اللاذع من قبل نائب اشتراكي في الجمعية الوطنية في ما خص المناقشات التي كانت دائرة حول موضوع التأميم في تاريخ تشرين الأول سنة 1981 ، ما حدا برئيس الجمهورية آنذاك إلى التدخل لتذكير أعضاء المجلس الدستوري بواجب الحياد والتحفّظ ( يراجع في هذا الخصوص:
( Jean GICQUEL : Droit constitutionnel et institutions politiques, 18e édition, Montchrestien, 2002, p. 717).
إن هذه الآلية المعتمدة في تعيين أعضاء المجلس الدستوري في فرنسا قد تحد من استقلال هذا المجلس، ولكن ليس بشكل خطر ومستمر، وهذا لأن مدة العضو في المجلس المذكور هي تسع سنوات ( م 56 من الدستور الفرنسي) حيث يعتمد أسلوب التجديد الدوري الجزئي وذلك حرصا على مبدأ استمرارية العمل، إذ لا يجوز انتهاء ولاية كل الأعضاء دفعة واحدة في الوقت ذاته.
ويعتمد مبدأ التجديد الدوري في لبنان وفرنسا حيث يتم التجديد الدوري الجزئي كل ثلاث سنوات. ففي فرنسا عيّنت الهيئة الأولى للمجلس الدستوري على الشكل التالي: ثلاثة قضاة لثلاث سنوات، وثلاثة قضاة لست سنوات، وثلاثة قضاة لتسع سنوات. وبهذا فان تغيير الغالبية الحاكمة قد يأتي بأعضاء جدد في المجلس الدستوري غير معينين من الغالبية السابقة التي أصبحت وقت التعيين الجديد في موقع المعارضة. وهذا يؤدي إلى عدم انتماء كل أعضاء المجلس الدستوري إلى لون سياسي واحد والى استقلالية أكبر في قرارات هذا المجلس، ما لا يمكن تحقيقه في النظام اللبناني طالما أن الطبقة الحاكمة تبقى هي ذاتها ولا تأتي بها التعددية الحزبية، وطالما أن المعارضة تبقى أبدا في موقع المعارضة المسايرة وغير الفعّالة.
وفي لبنان حددت المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري المشار إليه أعلاه مدة ولاية العضو في هذا المجلس بست سنوات غير قابلة للتجديد ونصت على وجوب انتهاء ولاية نصف أعضاء أول هيئة للمجلس بعد ثلاث سنوات، واختيار هؤلاء بالقرعة. وتنص المادة ذاتها، كما القانون الفرنسي، على أن مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري غير قابلة للتجديد وعلى أن لا يجوز اختصار مدة ولاية أي منهم. وهذا ما أكّدت عليه أيضا المادة الثالثة من القانون الرقم 243 تاريخ 7 آب سنة 2000 الذي وضع النظام الداخلي للمجلس الدستوري.
وخلافا لهذه القاعدة الأساسية فان المجلس الدستوري بتركيبته الحالية يضم خمسة أعضاء لم تنته مدة ولايتهم بعد، وخمسة أعضاء آخرين انتهت مدة ولايتهم منذ حوالي سنتين وما زالوا يمارسون وظائفهم، وتم تعيين ثلاثة أعضاء من مجلس النواب منذ أشهر وهم لم يحلفوا اليمين القانونية ولم يقوموا بأية مهمة قانونية أو دستورية حتى الآن. وبهذا فلا يزال ينقص تركيبة المجلس الدستوري تعيين عضوين بقرار من مجلس الوزراء الذي لم يقدم حتى الآن على تنفيذ هذا الإجراء الضروري والملح رغم حلول مواعيد الانتخابات النيابية، هذا مع العلم أنه كان يتوجب عليه الإسراع إلى معالجة هذا الخلل قبل بدء عملية الانتخابات النيابية وذلك إفساحا في المجال أمام أصحاب الشأن والمصلحة للطعن بنتائج الانتخابات التي جرت على أساس قانون انتخابي غير عادل وغير مقبول من شريحة واسعة من اللبنانيين. وبتعيين مجلس النواب لثلاثة أعضاء في المجلس الدستوري، بات المجلس المذكور يتألف من ثلاثة عشر عضوا بدل العشرة أعضاء كون الأعضاء الثلاثة المنتهية مدتهم ما زالوا يقومون بوظائفهم ويتقاضون رواتبهم، مما يناقض قانون إنشاء المجلس الدستوري بشكل فاضح.
وبالنظر إلى المخالفات المتعلقة بالعملية الانتخابية نفسها وبنتائجها والتي يحكى عنها اليوم، فمن المتوقع أن يتلقى المجلس الدستوري قريبا عددا من الطعون القانونية بنتيجة الانتخابات.
ولهذا يطرح السؤال من الناحية الدستورية عن إمكانية النظر في هذه الطعون من قبل مجلس دستوري مؤلف من بعض الأعضاء المنتهية ولايتهم وعن إمكانية تجديد أو تمديد مدة هؤلاء الأعضاء للقيام بمهمات النظر بالطعون المذكورة إلى حين تعيين أعضاء بدلاء لهم وحلفهم اليمين القانونية.
في الحقيقة إن فكرة التجديد تخالف بحد ذاتها الأحكام القانونية وتنال من استقلال المجلس الدستوري وان كان الهدف منها تطبيق قاعدة استمرارية العمل في المؤسسات الدستورية ( أولا). ولكن يجوز للمجلس الدستوري أن ينظر في الطعون المقدمة أمامه وان كانت ولاية أحد أعضائه قد انتهت دون أن يعني ذلك أنه يجوز تمديد مدة ولاية أعضاء هذا المجلس ( ثانيا).
أولا: في عدم امكان تجديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري وان كان هدف التجديد تمكين المجلس من النظر في الطعون الانتخابية.
إن قانون إنشاء المجلس الدستوري الرقم 250 الصادر في 14 تموز سنة 1993 نص في مادته الرابعة على عدم إمكان تجديد مدة ولاية هؤلاء الأعضاء. وأكّد المشرّع على هذه القاعدة بنص المادة الثالثة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري الذي وضع بالقانون الرقم 243 تاريخ 7 آب سنة 2000. وهذا يعني بمعنى آخر انه لا يجوز أن يتم تعيين عضو المجلس الدستوري ذاته لمدة ست سنوات جديدة بعد انتهاء مدة ولايته. والعبرة التي قصدها المشرّع من وراء هذا المنع هي تأمين استقلال القاضي الدستوري وعدم تزلّفه لأي سلطة سياسية أو تشريعية طمعا في التجديد له بحيث تأتي قراراته ومواقفه الدستورية مجرّدة من كل غاية أو مصلحة شخصية مرتبطة بالطموح للتجديد.
لكن القاعدة التي تحظّر التجديد لا تطبق على الأعضاء الذين يعيّنون لملء المراكز الشاغرة. فالفقرة الأخيرة من المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري تنص على ملء مركز أحد الأعضاء، الشاغر بسبب الاستقالة أو الوفاة أو العجز الصحي أو لأي سبب آخر، بالطريقة ذاتها التي يتم بها التعيين وللمدة المتبقية من ولاية من شغر مركزه. وفي هذه الحال لا تطبق على العضو البديل قاعدة منع التمديد إذا كانت المدة المتبقية من ولاية العضو الأصيل تقل عن سنتين.
فالقاعدة القانونية تقضي إذن بعدم التجديد ولا يجوز الخروج عليها إلا استثناء وفقط في حال عيّن العضو في المجلس الدستوري لملء المركز الشاغر وفق ما تنص عليه الفقرة الأخيرة من المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري وعلى أن تكون المدة المتبقية من ولاية العضو الأصيل تقل عن سنتين. وهذا ما هو معمول به في فرنسا حيث يحظّر الدستور الفرنسي تجديد مدة ولاية عضو أو رئيس المجلس الدستوري ما عدا الحالة الاستثنائية الملحوظة في القانون الصادر في تاريخ 7 تشرين الثاني سنة 1958 ، وهي ذاتها التي وردت في القانون اللبناني، والقاضية بإمكان تجديد ولاية عضو المجلس الدستوري الذي عين لملء المركز الشاغر شرط أن تكون المدة المتبقية من ولاية العضو الأصيل تقل عن ثلاث سنوات وليس عن سنتين كما جاء في المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري اللبناني ( م 12 من القانون الفرنسي الصادر في 7 / 11/ 1958 – انظر في هذا الخصوص أيضا :
F. LUCHAIRE : La durée du mandat du président du Conseil constitutionnel ; la vie judiciaire, 28 décembre 1986 – J.BOURDANT : Le président du Conseil constitutionnel, RDP 1987, p. 581).
وانطلاقا من هذه القاعدة الأساسية يمكن التأكيد على أن أي قرار يتخذ بتجديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري خارج الحالة الاستثنائية الوحيدة المحددة حصرا بنص المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري والمشار إليها آنفا وبنص المادة الثالثة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري، يكون مخالفا للقانون وتاليا لأحكام الدستور. ذلك أن المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري والمادة الثالثة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري تشكّلان قاعدة قانونية ملزمة، إذ أنهما وضعتا بموجب نص دستوري وهو نص المادة 19 من الدستور التي جاء فيها انه " ينشأ مجلس دستوري لمراقبة دستورية القوانين والبت في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية... وتحدد قواعد تنظيم المجلس وأصول العمل فيه وكيفية تشكيله ومراجعته بموجب قانون".
إن غالبية الأنظمة في العالم تجعل من ولاية أعضاء المجلس الدستوري غير قابلة للتجديد. وهذا ما أعتمده المشرّع اللبناني بنص المادة الرابعة من قانون المجلس الدستوري. وذلك على غرار ما هو معمول به في التشريع الفرنسي ( القانون الفرنسي الصادر في تاريخ 7/ 11 / 1958 ). والهدف الأول والأساسي من منع التجديد يكمن في ضمان استقلالية القاضي الدستوري المعيّن وحياده وعدم ارتهانه للسلطة التي عينته. هذا لأنه، كما يقول Roger Collard ،" حيث لا وجود لقضاة يتمتعون بالاستقلالية والحياد، لا نكون سوى أمام مندوبين للسلطة الحاكمة" ( أنظر في هذا الخصوص :
Jean GICQUEL , Op. cit , p. 718 ).
وعلى هذا الأساس، لا تجدد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري حفاظا على استقلاليتهم ولعتقهم من أي ارتهان أو امتنان للسلطة التي قررت تعيينهم. فعضو المجلس الدستوري الذي يعلم مسبقا أن ولايته لا تتعدى الست سنوات مهما كانت الظروف ومهما عظمت المصائب والأحداث التي قد تعصف بالبلاد، يعمل دائما بذهنية المتحرر من أي وصاية أو تسلط أو تدخل لأنه لا يمكنه أن يطمح لارضاء هذه السلطة أو تلك ( السلطة التي عينته أو السلطة التي قد يمكنها أن تجدد ولايته أو تمددها) طالما أن القانون يحظّر التجديد.
وتتأمن بذلك استقلالية القاضي الدستوري ويطمئن المواطن إلى قراراته التي يفترض أن تكون منزهة عن أي مصلحة شخصية أو رغبة في إرضاء سلطة التعيين والتجديد أو التمديد، ما يعزز بشكل فعّال مكوّنات النظام الديمقراطي في البلد القائمة خصوصا على حماية الحريات وتحقيق العدالة واستقلال المؤسسات الدستورية كافة. وهذا ما يؤكّد عليه صراحة العلاّمة الدستوري جان جيكال بقوله:
« Les membres du conseil constitutionnel disposent, en contrepartie de leur obligation de réserve, des moyens d’accomplir leur mission en toute liberté. Outre la transfiguration ou l’admirable ingratitude, à laquelle tout serviteur de l’Etat de droit peut songer, en mémoire du Chancelier Thomas More, les conseillers sont nommés pour un mandat de neuf ans ( art. 56, al. 1er de la Constitution), qui ne peut être, ni renouvelé, ni révoqué. En un mot, ils bénéficient de l’inamovibilité. Le non-renouvellement du mandat se présente, objectivement, comme un gage d’indépendance par rapport à l’autorité de nomination » ( Jean GICQUEL : Op.cit, p. 718-719).
من جهة أخرى، يهدف المشرّع من خلال تحظير تجديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري إلى قطع الطريق أمام السلطة التي يعود لها حق تعيين أعضاء المجلس الدستوري لمنعها من محاولة جعل الأعضاء الطامحين إلى تجديد أو تمديد ولايتهم رهائن امتنان لها، ومن أن تمارس عليهم الضغوط بسلاح الترغيب من جهة أو التهديد بحرمانهم من التجديد من جهة أخرى. وبهذا فان منع تجديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري أو تمديدها يضع عضو المجلس الدستوري بمنأى عن كل ضغط ترغيبي أو ترهيبي، وفي موقع مستقل ومحايد بعيدا عن التزلّف والتملّق والامتنان والعرفان بالجميل إزاء السلطة التي عينته طالما أنه لا يمكنه أن ينتظر تحقيق أي رغبة أو طلب. مما يجعل من المجلس الدستوري قضاء مستقلا لا يتأثر لا بتوجهات السلطة التي أتت بأعضائه ولا برغباتها السياسية أو الشخصية. وهذا ما عبّر عنه صراحة العلاّمة الدستوري Frédéric ROUVILLOIS في فرنسا حين قال:
« … Le mandat des membres du Conseil constitutionnel n’est pas renouvelable. Cette disposition assure aux membres du Conseil une réelle liberté : elle leur permet d’assumer sans remords leur « devoir d’ingratitude » » ( Droit constitutionnel, La Ve République, édition Flammarion , 2001, p. 238- V. aussi en ce sens : D. ROUSSEAU : Sur le Conseil constitutionnel, la doctrine BDINTER et la démocratie, Descartes et Cie , 1997, p. 37).
إن ما يؤكّد أيضا حرص المشرّع على عدم تجديد ولاية أعضاء المجلس الدستوري لضمان استقلال وحياد القاضي الدستوري وعدم ارتهانه لعامل إغوائه بالتجديد أو التمديد له، هو نصه على منع اختصار مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري ( م 4 من قانون المجلس الدستوري ). وهذا يعني أن المشرع أراد أن يحمي هؤلاء ضد أي ضغط أو هيمنة، بما يؤمّن الحرية اللازمة لكل منهم من أجل القيام بمهماته وفقا لما يمليه عليه ضميره وما تفرضه عليه المبادئ والقواعد الدستورية، وبما يجعل من المجلس الدستوري سلطة قضائية مستقلة.
لذلك فان كل اتجاه نحو التجديد لأعضاء المجلس الدستوري المنتهية مدتهم سيعد انتهاكا صارخا لأحكام القانون، واعتداء على مبدأ استقلال القاضي وحياده المصون بنصوص الدستور، وهو مبدأ وضعه المجلس الدستوري اللبناني في مصاف المبادئ الدستورية في قراره الصادر في تاريخ 27 حزيران سنة 2000 على اثر المراجعة التي قدمت ضد القانون الرقم 227 تاريخ 31 أيار 2000 المتعلق ببعض مواد نظام مجلس شورى الدولة. هذا عدا عن أن قرار التجديد، في حال صدوره، سيشكّل سابقة خطيرة في النظام اللبناني قد تؤدي إلى فتح الباب أمام هذا النوع من الهرطقيات القانونية والدستورية التي تطال من استقلال المؤسسات الدستورية كافة ومن صدقيتها ومصداقيتها.
وانطلاقا من هذه المبادئ لا يجوز للسلطات المختصة أن تجدد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري المنتهية مدتهم وان كان التجديد يهدف الى تمكين هذا المجلس من النظر في الطعون المقدمة أمامه بنتائج الانتخابات النيابية وتأمين احترام قاعدة استمرارية المؤسسات الدستورية. لكن السؤال يطرح عن جواز تمديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري كي يتمكّن هذا المجلس من النظر في الطعون المقدمة أمامه وكي تحترم قاعدة استمرارية العمل في المؤسسات الدستورية.
ثانيا: في استمرارية مهمات المجلس الدستوري المنتهية مدة ولاية أعضائه إلى حين تعيين أعضاء جدد.
إن تمديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري يفترض أن تضاف على المدة القانونية ( وهي ست سنوات) لولاية هؤلاء فترة معيّنة بقرار تتخذه السلطة التي يعود لها حق التعيين ( المجلس النيابي ومجلس الوزراء). وقد تبلغ الفترة المضافة شهر أو عدة أشهر أو حتى عدة سنوات دون أن تبلغ الست سنوات. وقد يأتي هذا التمديد بحجة تخطي ظرف قاهر معيّن أو حوادث استثنائية قد تقف حائلا دون عملية التعيين العادية. لكن السؤال يطرح عن مدى قانونية ودستورية هذا الإجراء.
يقتضي للجواب على هذا السؤال عدم الخلط بين قرار تمديد ولاية أعضاء المجلس الدستوري وما جاء في المادة الرابعة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري الموضوع بالقانون الرقم 243 تاريخ 7 آب سنة 2000. فهذه المادة نصت على أنه " عند انتهاء الولاية، يستمر الأعضاء الذين انتهت ولايتهم في ممارسة أعمالهم إلى حين تعيين بدلاء عنهم وحلفهم اليمين". وهي تأتي لتؤكّد عدم إمكان تمديد ولاية أعضاء المجلس الدستوري بقرار من السلطات المختصة مهما كانت الظروف التي حالت دون تعيين أعضاء جدد قاهرة واستثنائية.
فلو أن الظروف القاهرة أو الاستثنائية تسمح بتمديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري، لما كان المشرّع وضع نص المادة الرابعة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري التي تدل بوضوح تام على نيته الحقيقية وعلى ما أراد من خلال حيثياتها وخصوصا أن هذه الحيثيات تصرّ على أن يستمر الأعضاء المنتهية ولايتهم في ممارسة مهماتهم إلى حين تعيين أعضاء جدد. فهو عملا بالقاعدة الأساسية التي وضعها في قانون إنشاء المجلس الدستوري والقاضية بعدم تجديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري، جاء ليؤكّد أيضا في النظام الداخلي لهذا المجلس على عدم إمكان تمديد هذه الولاية بإصراره على بقاء الأعضاء المنتهية ولايتهم إلى حين تعيين أعضاء جدد، وذلك حرصا منه على مبدأ استقلال قضاء المجلس الدستوري وعلى عدم السماح للسلطة الإجرائية أو حتى للسلطة التشريعية التستر بغطاء الظروف الاستثنائية أو القاهرة كي تمدد لأعضاء المجلس الدستوري الذين أتت بهم. لكنه أراد في الوقت ذاته أن يؤمّن استمرارية عمل المجلس الدستوري منعا لأي فراغ دستوري، فنص على ضرورة أن يستمر الأعضاء المنتهية ولايتهم في ممارسة أعمالهم إلى حين تعيين بدلاء عنهم وحلفهم اليمين، أي إلى حين زوال الظرف الذي وقف عثرة أمام تعيين الأعضاء الجدد.
وعلى هذا الأساس، فإذا كان المانع اليوم من تعيين أعضاء جدد للمجلس الدستوري بدلاء عن الأعضاء المنتهية ولايتهم يكمن في الخلافات الرئاسية أو في الخلافات السياسية وغيرها القائمة بين أركان الحكم، فان الأعضاء الذين انتهت ولايتهم يستمرون في ممارسة مهماتهم إلى حين انتهاء هذه الخلافات وقيام مجلس النواب ومجلس الوزراء بتعيين الأعضاء الجدد مكانهم بالطريقة التي نص عليها القانون، إذ لا يجوز أن يتم تعيين بعض هؤلاء من قبل المجلس النيابي منفردا في وقت لا يقوم مجلس الوزراء بتعيين الأعضاء الباقين، مما يوجب الاتفاق بين المجلس النيابي ومجلس الوزراء على هذا الأمر حتى تتم عملية التعيين بشكل كامل. وذلك حرصا على استمرارية العمل في المجلس الدستوري وحماية للمصلحة العامة. على أن استمرار أعضاء المجلس الدستوري المنتهية ولايتهم في القيام بمهماتهم تطبيقا للمادة الرابعة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري، لا يعني إطلاقا أنه تم التمديد قانونا لهؤلاء. فمدة استمرارهم في القيام بمهماتهم لا تكون محددة في هذه الحال، إذ أنها تكون مرتبطة بزوال الظرف الذي يحول دون قيام السلطة المختصة بتعيين الأعضاء الجدد مكانهم. وهذا هو العنصر القانوني الأساسي الذي يفرّق هذا الوضع ( وضع الاستمرار الموقت في القيام بأعمال المجلس الدستوري) عن وضع التمديد لأعضاء المجلس الدستوري المنتهية ولايتهم الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بقرار صادر عن السلطة المختصة التي تحدد بموجبه مدة التمديد. فالتمديد لا يتحقق إذن إلا بقرار من السلطة المختصة، في حين أن استمرار أعضاء المجلس الدستوري المنتهية مدة ولايتهم في القيام بمهماتهم لا يحتاج إلى أي قرار في هذا الخصوص. أضف إلى ذلك أن ولاية الأعضاء الذين مدد لهم لا تنتهي إلا بانتهاء المدة التي حددت بقرار التمديد، بينما أن الأعضاء الذين يستمرون في القيام بمهماتهم عملا بنص المادة الرابعة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري يتوقفون حكما عن القيام بهذه المهمات فور تعيين أعضاء جدد بدلاء لهم وحلفهم اليمين القانونية. ولهذا يتوجب على مجلس الوزراء الإسراع إلى تنفيذ هذا الإجراء الضروري منعا لقيام أوضاع شاذة وغير طبيعية، إذ لا يجوز أن يستمر العضو المنتهية ولايته في وظائفه إلى ما لا نهاية بسبب الخلافات السياسية بين أهل الحكم ولا يجوز أن تصبح المصلحة العامة رهينة الرغبات السياسية الشخصية والأنانية وأن تنتهك الشرعية باسم الطائفية وقواعد المحاصصة.
وبما أن مجلس الوزراء لم يقدم بعد على تعيين العضوين المنتهية مدتهما في المجلس الدستوري، وبما أن المصلحة العامة تقضي بأن يتم البت في الطعون بنتائج الانتخابات النيابية التي ستقدم من قبل أصحاب الشأن المتضررين، وعملا بقاعدة ضرورة تأمين استمرارية العمل في المؤسسات الدستورية والمرافق العامة، يحق للمجلس الدستوري بتركيبته الحالية أن ينظر في الطعون المقدمة أمامه ببعض المخالفات الانتخابية وذلك بالاستناد إلى نظامه الداخلي الذي يجيز لأعضاء المجلس الدستوري المنتهية ولايتهم الاستمرار بمهماتهم إلى حين تعيين أعضاء جدد بدلاء لهم وحلفهم اليمين القانونية. لكن هذا الحل الذي يفرض بحكم حالة الضرورة والحفاظ على المصلحة العامة، لا يعفي مجلس الوزراء من القيام بموجب تعيين عضوين مكان العضوين المنتهية مدتهما في المجلس الدستوري وبأسرع وقت ممكن.
ط
النهار 25 حزيران 2005
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
أستاذ محاضر في كلية الحقوق والعلوم السياسية التابعة لجامعة روبير شومان- فرنسا
محام بالاستئناف في نقابة بيروت
محام عام أسبق في فرنسا
يعتبر إنشاء المجلس الدستوري حدثا بالغ الأهمية في مسيرة الديمقراطية النصية( أي المعلن عنها في النصوص) في لبنان، إذ أن هذه المؤسسة العليا تؤلّف، في البلدان الراقية والعريقة بأنظمتها الليبرالية، مرجعا دستوريا تقع على عاتقه مهمات صون الحقوق الدستورية والحريات وتطوير النظام الديمقراطي وتفعيل وتدعيم بناء دولة القانون والمؤسسات. ويتحقق هذا الواقع عبر الرقابة التي يمارسها المجلس الدستوري على دستورية القوانين وسائر النصوص التي تتمتع بقوة القانون، والفصل في صحة انتخابات رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب والبت في الطعون والنزاعات الناشئة عنها والنظر في النزاعات والطعون الناشئة عن انتخابات أعضاء مجلس النواب.
ويكون من موجبات المجلس الدستوري أن يرعى المؤسسات الدستورية وأن يبعدها عن شر التسلط والاستبداد ويحثها على ممارسة مهماتها الدستورية الصحيحة. وهو بذلك يؤلّف الخط الأول المدافع عن الدستور حرصا منه على ضرورة مراعاة أحكامه وتطبيقها التطبيق الصحيح والسليم بحيث تأتي النصوص القانونية متوافقة ليس فقط مع ما تضمّنته مواده، وإنما أيضا مع مقدّمته التي تتمتع بالقوة الدستورية ذاتها. ولهذا فان المجلس الدستوري يعتبر سلاحا فعّالا ضد انحراف النظام البرلماني عن الأهداف المرسومة له دستوريا. وهذا ما أكّد عليه رئيس الحكومة الفرنسية السيد Michel Debré في بدء عهد الجمهورية الخامسة بعد إنشاء المجلس الدستوري الفرنسي حين قال:
« Avec le Conseil constitutionnel la Constitution crée une arme contre la déviation du régime parlementaire » ( Discours prononcé devant l’Assemblée générale du Conseil d’Etat en 1958).
ونظرا إلى أهمية الدور الذي يضطلع به المجلس الدستوري، كهيئة قضائية دستورية، يقتضي أن يكون مستقلا تمام الاستقلال عن باقي السلطات تطبيقا لنص المادة 20 من الدستور اللبناني التي تنص على استقلال القضاة في إجراء وظائفهم وعلى أن تصدر القرارات والأحكام من قبل المحاكم باسم الشعب اللبناني.
غير أنه يلاحظ، على هذا الصعيد، أن الاستقلالية التي يتمتّع بها المجلس الدستوري في النظام اللبناني تبقى في إطار الاستقلالية النسبية مقارنة مع بعض الأنظمة الديمقراطية في العالم ولاسيما مع النظام المعتمد في الولايات المتحدة الأميركية حيث يعين عضو المحكمة الدستورية لمدى الحياة وفق شروط دقيقة وقاسية. ويعزى هذا الخلل إلى طبيعة الآلية القانونية المعتمدة في تعيين أعضاء المجلس الدستوري والمنصوص عليها في القانون الرقم 250 الصادر في تاريخ 14 تموز سنة 1993 والذي أنشأ المجلس الدستوري اللبناني. فبموجب المادة الثانية من القانون المذكور " يعيّن مجلس النواب نصف هؤلاء الأعضاء بالأكثرية المطلقة من عدد الأعضاء الذي يتألف منه قانونا في الدورة الأولى وبالأكثرية النسبية من أصوات المقترعين في الدورة الثانية، وإذا تساوت الأصوات فالأكبر سنا يعتبر منتخبا. ويعيّن مجلس الوزراء النصف الآخر بأكثرية ثلثي أعضاء الحكومة".
ويتألف، على هذا الأساس، المجلس الدستوري من عشرة أعضاء يعيّن نصفهم مجلس النواب ويعيّن النصف الآخر مجلس الوزراء أي السلطة الإجرائية أو السياسية. وما يحد في هذه الآلية من استقلال المجلس الدستوري هو تعيين نصف أعضاء هذا المجلس على يد السلطة السياسية في البلاد.
وتكمن خطورة تعيين أعضاء المجلس الدستوري من قبل مجلس الوزراء في أن هذا الإجراء قد لا يتطابق تماما مع معايير الحياد والاستقلالية وضرورة عدم توظيف المصالح الشخصية والسياسية في هذه العملية. وهذا لأن مجلس الوزراء يتألف من عدد من الوزراء ينتمي كل منهم إلى طائفة معيّنة والى تيار أو اتجاه سياسي معيّن، وقد يهم البعض منهم أن يؤمّن مصالح طائفته أو حتى مصالح التيار أو الجهة التي ينتمي إليها في قضية تعيين أعضاء المجلس الدستوري، ما قد يؤدي إلى أن تؤخذ في الاعتبار المسائل الطائفية والسياسية والمصالح الشخصية والتدخلات والمحسوبيات لتطرح جانبا معايير الكفاءة والمناقبية والخبرة التي من الواجب أن يتمتع بها العضو المعيّن والتي يتوجب أن يؤخذ بها دون أي اعتبار آخر. وبسبب هذه الآلية غير السليمة، فان المرجعية السياسية المختصة ( مجلس الوزراء) لم تتمكّن حتى الآن من تعيين بدلاء لأعضاء المجلس الدستوري المنتهية مدة ولايتهم.
لذلك كان يُِِفضّل أن تناط مهمة تعيين كل أعضاء المجلس الدستوري بمجلس النواب على أساس من الخبرة العلمية ومن المناقبية، وبطريقة الاقتراع السري بعد إخضاعهم لمقابلة مع لجنة قضائية متخصصة مؤلّفة من أعلى القضاة في سلكي القضاء ( القضاء لإداري والقضاء العدلي) ومن نقيبي المحامين في بيروت وطرابلس، على أن يسمح لكل من تتوفر فيه الشروط القانونية أن يقدّم ترشيحه إلى عضوية المجلس الدستوري لا أن يحصر مجلس الوزراء أو مجلس النواب خياره بعدد من الأشخاص المنتقين وفقا لرغبات هذه السلطة أو تلك. وبهذا فان اختيار الأعضاء الذين تتوفر فيهم الشروط والصفات المطلوبة بطريقة الاقتراع السري وليس بطريقة التعيين، يشكّل ضمانة فعّالة لاستبعاد المحسوبيات والتدخلات والاعتبارات الشخصية والطائفية في عملية اختيارأعضاء المجلس الدستوري.
ولكن تجدر الإشارة إلى أن الآلية المعتمدة في اختيار أعضاء المجلس الدستوري في فرنسا لا تؤمّن هي أيضا استقلال هذا المجلس بالشكل الفعّال المطلوب، إذ يعيّن كل من رئيس الجمهورية ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ ثلاثة أعضاء دون التقيّد بأي معيار قانوني أو دستوري متعلّق بأهلية العضو المعيّن أو بثقافته القانونية أو الدستورية أو بمدى المستوى العلمي الذي حصّله. ولهذا النظام خطورته على استقلال المجلس الدستوري في ظل النظام السياسي الحزبي السائد في فرنسا. فأكثرية الحزب الحاكمة ( اليمين أو اليسار) هي التي تستأثر في حال فوزها في الانتخابات البرلمانية والرئاسية ( كما هي الحال حاليا) بتعيين أعضاء المجلس الدستوري الذين تنتهي في هذه الفترة مدة ولايتهم دون أن تشرك في ذلك المعارضة التي تكون خارج الحكم، إذ أن رئيس الجمهورية الذي ينتمي إلى الغالبية الحاكمة هو الذي يعيّن رئيس الحكومة من بين هذه الغالبية، بالإضافة إلى أن الأكثرية البرلمانية، أكان في الجمعية الوطنية أو في مجلس الشيوخ، هي التي تأتي برئيس لكل من هذين المجلسين وهو رئيس ينتمي إلى هذه الأكثرية بالتأكيد. وهذا يعني أن المعارضة التي تشكّل الأقلية في البرلمان وان طعنت بدستورية القوانين المطروحة من قبل الأكثرية الحاكمة، قد لا تنجح في مراجعتها إذا كانت غالبية أعضاء المجلس الدستوري قد عيّنت من قبل الأكثرية الحاكمة. فالمجلس الدستوري قد يتأثر، في هذه الحال، ولو بشكل غير مباشر بالضغوط التي قد تمارسها عليه السلطة التي سمّت أعضاءه ورئيسه الذي يعيّنه دائما رئيس الجمهورية.
وفي هذا المجال وجّهت العديد من اتهامات الانحياز وعدم الحياد إلى بعض أعضاء المجلس الدستوري في فرنسا ومنهم بيار شاتنييه ( Pierre CHATENET ) الذي هوجم على هذا الصعيد من قبل مجموعة نواب الحزب الاشتراكي في الجمعية الوطنية ( تراجع في هذا الخصوص صحيفة Le Monde تاريخ 21 كانون الثاني سنة 1976 ). كذلك الأمر بالنسبة لرئيس المجلس الدستوري الفرنسي السيد Roger FREY الذي تعرّض للانتقاد اللاذع من قبل نائب اشتراكي في الجمعية الوطنية في ما خص المناقشات التي كانت دائرة حول موضوع التأميم في تاريخ تشرين الأول سنة 1981 ، ما حدا برئيس الجمهورية آنذاك إلى التدخل لتذكير أعضاء المجلس الدستوري بواجب الحياد والتحفّظ ( يراجع في هذا الخصوص:
( Jean GICQUEL : Droit constitutionnel et institutions politiques, 18e édition, Montchrestien, 2002, p. 717).
إن هذه الآلية المعتمدة في تعيين أعضاء المجلس الدستوري في فرنسا قد تحد من استقلال هذا المجلس، ولكن ليس بشكل خطر ومستمر، وهذا لأن مدة العضو في المجلس المذكور هي تسع سنوات ( م 56 من الدستور الفرنسي) حيث يعتمد أسلوب التجديد الدوري الجزئي وذلك حرصا على مبدأ استمرارية العمل، إذ لا يجوز انتهاء ولاية كل الأعضاء دفعة واحدة في الوقت ذاته.
ويعتمد مبدأ التجديد الدوري في لبنان وفرنسا حيث يتم التجديد الدوري الجزئي كل ثلاث سنوات. ففي فرنسا عيّنت الهيئة الأولى للمجلس الدستوري على الشكل التالي: ثلاثة قضاة لثلاث سنوات، وثلاثة قضاة لست سنوات، وثلاثة قضاة لتسع سنوات. وبهذا فان تغيير الغالبية الحاكمة قد يأتي بأعضاء جدد في المجلس الدستوري غير معينين من الغالبية السابقة التي أصبحت وقت التعيين الجديد في موقع المعارضة. وهذا يؤدي إلى عدم انتماء كل أعضاء المجلس الدستوري إلى لون سياسي واحد والى استقلالية أكبر في قرارات هذا المجلس، ما لا يمكن تحقيقه في النظام اللبناني طالما أن الطبقة الحاكمة تبقى هي ذاتها ولا تأتي بها التعددية الحزبية، وطالما أن المعارضة تبقى أبدا في موقع المعارضة المسايرة وغير الفعّالة.
وفي لبنان حددت المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري المشار إليه أعلاه مدة ولاية العضو في هذا المجلس بست سنوات غير قابلة للتجديد ونصت على وجوب انتهاء ولاية نصف أعضاء أول هيئة للمجلس بعد ثلاث سنوات، واختيار هؤلاء بالقرعة. وتنص المادة ذاتها، كما القانون الفرنسي، على أن مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري غير قابلة للتجديد وعلى أن لا يجوز اختصار مدة ولاية أي منهم. وهذا ما أكّدت عليه أيضا المادة الثالثة من القانون الرقم 243 تاريخ 7 آب سنة 2000 الذي وضع النظام الداخلي للمجلس الدستوري.
وخلافا لهذه القاعدة الأساسية فان المجلس الدستوري بتركيبته الحالية يضم خمسة أعضاء لم تنته مدة ولايتهم بعد، وخمسة أعضاء آخرين انتهت مدة ولايتهم منذ حوالي سنتين وما زالوا يمارسون وظائفهم، وتم تعيين ثلاثة أعضاء من مجلس النواب منذ أشهر وهم لم يحلفوا اليمين القانونية ولم يقوموا بأية مهمة قانونية أو دستورية حتى الآن. وبهذا فلا يزال ينقص تركيبة المجلس الدستوري تعيين عضوين بقرار من مجلس الوزراء الذي لم يقدم حتى الآن على تنفيذ هذا الإجراء الضروري والملح رغم حلول مواعيد الانتخابات النيابية، هذا مع العلم أنه كان يتوجب عليه الإسراع إلى معالجة هذا الخلل قبل بدء عملية الانتخابات النيابية وذلك إفساحا في المجال أمام أصحاب الشأن والمصلحة للطعن بنتائج الانتخابات التي جرت على أساس قانون انتخابي غير عادل وغير مقبول من شريحة واسعة من اللبنانيين. وبتعيين مجلس النواب لثلاثة أعضاء في المجلس الدستوري، بات المجلس المذكور يتألف من ثلاثة عشر عضوا بدل العشرة أعضاء كون الأعضاء الثلاثة المنتهية مدتهم ما زالوا يقومون بوظائفهم ويتقاضون رواتبهم، مما يناقض قانون إنشاء المجلس الدستوري بشكل فاضح.
وبالنظر إلى المخالفات المتعلقة بالعملية الانتخابية نفسها وبنتائجها والتي يحكى عنها اليوم، فمن المتوقع أن يتلقى المجلس الدستوري قريبا عددا من الطعون القانونية بنتيجة الانتخابات.
ولهذا يطرح السؤال من الناحية الدستورية عن إمكانية النظر في هذه الطعون من قبل مجلس دستوري مؤلف من بعض الأعضاء المنتهية ولايتهم وعن إمكانية تجديد أو تمديد مدة هؤلاء الأعضاء للقيام بمهمات النظر بالطعون المذكورة إلى حين تعيين أعضاء بدلاء لهم وحلفهم اليمين القانونية.
في الحقيقة إن فكرة التجديد تخالف بحد ذاتها الأحكام القانونية وتنال من استقلال المجلس الدستوري وان كان الهدف منها تطبيق قاعدة استمرارية العمل في المؤسسات الدستورية ( أولا). ولكن يجوز للمجلس الدستوري أن ينظر في الطعون المقدمة أمامه وان كانت ولاية أحد أعضائه قد انتهت دون أن يعني ذلك أنه يجوز تمديد مدة ولاية أعضاء هذا المجلس ( ثانيا).
أولا: في عدم امكان تجديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري وان كان هدف التجديد تمكين المجلس من النظر في الطعون الانتخابية.
إن قانون إنشاء المجلس الدستوري الرقم 250 الصادر في 14 تموز سنة 1993 نص في مادته الرابعة على عدم إمكان تجديد مدة ولاية هؤلاء الأعضاء. وأكّد المشرّع على هذه القاعدة بنص المادة الثالثة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري الذي وضع بالقانون الرقم 243 تاريخ 7 آب سنة 2000. وهذا يعني بمعنى آخر انه لا يجوز أن يتم تعيين عضو المجلس الدستوري ذاته لمدة ست سنوات جديدة بعد انتهاء مدة ولايته. والعبرة التي قصدها المشرّع من وراء هذا المنع هي تأمين استقلال القاضي الدستوري وعدم تزلّفه لأي سلطة سياسية أو تشريعية طمعا في التجديد له بحيث تأتي قراراته ومواقفه الدستورية مجرّدة من كل غاية أو مصلحة شخصية مرتبطة بالطموح للتجديد.
لكن القاعدة التي تحظّر التجديد لا تطبق على الأعضاء الذين يعيّنون لملء المراكز الشاغرة. فالفقرة الأخيرة من المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري تنص على ملء مركز أحد الأعضاء، الشاغر بسبب الاستقالة أو الوفاة أو العجز الصحي أو لأي سبب آخر، بالطريقة ذاتها التي يتم بها التعيين وللمدة المتبقية من ولاية من شغر مركزه. وفي هذه الحال لا تطبق على العضو البديل قاعدة منع التمديد إذا كانت المدة المتبقية من ولاية العضو الأصيل تقل عن سنتين.
فالقاعدة القانونية تقضي إذن بعدم التجديد ولا يجوز الخروج عليها إلا استثناء وفقط في حال عيّن العضو في المجلس الدستوري لملء المركز الشاغر وفق ما تنص عليه الفقرة الأخيرة من المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري وعلى أن تكون المدة المتبقية من ولاية العضو الأصيل تقل عن سنتين. وهذا ما هو معمول به في فرنسا حيث يحظّر الدستور الفرنسي تجديد مدة ولاية عضو أو رئيس المجلس الدستوري ما عدا الحالة الاستثنائية الملحوظة في القانون الصادر في تاريخ 7 تشرين الثاني سنة 1958 ، وهي ذاتها التي وردت في القانون اللبناني، والقاضية بإمكان تجديد ولاية عضو المجلس الدستوري الذي عين لملء المركز الشاغر شرط أن تكون المدة المتبقية من ولاية العضو الأصيل تقل عن ثلاث سنوات وليس عن سنتين كما جاء في المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري اللبناني ( م 12 من القانون الفرنسي الصادر في 7 / 11/ 1958 – انظر في هذا الخصوص أيضا :
F. LUCHAIRE : La durée du mandat du président du Conseil constitutionnel ; la vie judiciaire, 28 décembre 1986 – J.BOURDANT : Le président du Conseil constitutionnel, RDP 1987, p. 581).
وانطلاقا من هذه القاعدة الأساسية يمكن التأكيد على أن أي قرار يتخذ بتجديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري خارج الحالة الاستثنائية الوحيدة المحددة حصرا بنص المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري والمشار إليها آنفا وبنص المادة الثالثة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري، يكون مخالفا للقانون وتاليا لأحكام الدستور. ذلك أن المادة الرابعة من قانون إنشاء المجلس الدستوري والمادة الثالثة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري تشكّلان قاعدة قانونية ملزمة، إذ أنهما وضعتا بموجب نص دستوري وهو نص المادة 19 من الدستور التي جاء فيها انه " ينشأ مجلس دستوري لمراقبة دستورية القوانين والبت في النزاعات والطعون الناشئة عن الانتخابات الرئاسية والنيابية... وتحدد قواعد تنظيم المجلس وأصول العمل فيه وكيفية تشكيله ومراجعته بموجب قانون".
إن غالبية الأنظمة في العالم تجعل من ولاية أعضاء المجلس الدستوري غير قابلة للتجديد. وهذا ما أعتمده المشرّع اللبناني بنص المادة الرابعة من قانون المجلس الدستوري. وذلك على غرار ما هو معمول به في التشريع الفرنسي ( القانون الفرنسي الصادر في تاريخ 7/ 11 / 1958 ). والهدف الأول والأساسي من منع التجديد يكمن في ضمان استقلالية القاضي الدستوري المعيّن وحياده وعدم ارتهانه للسلطة التي عينته. هذا لأنه، كما يقول Roger Collard ،" حيث لا وجود لقضاة يتمتعون بالاستقلالية والحياد، لا نكون سوى أمام مندوبين للسلطة الحاكمة" ( أنظر في هذا الخصوص :
Jean GICQUEL , Op. cit , p. 718 ).
وعلى هذا الأساس، لا تجدد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري حفاظا على استقلاليتهم ولعتقهم من أي ارتهان أو امتنان للسلطة التي قررت تعيينهم. فعضو المجلس الدستوري الذي يعلم مسبقا أن ولايته لا تتعدى الست سنوات مهما كانت الظروف ومهما عظمت المصائب والأحداث التي قد تعصف بالبلاد، يعمل دائما بذهنية المتحرر من أي وصاية أو تسلط أو تدخل لأنه لا يمكنه أن يطمح لارضاء هذه السلطة أو تلك ( السلطة التي عينته أو السلطة التي قد يمكنها أن تجدد ولايته أو تمددها) طالما أن القانون يحظّر التجديد.
وتتأمن بذلك استقلالية القاضي الدستوري ويطمئن المواطن إلى قراراته التي يفترض أن تكون منزهة عن أي مصلحة شخصية أو رغبة في إرضاء سلطة التعيين والتجديد أو التمديد، ما يعزز بشكل فعّال مكوّنات النظام الديمقراطي في البلد القائمة خصوصا على حماية الحريات وتحقيق العدالة واستقلال المؤسسات الدستورية كافة. وهذا ما يؤكّد عليه صراحة العلاّمة الدستوري جان جيكال بقوله:
« Les membres du conseil constitutionnel disposent, en contrepartie de leur obligation de réserve, des moyens d’accomplir leur mission en toute liberté. Outre la transfiguration ou l’admirable ingratitude, à laquelle tout serviteur de l’Etat de droit peut songer, en mémoire du Chancelier Thomas More, les conseillers sont nommés pour un mandat de neuf ans ( art. 56, al. 1er de la Constitution), qui ne peut être, ni renouvelé, ni révoqué. En un mot, ils bénéficient de l’inamovibilité. Le non-renouvellement du mandat se présente, objectivement, comme un gage d’indépendance par rapport à l’autorité de nomination » ( Jean GICQUEL : Op.cit, p. 718-719).
من جهة أخرى، يهدف المشرّع من خلال تحظير تجديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري إلى قطع الطريق أمام السلطة التي يعود لها حق تعيين أعضاء المجلس الدستوري لمنعها من محاولة جعل الأعضاء الطامحين إلى تجديد أو تمديد ولايتهم رهائن امتنان لها، ومن أن تمارس عليهم الضغوط بسلاح الترغيب من جهة أو التهديد بحرمانهم من التجديد من جهة أخرى. وبهذا فان منع تجديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري أو تمديدها يضع عضو المجلس الدستوري بمنأى عن كل ضغط ترغيبي أو ترهيبي، وفي موقع مستقل ومحايد بعيدا عن التزلّف والتملّق والامتنان والعرفان بالجميل إزاء السلطة التي عينته طالما أنه لا يمكنه أن ينتظر تحقيق أي رغبة أو طلب. مما يجعل من المجلس الدستوري قضاء مستقلا لا يتأثر لا بتوجهات السلطة التي أتت بأعضائه ولا برغباتها السياسية أو الشخصية. وهذا ما عبّر عنه صراحة العلاّمة الدستوري Frédéric ROUVILLOIS في فرنسا حين قال:
« … Le mandat des membres du Conseil constitutionnel n’est pas renouvelable. Cette disposition assure aux membres du Conseil une réelle liberté : elle leur permet d’assumer sans remords leur « devoir d’ingratitude » » ( Droit constitutionnel, La Ve République, édition Flammarion , 2001, p. 238- V. aussi en ce sens : D. ROUSSEAU : Sur le Conseil constitutionnel, la doctrine BDINTER et la démocratie, Descartes et Cie , 1997, p. 37).
إن ما يؤكّد أيضا حرص المشرّع على عدم تجديد ولاية أعضاء المجلس الدستوري لضمان استقلال وحياد القاضي الدستوري وعدم ارتهانه لعامل إغوائه بالتجديد أو التمديد له، هو نصه على منع اختصار مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري ( م 4 من قانون المجلس الدستوري ). وهذا يعني أن المشرع أراد أن يحمي هؤلاء ضد أي ضغط أو هيمنة، بما يؤمّن الحرية اللازمة لكل منهم من أجل القيام بمهماته وفقا لما يمليه عليه ضميره وما تفرضه عليه المبادئ والقواعد الدستورية، وبما يجعل من المجلس الدستوري سلطة قضائية مستقلة.
لذلك فان كل اتجاه نحو التجديد لأعضاء المجلس الدستوري المنتهية مدتهم سيعد انتهاكا صارخا لأحكام القانون، واعتداء على مبدأ استقلال القاضي وحياده المصون بنصوص الدستور، وهو مبدأ وضعه المجلس الدستوري اللبناني في مصاف المبادئ الدستورية في قراره الصادر في تاريخ 27 حزيران سنة 2000 على اثر المراجعة التي قدمت ضد القانون الرقم 227 تاريخ 31 أيار 2000 المتعلق ببعض مواد نظام مجلس شورى الدولة. هذا عدا عن أن قرار التجديد، في حال صدوره، سيشكّل سابقة خطيرة في النظام اللبناني قد تؤدي إلى فتح الباب أمام هذا النوع من الهرطقيات القانونية والدستورية التي تطال من استقلال المؤسسات الدستورية كافة ومن صدقيتها ومصداقيتها.
وانطلاقا من هذه المبادئ لا يجوز للسلطات المختصة أن تجدد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري المنتهية مدتهم وان كان التجديد يهدف الى تمكين هذا المجلس من النظر في الطعون المقدمة أمامه بنتائج الانتخابات النيابية وتأمين احترام قاعدة استمرارية المؤسسات الدستورية. لكن السؤال يطرح عن جواز تمديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري كي يتمكّن هذا المجلس من النظر في الطعون المقدمة أمامه وكي تحترم قاعدة استمرارية العمل في المؤسسات الدستورية.
ثانيا: في استمرارية مهمات المجلس الدستوري المنتهية مدة ولاية أعضائه إلى حين تعيين أعضاء جدد.
إن تمديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري يفترض أن تضاف على المدة القانونية ( وهي ست سنوات) لولاية هؤلاء فترة معيّنة بقرار تتخذه السلطة التي يعود لها حق التعيين ( المجلس النيابي ومجلس الوزراء). وقد تبلغ الفترة المضافة شهر أو عدة أشهر أو حتى عدة سنوات دون أن تبلغ الست سنوات. وقد يأتي هذا التمديد بحجة تخطي ظرف قاهر معيّن أو حوادث استثنائية قد تقف حائلا دون عملية التعيين العادية. لكن السؤال يطرح عن مدى قانونية ودستورية هذا الإجراء.
يقتضي للجواب على هذا السؤال عدم الخلط بين قرار تمديد ولاية أعضاء المجلس الدستوري وما جاء في المادة الرابعة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري الموضوع بالقانون الرقم 243 تاريخ 7 آب سنة 2000. فهذه المادة نصت على أنه " عند انتهاء الولاية، يستمر الأعضاء الذين انتهت ولايتهم في ممارسة أعمالهم إلى حين تعيين بدلاء عنهم وحلفهم اليمين". وهي تأتي لتؤكّد عدم إمكان تمديد ولاية أعضاء المجلس الدستوري بقرار من السلطات المختصة مهما كانت الظروف التي حالت دون تعيين أعضاء جدد قاهرة واستثنائية.
فلو أن الظروف القاهرة أو الاستثنائية تسمح بتمديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري، لما كان المشرّع وضع نص المادة الرابعة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري التي تدل بوضوح تام على نيته الحقيقية وعلى ما أراد من خلال حيثياتها وخصوصا أن هذه الحيثيات تصرّ على أن يستمر الأعضاء المنتهية ولايتهم في ممارسة مهماتهم إلى حين تعيين أعضاء جدد. فهو عملا بالقاعدة الأساسية التي وضعها في قانون إنشاء المجلس الدستوري والقاضية بعدم تجديد مدة ولاية أعضاء المجلس الدستوري، جاء ليؤكّد أيضا في النظام الداخلي لهذا المجلس على عدم إمكان تمديد هذه الولاية بإصراره على بقاء الأعضاء المنتهية ولايتهم إلى حين تعيين أعضاء جدد، وذلك حرصا منه على مبدأ استقلال قضاء المجلس الدستوري وعلى عدم السماح للسلطة الإجرائية أو حتى للسلطة التشريعية التستر بغطاء الظروف الاستثنائية أو القاهرة كي تمدد لأعضاء المجلس الدستوري الذين أتت بهم. لكنه أراد في الوقت ذاته أن يؤمّن استمرارية عمل المجلس الدستوري منعا لأي فراغ دستوري، فنص على ضرورة أن يستمر الأعضاء المنتهية ولايتهم في ممارسة أعمالهم إلى حين تعيين بدلاء عنهم وحلفهم اليمين، أي إلى حين زوال الظرف الذي وقف عثرة أمام تعيين الأعضاء الجدد.
وعلى هذا الأساس، فإذا كان المانع اليوم من تعيين أعضاء جدد للمجلس الدستوري بدلاء عن الأعضاء المنتهية ولايتهم يكمن في الخلافات الرئاسية أو في الخلافات السياسية وغيرها القائمة بين أركان الحكم، فان الأعضاء الذين انتهت ولايتهم يستمرون في ممارسة مهماتهم إلى حين انتهاء هذه الخلافات وقيام مجلس النواب ومجلس الوزراء بتعيين الأعضاء الجدد مكانهم بالطريقة التي نص عليها القانون، إذ لا يجوز أن يتم تعيين بعض هؤلاء من قبل المجلس النيابي منفردا في وقت لا يقوم مجلس الوزراء بتعيين الأعضاء الباقين، مما يوجب الاتفاق بين المجلس النيابي ومجلس الوزراء على هذا الأمر حتى تتم عملية التعيين بشكل كامل. وذلك حرصا على استمرارية العمل في المجلس الدستوري وحماية للمصلحة العامة. على أن استمرار أعضاء المجلس الدستوري المنتهية ولايتهم في القيام بمهماتهم تطبيقا للمادة الرابعة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري، لا يعني إطلاقا أنه تم التمديد قانونا لهؤلاء. فمدة استمرارهم في القيام بمهماتهم لا تكون محددة في هذه الحال، إذ أنها تكون مرتبطة بزوال الظرف الذي يحول دون قيام السلطة المختصة بتعيين الأعضاء الجدد مكانهم. وهذا هو العنصر القانوني الأساسي الذي يفرّق هذا الوضع ( وضع الاستمرار الموقت في القيام بأعمال المجلس الدستوري) عن وضع التمديد لأعضاء المجلس الدستوري المنتهية ولايتهم الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بقرار صادر عن السلطة المختصة التي تحدد بموجبه مدة التمديد. فالتمديد لا يتحقق إذن إلا بقرار من السلطة المختصة، في حين أن استمرار أعضاء المجلس الدستوري المنتهية مدة ولايتهم في القيام بمهماتهم لا يحتاج إلى أي قرار في هذا الخصوص. أضف إلى ذلك أن ولاية الأعضاء الذين مدد لهم لا تنتهي إلا بانتهاء المدة التي حددت بقرار التمديد، بينما أن الأعضاء الذين يستمرون في القيام بمهماتهم عملا بنص المادة الرابعة من النظام الداخلي للمجلس الدستوري يتوقفون حكما عن القيام بهذه المهمات فور تعيين أعضاء جدد بدلاء لهم وحلفهم اليمين القانونية. ولهذا يتوجب على مجلس الوزراء الإسراع إلى تنفيذ هذا الإجراء الضروري منعا لقيام أوضاع شاذة وغير طبيعية، إذ لا يجوز أن يستمر العضو المنتهية ولايته في وظائفه إلى ما لا نهاية بسبب الخلافات السياسية بين أهل الحكم ولا يجوز أن تصبح المصلحة العامة رهينة الرغبات السياسية الشخصية والأنانية وأن تنتهك الشرعية باسم الطائفية وقواعد المحاصصة.
وبما أن مجلس الوزراء لم يقدم بعد على تعيين العضوين المنتهية مدتهما في المجلس الدستوري، وبما أن المصلحة العامة تقضي بأن يتم البت في الطعون بنتائج الانتخابات النيابية التي ستقدم من قبل أصحاب الشأن المتضررين، وعملا بقاعدة ضرورة تأمين استمرارية العمل في المؤسسات الدستورية والمرافق العامة، يحق للمجلس الدستوري بتركيبته الحالية أن ينظر في الطعون المقدمة أمامه ببعض المخالفات الانتخابية وذلك بالاستناد إلى نظامه الداخلي الذي يجيز لأعضاء المجلس الدستوري المنتهية ولايتهم الاستمرار بمهماتهم إلى حين تعيين أعضاء جدد بدلاء لهم وحلفهم اليمين القانونية. لكن هذا الحل الذي يفرض بحكم حالة الضرورة والحفاظ على المصلحة العامة، لا يعفي مجلس الوزراء من القيام بموجب تعيين عضوين مكان العضوين المنتهية مدتهما في المجلس الدستوري وبأسرع وقت ممكن.
ط
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)