حرب إسرائيل على لبنان: انتهاك فاضح وخطير للقانون الدولي الإنساني ولحقوق الإنسان
بقلم الدكتور دريد بشرّاوي
أستاذ محاضر في القانون الجنائي الدولي وفي القانون الجنائي العام والإجراءات الجنائية في كلية الحقوق والعلوم السياسية التابعة لجامعة روبير شومان- فرنسا
محام عام أسبق- محام بالاستئناف
- تعريف القانون الدولي الإنساني والنزاعات المسلحة
يُعرّف القانون الدولي الإنساني، الذي يسمى أيضا قانون " النزاعات المسلحة"، بأنه مجموعة المبادئ والقواعد التي تحمي في زمن الحرب الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية أو الذين كفّوا عن المشاركة فيها والتي تحد من استخدام العنف أثناء الحرب أو من الآثار الناجمة عنها تجاه الإنسان عامة. ويعتبر هذا القانون فرعا من فروع القانون الدولي العام لحقوق الإنسان، غرضه حماية الأشخاص المدنيين في حالة نزاع مسلّح وحماية الممتلكات والأموال والمنشآت التي ليست ذات طابع عسكري، وهو يسعى إلى رفع أي اعتداء عسكري عن السكان غير المشتركين بصورة مباشرة أو الذين كفّوا عن الاشتراك في النزاعات المسلحة مثل الجرحى والغرقى وأسرى الحرب. وكان قد انطلق القانون الدولي الإنساني باتفاقية " جنيف" الأولى سنة 1864 التي تلتها عدة اتفاقيات وبروتوكولات هامة في هذا الحقل. هذا مع العلم أن النزاع المسلّح الدولي ينشب بين القوات المسلحة لدولتين على الأقل، أما النزاع المسلّح غير الدولي فهو المواجهة العسكرية التي تحصل داخل إقليم دولة معينة بين القوات المسلحة النظامية وجماعات مسلحة يمكن التعرّف على هويتها، أو فيما بين جماعات مسلحة غير نظامية. وتحكم قواعد القانون الدولي الإنساني النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية على السواء.
- النصوص الدولية المنتهكة.
وبغض النظر عن موضوع صدقية الذريعة التي على أساسها تمكنت دولة إسرائيل من شن حربها المدمرة على لبنان ( عملية خطف جنديين إسرائيليين)، ومن دون الخوض في مسألة شرعية عمل المقاومة " الإسلامية" في لبنان وفي ما إذا كانت هذه المقاومة تعبّر فعلا عن إرادة الشعب اللبناني، كل الشعب اللبناني، أو ما إذا كانت مسيرة بمشاريع إقليمية وعلى الأخص إيرانية وسورية، فان استهداف الهجوم الإسرائيلي البربري أولا وآخرا وبصورة متعمّدة المدنيين الأبرياء والآمنين والبنى التحتية والاقتصادية في هذا البلد يناقض بشكل فاضح وصارخ القانون الدولي الإنساني ولاسيما الاتفاقيات والصكوك الدولية التي ترعى النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية وقواعد الحرب ويؤسّس جرائم حرب خطيرة يعاقب عليها القانون الدولي الجزائي.
وبالفعل فان القانون الدولي الإنساني يحظّر هذا العنف المستمر والممارس على المدنيين من أطفال وشيوخ ونساء بصورة منظمة ومنهجية، كما تحرّمه كل الديانات السماوية في حدود تحقيق العدالة في صراعات أو مواجهات يكون الهدف منها رد الظلم والطغيان والدفاع عن النفس والحياة والممتلكات مع "احترام الإنسانية في الإنسان البريء الذي أجمعت الأديان كلها على "ومضة عزة الله" في خلقه وتكوينه" ( الدكتور العميد علي عوّاد: قانون النزاعات المسلحة، دليل الرئيس والقائد، دار المؤلّف، 2004 ، ص 17 وما يليها). وبالإضافة إلى ذلك فإن الحضارات كلها تجسّد هذه القيمة الإنسانية وترفض الظلم الذي يكمن في إيقاع الأذى بغير وجه حق وعدل بواسطة أسلحة مدمرة ومحظورة دوليا. ذلك إن الهدف من "الحرب العادلة" هو وضع حد لاغتصاب حقوق الشعب وليس ارتكاب جرائم حرب وضد الإنسانية ضد شعب آخر والخروج على تقاليد الأديان والقيم الإنسانية وقواعد القانون الدولي الإنساني. ومن هذا المنطلق بالذات، وبالتأسيس على هذه القيم والقواعد، فان قانون النزاعات المسلحة ( القانون الدولي الإنساني- قانون الحرب) يهدف أساسا إلى حماية الإنسانية وحقوق الإنسان من خلال القوانين والاتفاقيات والمعاهدات والمواثيق الدولية التي تحدد قيود استخدام القوة العسكرية في النزاعات المسلحة والتي ترتكز خصوصا على المبادئ الإنسانية والأعراف الدولية المستقرة والمعترف بها دوليا. ومن أهم هذه النصوص الدولية :
- اتفاقية " جنيف الأولى" لسنة 1864.
- إعلان سان بطرسبرغ لعام 1868 لحظر القذائف المتفجرة.
إعلان لاهاي لسنة 1899 حول قذائف " دم دم " والغازات الخانقة.
اتفاقية " لاهاي" لعام 1907 وهي تتضمن نصوصا أساسية تضع ضوابط وقواعد وأصول مهمة للنزاعات المسلحة، إذ أنها تهدف إلى تنظيم وسائل حل النزاعات بين الدول بالطرق السلمية والى وضع قيود على استخدام الأسلحة في النزاعات المسلحة البرية والبحرية.
اتفاقية هيج لعام 1907 التي تتضمن قواعد مهمة تتعلق بمفهوم الحياد وبمفهوم الاحتلال وبكيفية إدارة العمليات الحربية. يشار إلى أنه أضيفت على هذه الاتفاقية قواعد الحرب الجوية التي وضعت مسودتها في العام 1923 من دون أن تعتمد بشكل رسمي حتى الآن.
بروتوكول جنيف بشأن تحظير استعمال الغازات السامة والأسلحة الجرثومية لعام 1925.
ميثاق الأمم المتحدة.
اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949.
اتفاقية لاهاي لعام 1954 لحماية المواقع الثقافية في زمن النزاعات المسلحة.
اتفاقية حظر الأسلحة البيولوجية لعام 1972 .
اتفاقية أوسلو لمنع استخدام بعض الأسلحة.
اتفاقية باريس لتحظير استعمال الأسلحة الكيماوية.
اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1980 بشأن حظر أو تقييد بعض الأسلحة التقليدية.
البروتوكولان الإضافيان لاتفاقيات جنيف الأربع الموقعان في العام 1977 لاستكمال الحماية التي تضمنها اتفاقيات جنيف لعام 1949 في النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية ( أي النزاعات المسلحة الداخلية). ويذكر أن موضوع الاتفاق الأول ضحايا النزاعات المسلحة الدولية، وهو يتضمن اعتبار حروب التحرير الوطني نزاعا دوليا مسلحا. ويعترف هذا البروتوكول لمقاتلي حرب العصابات بصفة المقاتل وصفة أسير الحرب ويهتم بالسكان المدنيين وصيانتهم وتجنيبهم تبعات النزاع المسلح أثناء العمليات العسكرية بهدف الحد من الأخطار التي تحدق بهم في زمن الحرب، أما البروتوكول الثاني فيعرّف النزاع المسلّح غير الدولي ويدعّم الضمانات الأساسية لغير المقاتلين وتقديم الخدمات اللازمة لمساعدة الأسرى.
اتفاقية أوتاوا لعام 1997 لمنع استخدام الألغام ضد الأفراد.
ومن بين هذه النصوص، تؤلّف اتفاقيات جنيف المصادق عليها سنة 1949 والبروتوكولان المضافين عليها في سنة 1977 واتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية المرتكز القانوني الأساس للقانون الدولي الإنساني المطبق على النزاعات المسلحة وللقضاء الجنائي الدولي الدائم ( المحكمة الجنائية الدولية التي أنشئت بموجب اتفاقية روما لعام 1998 والتي بدأت العمل منذ تاريخ الأول من تموز سنة 2002 ).
- حق الدفاع عن النفس المنصوص عليه في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة لا يبرّر ضرب المدنيين.
يتبيّن من خلال تمحيص نصوص الاتفاقيات والصكوك الدولية المذكورة أعلاه أن الحرب المدمرة والمبرمجة التي يشنها الجيش الإسرائيلي اليوم على لبنان والتي ينتج منها قصف المدنيين الآمنين وتشريد مئات الآلاف منهم وضرب البنى التحتية والاقتصادية في هذا البلد من دون التركيز أولا وأساسا على الأهداف العسكرية لحزب الله ومن دون التمكّن حتى الآن من ضرب أي موقع عسكري تابع للمقاومة، تشكّل خرقا فاضحا لقوانين النزاعات المسلحة وللمبادئ العامة والأعراف التي يقوم عليها القانون الدولي الإنساني وان كانت إسرائيل ترتكز في حربها الضروس هذه على مبدأ حق الدفاع عن النفس المكرّس بنص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. ذلك أن ضخامة واتساع العمليات العسكرية التي تنفذها إسرائيل في لبنان منذ عشرة أيام يثبت تخطيها لحق الدفاع عن النفس المنصوص عليه في ميثاق الأمم المتحدة من حيث استهداف هذه العمليات بالدرجة الأولى وبشكل منظم ودائم المنشآت والبنى المدنية والجسور ودور العبادة والمدنيين الذين لا تربطهم بالمقاومة أي صلة عسكرية والذين لم يمدوا يد العون لمقاتلي المقاومة، ومن حيث استعمال الجيش الإسرائيلي لكم هائل ومخيف من الأسلحة المدمرة والمتطورة وحتى بعض الأسلحة التي تحظرها الاتفاقيات الدولية. ومن هنا، يتأكد بوضوح أن إسرائيل تخرق أحكام المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تعترف بحق كل دولة بالدفاع عن نفسها إما بشكل فردي وإما بشكل جماعي، وذلك لعدم تناسب وسائل الدفاع التي تستعملها مع خطورة الاعتداء الذي وقع عليها ( خطف الجنديين)، هذا إذا كان هناك فعلا من اعتداء. وعليه، لا يمكن التسليم بأن العملية المدمرة التي تقوم بها تستند إلى حق الدفاع عن النفس، إذ أن هذا الحق لا يقوم إلا في حال كانت وسيلة رد العدوان متناسبة مع حجم خطورة وقوة العدوان الواقع. يضاف إلى ذلك إن نص المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة يضع لزاما على الدولة التي تستعمل حق الدفاع بأن تبلّغ مجلس الأمن فورا "بعملية رد العدوان" أو بإجراءات استعمال حق الدفاع، على أن لا يحول هذا الدفاع عن النفس دون تمكّن مجلس الأمن من القيام بالإجراءات التي يراها مناسبة من أجل الحفاظ على السلم والأمن الدولي تطبيقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ويلاحظ، في هذا السياق، أن مجلس الأمن الذي يقع على عاتقه موجب حفظ الأمن والسلم الدوليين وفقا لما ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة لم يبادر بعد إلى اتخاذ قرار بوقف شامل لإطلاق النار في وقت ترتكب فيه إسرائيل مجزرة بحق اللبنانيين المدنيين وجرائم حرب خطيرة يعاقب عليها القانون الدولي الجنائي وتشرّد مئات الآلاف منهم وتدمّر البنى التحتية للبنان بشكل وحشي.
لذلك فان هذا الموقف الصامت يدل على أن العدالة الدولية تكيل بمكيالين وان هذه العدالة هي عدالة القوي ضد الضعيف، وعدالة التسلّط والهيمنة والاحتلال ضد حق الشعوب في الحرية وتقرير المصير. وهذا الواقع الأليم يثبت أيضا أن المجتمع الدولي يقف دائما موقف المتفرّج عندما يتعرّض لبنان لاعتداء ما رغم هول وشراسة الاعتداء. فلبنان محكوم عليه بأن يكون دائما ساحة لتنفيذ المشاريع الإقليمية ولتصفية الحسابات والصراعات الإقليمية والدولية وبأن يكون حقلا لتجارب الأسلحة ولعرض العضلات العسكرية على حساب اقتصاده وأمن سكانه وبناه التحتية التي دمّرت بفعل هذه الحرب البربرية التي تشنها إسرائيل على المدنيين. كل هذا يتم وللأسف أمام أعين المجتمع الدولي الذي يقف موقف المتفرّج أو العاجز، مما يشجّع المعتدي على الإمعان في اعتداءاته وفي انتهاكه لكل القواعد والمبادئ الأساسية لقانون النزاعات المسلحة ( أولا) ولكل الاتفاقيات والمواثيق المعنية بحماية حقوق الإنسان ( ثانيا).
أولا: انتهاك القواعد والمبادئ الأساسية لقانون الحرب أو النزاعات المسلحة.
إن الحرب الحالية التي تقودها إسرائيل ضد لبنان والتي باستمرارها على النحو البربري والوحشي الذي تعتمده أساسا لنجاحها وذلك بالقضاء على أكبر عدد ممكن من المدنيين العزّل والأبرياء وبتهديم ما أمكن من المنشآت المدنية والجسور والبيوت، تشكّل انتهاكا فاضحا للعديد من القواعد والمبادئ الأساسية التي تحكم النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية، إذ أنها تخالف مبدأ الضرورة في اللجوء إلى استعمال القوة والحل العسكري، ومبدأ التقيّد بحدود دولية معينة لاستعمال وسائل القتال، وموجب تحييد المدنيين ومبدأ تناسب الوسيلة العسكرية المستعملة مع حجم الاعتداء أو الخطر المحدق بالجهة التي تلجأ إلى القوة من أجل حل نزاعها مع الطرف المستهدف.
مخالفة مبدأ الضرورة في اللجوء إلى استعمال القوة أو الحل العسكري
لا تسمح قواعد القانون الدولي الإنساني باللجوء إلى استعمال القوة من اجل حل النزاعات بين الدول أو في داخل الدول إلا في حالة الضرورة القصوى بحيث تكون القوة الوسيلة الوحيدة التي يمكن استخدامها من أجل التوصل إلى حفظ السلم والأمن الدوليين أو من اجل رد العدوان أو وضع حد للأعمال الإرهابية التي تتعرض لها الدولة المعتدى عليها. وهذا ما يمكن استنتاجه من نص البند الثالث من المادة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة الذي جاء فيه أنه " يفض جميع أعضاء الهيئة منازعاتهم الدولية بالوسائل السلمية على وجه لا يجعل السلم والأمن والعدل الدولي عرضة للخطر". وهذا ما يؤكّد عليه أيضا وبشكل صريح البند الرابع من المادة ذاتها بنصه على أنه " يمتنع أعضاء الهيئة جميعا في علاقاتهم الدولية عن التهديد باستعمال القوة أو استخدامها ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأية دولة أو على أي وجه آخر لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة". مما يعني أن الدولة المعنية لا يمكنها استعمال القوة العسكرية ضد دولة أخرى أو بلد آخر إلا في حالة الضرورة كحالة الدفاع عن النفس أو كالحالة التي يصبح فيها استخدام القوة العسكرية الوسيلة الوحيدة المتوفرة لرد العدوان أو لحفظ الأمن والسلم الدوليين أو لمواجهة أعمال إرهابية تطال من أمن الدولة المعنية ومن سلامة مواطنيها. ولكن حتى في هذه الحالات لا يمكن استخدام مبدأ الضرورة الحربية كعذر يبرر القيام بأعمال غير إنسانية وانتهاكات تعبّر عن عدم الامتثال لقواعد قانون النزاعات المسلحة.
ومن مراجعة مجرى وطبيعة الأعمال الحربية التي قام بها الجيش الإسرائيلي ضد لبنان، يتبيّن أن هذه الأعمال لا يمكن إسنادها إلى حالة الضرورة العسكرية، ذلك أن فعل خطف الجنديين الإسرائيليين لا يؤلّف مبررا كافيا ومقنعا كي يستخدم كأساس شرعي لهذه الحرب الشرسة التي شنتها إسرائيل ضد لبنان، وهذا لأن هذا الفعل وان كان يتصف بالخطورة بالنسبة لدولة إسرائيل وبالنسبة للمجتمع الدولي، فهو لم يهدد فعلا الكيان الإسرائيلي ولم يحمل اعتداء خطيرا على أمن إسرائيل وسلامة مواطنيها ولا يبرر تاليا حربا مدمرة ومنظمة واسعة النطاق. هذا من جهة، أما من جهة ثانية فحالة الضرورة العسكرية لا تقوم قانونا إلا إذا كانت مسندة إلى سبب شرعي أو قانوني، مما يعني أنه لا يمكن اعتبار فعل خطف الجنديين الإسرائيليين اعتداء فعليا ضد الجيش الإسرائيلي طالما أن إسرائيل لا زالت تحتفظ بعدد من الأسرى اللبنانيين من دون وجه حق. ومن هنا، فان فعل خطف الجنديين الإسرائيليين يمكن إدخاله في خانة عمل المقاومة الشرعي ضد العدو الذي تجيزه شرعة الأمم المتحدة في البند الثاني من مادتها الأولى ( حق الشعوب في تقرير المصير).
وبالتأسيس على هذه العناصر يمكن التأكيد على أن الحرب التي تشنها اليوم دولة إسرائيل ضد لبنان لا تقوم على أساس الضرورة العسكرية، وذلك من جهة لأن هذه الضرورة لا تستند إلى أي مبرر موضوعي حقيقي ولأن العملية الحربية التي يراد تبريرها بالضرورة العسكرية لا تتمتع بالشرعية الحاسمة من جهة ثانية.
مخالفة مبدأ التقيّد بحدود معّينة في عملية استعمال القوة العسكرية.
إن حق اللجوء إلى استعمال القوة العسكرية ضد دولة ما أو مجموعة ما لا يعتبر حقا مطلقا، إذ أنه يخضع لقيود نصت عليها قواعد قانون النزاعات المسلحة وفرضت على جميع الدول التقيد بها واحترامها. فقد أكّدت المادة 35 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف الموقع في العام 1977 على « إن حق أطراف أي نزاع مسلح في اختيار أساليب ووسائل القتال ليس حقا لا تقيده قيود". وفي الاتجاه ذاته، كانت قد أشارت صراحة المادة 22 من اتفاقية لاهاي المتعلقة بقوانين وأعراف الحرب البرية الموقعة في 18 تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1907 إلى أنه " ليس للمتحاربين حق مطلق في اختيار وسائل إلحاق الضرر بالعدو".
وعلى هذا الأساس، ليس للمتحاربين الحق غير المقيّد بأي قيد في اختيار وسائل الإضرار، وهذا لأن الهدف الرئيسي للحرب يكون ضرب القوة العسكرية للعدو وإيقاع الهزيمة به. وفي السياق ذاته، يحظّر البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1949 استخدام الأسلحة التي من شأنها زيادة معاناة الجرحى وآلامهم وجعل تدهور حالتهم الصحية أو موتهم أمرا محتوما ومؤكدا. وهذا ما كانت قد أكّدت عليه من قبل المادة 12 من اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى بالقوات المسلحة في الميدان المؤرخة في 12 آب / أغسطس 1949 والتي جاء فيها أنه " يجب في جميع الأحوال احترام وحماية الجرحى والمرضى من أفراد القوات المسلحة وغيرهم من الأشخاص المشار إليهم في المادة التالية". وكذلك تنص المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين في وقت الحرب على أنه " يكون الجرحى والمرضى وكذلك العجزة والحوامل موضع حماية واحترام خاصين...".
وبالنظر إلى هذه القواعد، يظهر أن إسرائيل لم تفرط في استعمال القوة العسكرية فحسب وإنما لم تتقيد بأي حدود أو سقف في تنفيذ عملياتها العسكرية حيث لجأت إلى استعمال كافة الأسلحة الثقيلة وحتى بعض الأسلحة المدمرة وغير المسموح استعمالها والمحرّمة دوليا ضد المدنيين العجزة ولأطفال والنساء والمرضى من دون تمييز ومن دون شفقة أو رحمة ولم تضع لعملياتها الحربية أي حدود أو أهداف واضحة ومحددة غير تلك التي تبتغي القتل والدمار والتهجير ليس إلا. هذا بالإضافة إلى أن الأعمال الحربية العنيفة التي يقودها الجيش الإسرائيلي اليوم ضد لبنان لم تؤد إلى تدمير أو إصابة أي هدف أو موقع عسكري، ما يؤكّد أن لجوء إسرائيل إلى استعمال القوة يهدف إلى تدمير لبنان والقضاء على بنيته التحتية وعلى اقتصاده ويتخطى حدود وأهداف العمليات العسكرية المسموح بها في قانون النزاعات المسلحة.
د – مخالفة موجب تحييد المدنيين في العمليات العسكرية.
يقع هذا الموجب الإلزامي على عاتق الدولة التي تلجأ إلى استعمال القوة العسكرية بحيث يفرض عليها قانون النزاعات المسلحة حماية المدنيين وتحييدهم وذلك باتخاذ الإجراءات الضرورية التي يمكن بموجبها التمييز بين الأهداف العسكرية والأهداف المدنية والتمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين. وتلتزم الدولة التي تختار القوة العسكرية لحل نزاعها مع دولة أخرى أو لصد عدوان ما أو لوضع حد لخطر إرهابي أو لأعمال إرهابية معينة بحماية الأشخاص العاجزين عن القتال أي المقاتلين الذين عجزوا عن القتال بسبب مرضهم أو إصابتهم بجروح أو أسرهم أو لأي سبب آخر يمنعهم من الدفاع عن أنفسهم وعناصر الخدمات الطبية وأفراد الهيئات الدينية، وذلك تطبيقا لنص المادة 12 من اتفاقية جنيف الأولى لتحسين حال الجرحى والمرضى في الميدان ولنص المادة 16 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب. كما يتوجب على القوات المسلحة التي تستخدم القوة العسكرية، عملا بأحكام المادة 21 من اتفاقية جنيف الرابعة، احترام وحماية عمليات نقل الجرحى والمرضى المدنيين والعجزة والنساء التي تجري في البر بواسطة قوافل المركبات وقطارات المستشفى أو في البحر بواسطة سفن مخصصة لهذا النقل. وعلى كل طرف من أطراف النزاع أن يكفل حرية مرور جميع رسالات الأدوية والمهمات الطبية ومستلزمات العبادة المرسلة حصرا إلى سكان مدنيين حتى ولو كانوا تابعين لدولة عدوة. وعليه أيضا الترخيص بحرية مرور أي رسالات من الأغذية الضرورية، والملابس، والمقويات المخصصة للأطفال والنساء الحوامل أو النفاس ( م 23 من اتفاقية جنيف الرابعة). ويكون من واجبات أطراف النزاع اتخاذ التدابير الضرورية لضمان عدم إهمال الأطفال دون الخامسة عشر من العمر الذين تيتموا أو افترقوا عن عائلاتهم بسبب الحرب وتيسير إعالتهم وممارسة طقوس ديانتهم وإيوائهم في بلد محايد طوال مدة النزاع ( م 24 من اتفاقية جنيف الرابعة ).
ويتبيّن من خلال الوقائع الثابتة بالصور والمشاهد التلفزيونية والتقارير الصحافية والأمنية أن القوات الإسرائيلية تنتهك في الحرب التي تشنها على لبنان كل هذه القواعد والأعراف التي تحكم النزاعات المسلحة كونها تستهدف بقصفها العشوائي المدنيين من دون تمييز بين مواقع عسكرية وأخرى مدنية ومن دون التمييز بين مقاتلين وغير مقاتلين وتقوم بضرب الجسور وبقطع كل المواصلات البرية بهدف منع وصول المؤن والأغذية والأدوية إلى المدنيين اللبنانيين المحاصرين. يضاف إلى ذلك أن هذه القوات وبدلا من أن تتخذ إجراءات معينة لتحييد المدنيين من الأطفال والنساء والعجزة ولحمايتهم أو لتسهيل عملية نقلهم إلى مناطق آمنة أو محايدة، راحت تلقي عليهم الأطنان من القنابل وتقطع عنهم المؤن والأغذية وتهجّرهم من منازلهم ومن قراهم ومدنهم وترتكب بحقهم أبشع الجرائم وأخطرها ( جرائم حرب ) التي يعاقب عليها القانون الدولي الجنائي، ما يؤلّف خرقا فاضحا وخطيرا لكل قواعد قانون النزاعات المسلحة أو للقانون الدولي الإنساني.
ه – مخالفة مبدأ تناسب الوسيلة العسكرية المستعملة مع حجم الاعتداء وخطورته.
الكل يسلّم بأن الحرب التي تشنها إسرائيل ضد لبنان تتخطى بمداها وبنوع الأسلحة والوسائل العسكرية المستعملة وكثافة القصف الجوي الذي لجأ إليه الجيش الإسرائيلي في عملياته الحربية ضد المواطنين المدنيين والبنى التحتية وشبكة الاتصالات الهاتفية السلكية واللاسلكية ومحطات البث الإذاعي والتلفزيوني وغيرها، حجم وخطورة العملية العسكرية التي نفذتها المقاومة ضد القوات العسكرية الإسرائيلية والتي كمنت في خطف جنديين إسرائيليين وقتل سبعة جنود آخرين. وهذا ما يخالف مبدأ تناسب الوسائل العسكرية المستعملة مع حجم وخطورة الاعتداء أو الخطر الذي تتعرض له الدولة التي تلجأ إلى استعمال القوة العسكرية. ويقضي هذا المبدأ بعدم الإفراط في استعمال القوة العسكرية ووسائل القتال بحجم لا يتناسب مع خطورة الوضع العسكري أو الصفة العسكرية للهدف المقصود. ومن هذا المنطلق يضع قانون النزاعات المسلحة لزاما على أطراف النزاع ببذل رعاية متواصلة في إدارة العمليات العسكرية من أجل تفادي إلحاق الأذى بالمدنيين وبالامتناع عن اتخاذ قرار بشن هجوم عسكري قد يتوقع منه أن يحدث، بشكل عرضي، خسائر في الأرواح بين المدنيين أو إلحاق الأذى بهم أو بممتلكاتهم. كما أن قواعد قانون النزاعات المسلحة تفرض بأن يلغى أو يعلّق أي هجوم عسكري إذا تبيّن أن الهدف المتوخى من ضربه ليس هدفا عسكريا أو قد ينتج منه، بصورة عرضية، ضرر وخسائر بشرية أو مادية مدنية. وهذا ما تؤكّد عليه المادة 53 من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية المدنيين التي تنص على أنه " يحظّر على دولة الاحتلال أن تدمّر أي ممتلكات خاصة ثابتة أو منقولة تتعلق بأفراد أو جماعات، أو بالدولة أو السلطات العامة، أو المنظمات الاجتماعية أو التعاونية، إلا إذا كانت العمليات الحربية تقتضي حتما هذا التدمير".
ويظهر من خلال طبيعة العمليات الحربية التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي في لبنان إن الوسائل العسكرية التي يستعملها في هذه العمليات لا تتناسب البتة مع خطورة الأعمال التي قامت بها المقاومة ولا حتى مع الوسائل الحربية المستخدمة من قبل هذه المقاومة التي لا تمتلك كالجيش الإسرائيلي كافة الأسلحة والأعتدة الحربية المتطورة ولا الدبابات ولا الطيران الحربي الذي تلجأ إليه إسرائيل بصورة أساسية في هذه المعركة، مما يعتبر خرقا فاضحا لقواعد قانون النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية وخصوصا أن القوات الإسرائيلية، ووفقا لمعلومات صحافية ودولية، لجأت إلى استعمال أسلحة محرّمة دوليا في هذه الحرب ضد المدنيين اللبنانيين ولاسيما منها القنابل الفسفورية والعنقودية.
ثانيا: انتهاك القواعد الأساسية لحقوق الإنسان
تأثر القانون الدولي الإنساني، فيما يتعلق بحماية المدنيين وضحايا الحروب وبأسلوب إدارة العمليات العسكرية، بالصكوك الأساسية المعنية بحقوق الإنسان ولاسيما منها الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان والاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وذلك على أساس أن للإنسان التمتع بحقوقه اللصيقة بآدميته وكرامته البشرية على قدم المساواة في زمن الحرب كما في زمن السلم.
لذلك فان هناك تقارب كبير بين القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، إذ كلاهما يعنى بحماية حق كل إنسان في الحياة والسلامة البدنية والمعنوية والكرامة الإنسانية مهما كانت الظروف. ولكن بحكم طبيعة القانون الدولي الإنساني ( الحد من المعاناة في النزاعات المسلحة)، فان هذا القانون يضم أحكاما أكثر تحديدا وخصوصية لجهة النزاعات المسلحة من تلك الواردة في الاتفاقيات والعهود والمواثيق المتعلقة بحماية حقوق الإنسان عامة. ويذكر هنا على سبيل المثال الأحكام المتصلة بوسائل وأساليب القتال. ورغم التمايز بين قانون النزاعات المسلحة وقانون حقوق الإنسان، هناك تكامل بين المبادئ والقواعد التي يتضمناها وخصوصا لجهة الأهداف المشتركة والأساسية ألا وهي حماية الإنسان في حقوقه الإنسانية أي في حياته وسلامته البدنية وحريته وكرامته الإنسانية ( أ) واتخاذ الإجراءات اللازمة لوضع حد للانتهاكات التي تخرق هذه الحقوق وقانون النزاعات المسلحة، ومحاكمة مرتكبي هذه الانتهاكات وفقا لأحكام القانون الدولي الجنائي ( ب).
أ- الحقوق المحمية
تحقيقا للأهداف السامية المذكورة أعلاه، نصت المادة الثالثة من الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان على أن " لكل فرد الحق في الحياة والحرية وسلامة شخصه". وتحرّم المادة الخامسة من الإعلان ذاته تعريض أي إنسان للتعذيب أو للعقوبات والمعاملة القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة الإنسانية. ويقضي الإعلان أيضا بمعاملة الأشخاص معاملة إنسانية دون أي تمييز قائم على العرق أو الجنسية أو الجنس أو الانتماء السياسي أو المعتقدات الدينية، وخصوصا الأشخاص الذين تشملهم الحماية بموجب القانون الدولي الإنساني أي الأشخاص المحميين بموجب المادة الرابعة من اتفاقية جنيف الرابعة بشأن حماية الأشخاص المدنيين في وقت الحرب. وهذا ما جاء التأكيد عليه في المادة 27 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تنص على أنه " للأشخاص المحميين في جميع الأحوال حق الاحترام لأشخاصهم وشرفهم وحقوقهم العائلية وعقائدهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم. ويجب معاملتهم في جميع الأوقات معاملة إنسانية، وحمايتهم بشكل خاص ضد جميع أعمال العنف أو التهديد، وضد السباب وفضول الجماهير. ويجب حماية النساء بصفة خاصة ضد أي اعتداء على شرفهن، ولاسيما ضد الاغتصاب والإكراه على الدعارة وأي هتك لحرمتهن. ومع مراعاة الأحكام المتعلقة بالحالة الصحية والسن والجنس، يعامل جميع الأشخاص المحميين بواسطة طرف النزاع الذي يخضعون لسلطته، بنفس الاعتبار دون تمييز ضار على أساس العنصر أو الدين أو الآراء السياسية".
وتجدر الإشارة إلى أن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يؤكّد على ما جاء في الإعلان العالمي لشرعة حقوق الإنسان من حيث حماية حق الأشخاص بالحياة وبالسلامة البدنية وبالكرامة الإنسانية، إذ نصت المادة 6-1 منه على أن " لكل إنسان الحق الطبيعي في الحياة، ويحمي القانون هذا الحق، ولا يجوز حرمان أي فرد من حياته بشكل تعسفي". كما جاء في مادته السابعة أنه " لا يجوز إخضاع أي فرد للتعذيب أو لعقوبة أو لمعاملة فظة أو غير إنسانية أو مهينة...". ورغم أن العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية يخوّل للدول في حالات الطوارئ الاستثنائية التي تهدد كيان الدولة الحد من بعض الحقوق، فهو ينص في البند الأول من مادته الرابعة على حصر استعمال هذا الحق ضمن حدود التزامات القانون الدولي الإنساني وشرط أن لا تتنافى الإجراءات المتخذة من قبل الدولة المعنية والتي تحد من حقوق الإنسان مع قواعد القانون الدولي الإنساني وأن لا تتضمن تمييزا على أساس العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الديانة أو الأصل الاجتماعي فحسب.
والى جانب الصكوك الدولية المذكورة أعلاه والتي تعنى بحماية حقوق الإنسان، فان القانون الدولي الإنساني الهادف إلى ضمان معاملة الإنسان في جميع الأحوال معاملة إنسانية في زمن الحرب دون أي تمييز ضار يقوم على العنصر أو اللون أو الدين أو المعتقد أو الجنس أو المولد أو الثروة أو أي معيار آخر، قد تطور بفضل ما يعرف بقانون " جنيف" الذي يضم الاتفاقيات والبروتوكولات الدولية الموضوعة تحت رعاية اللجنة الدولية للصليب الأحمر والتي تهتم أساسا بحماية ضحايا الحرب، وبقانون " لاهاي" الذي يهتم بالنتائج التي انتهت إليها مؤتمرات السلم التي عقدت في عاصمة هولندا ويتناول أساس الأساليب والوسائل الحربية المسموح بها، وكذلك بفضل مجهود الأمم المتحدة لضمان احترام حقوق الإنسان أثناء النزاعات المسلحة والحد من استخدام أسلحة معينة لعدم مراعاتها إنسانية الإنسان.
وبالتأسيس على المبادئ الأساسية الهادفة إلى حماية حقوق الإنسان في زمن الحرب والمنصوص عليها في اتفاقيات جنيف الأربع وفي البروتوكولين الملحقين بهذه الاتفاقيات في العام 1977، يقتضي أن لا تتنافى مقتضيات الحرب مع احترام الذات الإنسانية وينبغي على أطراف النزاع احترام وحماية الحقوق التالية:
احترام مبدأ حصانة الذات البشرية، مما يعني أنه لا يجوز اعتبار الحرب مبررا للاعتداء على حياة من لا يشاركون في القتال أو الذين لم يعودوا قادرين على ذلك.
منع التعذيب بشتى أنواعه، ويتعيّن على الطرف الذي يحتجز رعايا العدو أن يطلب منهم البيانات المتعلقة بهويتهم فقط، دون إجبارهم على ذلك، وأن يعاملهم معاملة إنسانية حسنة ويتيح الفرصة للجنة الدولية للصليب الأحمر زيارتهم والإطلاع على أوضاعهم.
احترام الشرف والحقوق العائلية والمعتقد والتقاليد. وتكتسب الأخبار العائلية أهمية خاصة في القانون الإنساني الذي يوجب تسهيل عملية التواصل بين كافة المدنيين الذين حوصروا في منطقة كانت مسرحا للعمليات العسكرية.
توفير الأمان والطمأنينة وحظر الأعمال الانتقامية والعقوبات الجماعية واحتجاز الرهائن.
منع استغلال المدنيين واستخدامهم لحماية أهداف عسكرية.
حظر النهب والهجومات العسكرية العشوائية والأعمال الانتقامية.
عدم التعرّض للملكية الفردية وعدم قصف المنشآت المدنية والمنازل والممتلكات.
ب-الانتهاكات والإجراءات الواجب اتخاذها لمعاقبتها.
من الثابت أن العمليات العسكرية التي تنفذها إسرائيل ضد لبنان تنتهك كل حقوق الإنسان المشار إليها أعلاه والمنصوص عليها في المواثيق والاتفاقات الدولية المعنية بحماية هذه الحقوق، وهي تحمل بشكل واضح اعتداء على حق المدنيين اللبنانيين بالحياة وبالسلامة المدنية، ذلك أنها تستهدف في الدرجة الأولى المدنيين العزّل والمسالمين والعجزة والنساء والأطفال من دون تمييز. هذا بالإضافة إلى أن الجيش الإسرائيلي لا يتوانى عن استعمال شتى أنواع الأسلحة المدمرة ومنها المحظورة دوليا ضد المدنيين وعن ضرب المنشآت المدنية والبيوت الآمنة وشبكة المواصلات ومحطات التلفزة والإذاعات والصحافيين بشكل عشوائي ومنظّم وبربري، ما يؤسّس اعتداء فاضحا على حق الإنسان في الحياة وفي سلامته البدنية وفي حريته الشخصية بالتنقل دون قيود وبممارسة مهنته أو عمله بحرية. ثم أن الاعتداءات المذكورة تستهدف بصورة خطيرة الذات والكرامة الإنسانية كونها تهدف إلى إذلال الشعب اللبناني وعزله عن محيطه وعن العالم عن طريق دك الطرقات والجسور وشبكة الاتصالات وتجويع المدنيين وقطع الأغذية والأدوية والمساعدات الإنسانية عنهم وتهجير قسم كبير منهم، هذا إضافة إلى مهاجمة المدنيين بالقصف العشوائي والمركّز لقتلهم وترويعهم وإذلالهم، مما يؤلّف انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان وجرائم حرب يعاقب عليها القانون الدولي الجنائي.
إن هذه الاعتداءات والانتهاكات توجب على الأمم المتحدة بأن لا تقف موقف المتفرّج وبأن تقوم باتخاذ الإجراءات اللازمة التي من الواجب تطبيقها في حالات مماثلة وفقا لما ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة وذلك لوضع حد للحالة التي تهدد الأمن والسلم والدوليين. ذلك ان من أولى موجبات مجلس الأمن في الأمم المتحدة هي اتخاذ كل الإجراءات اللازمة من أجل التوصل إلى وقف فعلي للاعتداءات ولإطلاق النار أو على الأقل من أجل دعوة أطراف النزاع إلى الالتزام بوقف فوري لإطلاق النار تطبيقا لنص المادتين 39 و 40 من ميثاق الأمم المتحدة. ولا يجوز لمجلس الأمن أن يستمر في ترك الأمور على حالها وأن يلتزم هذا الصمت المذهل أمام هول المجازر المرتكبة بحق الشعب اللبناني، إذ أن هذا الموقف اللامبالي حتى لا نقول المؤيد للعدوان هو الذي يشجّع دولة إسرائيل على متابعة عملياتها العسكرية العدوانية. فالمادة 40 من ميثاق الأمم المتحدة تحث مجلس الأمن، منعا لتفاقم الوضع الذي يهدد الأمن والسلم الدوليين، على اتخاذ التدابير المؤقتة اللازمة لإيقاف النزاع المسلح أو على الأقل لوضع حد للانتهاكات الخطيرة التي تطال من حقوق الإنسان ومن الأمن الدولي على أن لا يحسب لعدم أخذ المتنازعين بهذه التدابير المؤقتة حسابه. كما لمجلس الأمن أن يتخذ التدابير العقابية اللازمة التي لا تستلزم اللجوء إلى استعمال القوة بحق الطرف الذي يهدد الأمن والسلم الدوليين تطبيقا للمادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة. أما إذا رأى أن هذه التدابير لم تف بالغرض، جاز له أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ الأمن والسلم الدولي. ومن هذا المنطلق، يمكن القول أنه، أمام هول الاعتداءات والانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي الإنساني ولحقوق الإنسان، لم يعد مسموحا لمجلس الأمن الوقوف موقف العاجز عن ضبط الوضع الأمني وعن وضع حد لهذه الحالة العسكرية الخطيرة التي تهدد الأمن والسلم الدولي في المنطقة نزولا عند رغبة بعض الدول الفاعلة في هذه المرجعية الدولية.
هذا من جهة، أما من جهة ثانية فان من واجب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بالنظر إلى فظاعة الانتهاكات الواقعة على القانون الدولي الإنساني وعلى قواعد الحرب، أن تجري اتصالا سريا مع السلطات المسؤولة عن هذه الانتهاكات. وبما أن هذه الانتهاكات جسيمة ومتكررة وحتى منهجية ومنظمة ومؤكدة على وجه اليقين، وبما أن الاتصالات التي أجرتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر لم تساعد حتى الآن في تحسين الوضع، يكون من واجب اللجنة اتخاذ موقف علني تدين فيه هذا الانتهاك الخطير للقانون الدولي الإنساني ولحقوق الإنسان، ذلك أن هذا الإعلان يخدم مصالح الأشخاص المدنيين المتضررين والمهددين في حياتهم بهذه الانتهاكات. هذا ولو كان اللجوء إلى هذا الإجراء يعد أمرا استثنائيا. يضاف إلى ذلك ضرورة مقاضاة مرتكبي هذه الانتهاكات بجرائم حرب وذلك عن طريق ملاحقتهم أمام المحاكم الجزائية الوطنية المعنية أو أمام محكمة جزائية دولية خاصة Ad Hoc على غرار المحكمة الجزائية الدولية الخاصة بيوغسلافيا السابقة والمحكمة الجزائية الدولية الخاصة برواندا. كما يمكن لمجلس الأمن ( م 13 من اتفاقية روما الموقعة بتاريخ 18 تموز 1998 ) طلب ملاحقة ومحاكمة المسؤولين عن هذه الانتهاكات والاعتداءات الخطيرة الواقعة على القانون الدولي الإنساني والتي تستهدف المدنيين اللبنانيين أمام المحكمة الجنائية الدولية الدائمة التي أنشئت بموجب اتفاقية روما بتاريخ 18 تموز سنة 1998 وحيث بدأت العمل في لاهاي ابتداء من أول تموز سنة 2002 على محاكمة الأشخاص الملاحقين بجرائم الحرب وضد الإنسانية وبجرائم الابادة الواقعة بعد هذا التاريخ.
على المجتمع الدولي الذي طالما تغنّى بالديمقراطية وبالحريات وبحقوق الإنسان والذي من واجبه الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين وحماية الإنسانية أن يتحرك فعلا لوقف الحرب التي تشنها إسرائيل على المدنيين اللبنانيين، وأن لا يقف موقف شاهد الزور على هذه الحالة الخطيرة وعلى المجزرة التي يتعرّض لها الشعب اللبناني وأن يبرهن بأن العدالة الدولية ليست رهينة المصالح الدولية وليست خاضعة لعواصم القرار، وإلا فرحمة الله على هذه العدالة الدولية المسيرة وعلى الحقوق والديمقراطيات في العالم وعلى الإنسانية التي تتعرّض لأبشع الاعتداءات والانتهاكات في لبنان.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)